علم الاجتماع القرآني (1)
30 نوفمبر، 2022
1239
لفظة قرآنية مدهشة تجلب العاطفة
﴿وَرَبَائِبُكُمُ﴾ ما سر اختيار هذا اللفظ التربوي الـمُلْهِم دون الوصف القانوني المباشر «بنات زوجاتكم»؟
لقد مضى القرآن في بناء الحياة وبثها على طريقة قويمة من الناحية اللفظية والناحية الدلالية، فمن حيث المعنى تثمر كلماته غيثا منهمرا ومن حيث المبنى ينتقي الألفاظ التي تؤدي أدوارا قوية في العاطفة الإنسانية ومن أمثلة ذلك قوله تعالى {وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ} [النساء: 23]
فقوله تعالى ﴿وَرَبَائِبُكُمُ﴾، الربائب جمع ربيبة وهي ابنة زوجة الرجل من غيره، يقال لها ربيبة لأنه يربيها بنفسه، فتصبح ربيبة له، فهي من التربية، ومعنى كلمة ربيبة فعيلة بمعنى مربوبة لمن رباها وهو زوج أمها، مثل كلمة حبيبة أي محبوبة كذلك ربيبة مربوبة، فمعنى قوله تعالى: ﴿وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ﴾ أي لا يجوز لكم أن تتزوجوا ببنات الزوجة سواء أكانت ابنتها المباشرة أم غير المباشرة، وما سبب قوله: ﴿وَرَبَائِبُكُمُ﴾؟ ما سر اختيار هذا اللفظ التربوي الـمُلْهِم دون الوصف القانوني المباشر «بنات زوجاتكم»؟
يكمن سر الاختيار لهذا المصطلح التربوي المدهش في اطراد الأسلوب القرآني الذي يقتضي توفير المعاني وإكثارها، ففي الوقت الذي يريد الله تثبيت المعنى القانوني في منع نكاح بنت الزوجة، فإنه في الوقت ذاته يريد أن يُلزِم زوج الأم بالاعتناء ببنت الزوجة كما لو أنها ابنته أي بنات أزواجكم اللواتي تقومون بتربيتهن كما تربون بناتكم؛ فإذا تزوج الإنسان بالمرأة وجب أن يُرَبيَ ابنتها في حجره، ولذا قال: ﴿ فِي حُجُورِكُمْ ﴾ والحجور جمع حجر، يجوز أن تفتح الحاء أو تكسر،
والمراد بقوله ﴿فِي حُجُورِكُمْ﴾، كأنه أخذها في حجره أي في حضنه، فالإنسان إذا عطف على طفلٍ يحضنه ويجعله في حضنه، والإقعاد في الحجر دلالة على المحبة عند العرب، وعلى شدة الحرص والحفظ…
إنه جل شأنه يخبرنا عن الوصف القانوني الذي يمنع من الزواج ببنت الزوجة، وينبئنا في الوقت ذاته بضرورة أن تهتموا بتربيتهن كما تهتمون بأولادكم، ومن ذلك أن تقوموا بمعاملتهن بأشد الأوصاف حنانًا كأن تحضنونهن، وتضعونهن في حجوركم، وترغبون في الالتصاق بهن، فلتمتلئ مشاعركم بأن بنت الزوجة مكانتها مثل مكانة أولادكم.. فأشار إلى الأمرين: إلى التربية في قوله: ﴿وَرَبَائِبُكُمُ﴾، وإلى المحبة في قوله: ﴿فِي حُجُورِكُمْ﴾، وإلى العطف والحنان من خلال اللفظين.
لقد جمع الله بين أمرين: تحريم نكاح بنت الزوجة، ووجوب تربيتها التربية الحسنة، فلم يقل بنت الزوجة وإنما قال: ﴿وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ﴾، وهذا من أسلوب القرآن الفريد، وإعجازه البياني المدهش، ففي الآية استدرارٌ شديد لعاطفة زوج الأم.
وعد بنا إلى موضوع التحريم لتجد هنا صفتين: أن تكون بنت الزوجة، وأن تربيها عندك ﴿وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ﴾ (النساء: 23)، فهل يعني ذلك أن هاتين الصفتين لا بد منهما في التحريم؟
فإذا لم يقم الزوج بتربية بنت الزوجة بأن نشأتْ عند أبيها مثلًا أو كانت كبيرة، فهل يجوز الزواج بها؟ وكذلك إذا لم تكن في حجرك، فلم تحسن إليها ولم تجعلها في حضنك.. هل يعنى ذلك أنه لا يحرم الزواج منها؟
الإجابة عن ذلك تجعلنا نعود إلى قاعدة في أصول التفسير تحدثنا عن الفرق بين الصفة الإيضاحية والصفة السببية، وقد فصلت ذلك في كتابي: الأساس في أصول التفسير، ولتطبيق هذه القاعدة نقول:
إن قررنا بأن قوله: ﴿اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ﴾ صفةٌ إيضاحية أي بيان واقع فقط، فإن ذلك يعني: سواء كانت كذلك أم لم تكن فهي محرمة بمجرد كونها بنت الزوجة، وهذا رأي الجمهور، وإذا قلنا بأنها تأسيسية فإن ذلك يعني اعتبار مفهوم المخالفة، فلا بد أن يُشترط في المحرمة من بنات الزوجة أن تكون ربيبة أو في الحجر، فيجوز الزواج بمن لم تتوفر فيها هذه الصفة،
وقد نقل خلافٌ ضعيف بين أهل العلم، فنقل عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أن الصفة تأسيسية، فإن لم تكن الفتاة في حجر زوج الأم جاز الزواج بها، فعن مالك بن أوس بن الحدثان قال: كانت عندي امرأة فتوفيت وقد ولدت لي، فوجدت عليها أي حزنت عليها، فلقيني علي بن أبي طالب فقال: مالك؟ قال توفيت المرأة، فقال علي: لها ابنة،
قال: نعم، وهي بالطائف قال: كانت في حجرك؟ قال: لا! هي بالطائف، قال: فانكحها، قال: فأين قول الله تعالى: ﴿وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ﴾ قال: إنها لم تكن في حجرك، إنما ذلك إذا كانت في حجرك [1]، وعلق ابن كثير على إسناد ابن أبي حاتم فقال: «هَذَا إِسْنَادٌ قَوِيٌّ ثَابِتٌ إِلَى عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ، وَهُوَ قَوْلٌ غَرِيبٌ جِدًّا، وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ دَاوُدُ بْنُ عَلِيٍّ الظَّاهِرِيُّ وَأَصْحَابُهُ، وَحَكَاهُ أَبُو القَاسِمِ الرَّافِعِيُّ عَنْ مَالِكٍ، وَاخْتَارَهُ ابْنُ حَزْمٍ، وَحَكَى لِي شَيْخُنَا الحَافِظُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الذَّهَبِيُّ أَنَّهُ عَرَض هَذَا عَلَى الشَّيْخِ الإِمَامِ تَقِيِّ الدِّينِ ابْنِ تَيْمِيَةَ، فَاسْتَشْكَلَهُ، وَتَوَقَّفَ فِي ذَلِكَ» [2]،
ففهم علي بن أبي طالب رضي الله عنه أن الصفة هنا تأسيسية لابد من توافرها، وبالتالي إذا لم تتوفر يمكن للإنسان أن يتزوج،
والجمهور على أنها إيضاحية لبيان الواقع الغالب، ولا يجوز الزواج من بنات الزوجة مطلقًا، وهذا الذي عليه ابن عباس، فالله جل جلاله أراد أن يضيف لموضوع التحريم زيادة استدرار العطف فذكر كلمة ﴿فِي حُجُورِكُمْ ﴾ للحث على التربية وإضفاء الحنان على بنات الأم، فالمقصود بنات الزوجة مطلقًا، ومما يدل عليه قَوْلُهُ تَعَالَى {فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ} [النساء: 23] فعَلَّقَ رَفْعَ الجُنَاحِ بِمُجَرَّدِ عَدَمِ الدُّخُولِ، وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّ المُقْتَضِيَ لِحُصُولِ الجُنَاحِ هُوَ مُجَرَّدُ الدُّخُولِ، ولِأَنَّهُ تَفْرِيعٌ لِبَيَانِ مَفْهُومِ مَا قُيِّدَ بِهِ التَّحْرِيمُ، فَلَوْ كَانَ الكَوْنُ فِي الحُجُورِ قَيْدًا أَيْضًا لَقَالَ: فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ، أَوْ لَمْ تَكُنْ رَبَائِبُكُمْ فِي حُجُورِكُمْ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُم[3]، والمقصود بالدخول الجماع، وذكر عن عطاء أنه مقدماته.
ذكر تعالى هذين النوعين، ولكنه ذَكَرَ شَرْطًا بعدهما وهو قوله: {مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ} [النساء: 23] هنا ذكر صفة جديدة ولكن في أم البنت..
فتحرم بنت الزوجة إذا تم الدخول بأمها، فقوله: ﴿اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ﴾ إشارة إلى اللقاء الزوجي وهو الجماع، وهنا ينشأ لنا سؤال جديد بنفس الطريقة، وهو: هل لابد من اشتراط الدخول في تحريم الربيبة؟
الجواب واضح لأنه تتمة، فذكره في الآية فقال: {فإن لم تكونوا دخلتم بهن فلا جناح عليكم} أي يجوز الزواج بالربيبة حال عدم الدخول بأمها.
[1] مصنف عبد الرزاق (6 / 278) برقم 1083.
[2] تفسير ابن كثير.
[3] المنار (4/391) .