أجمل صناعة في الحياة
5 فبراير، 2023
516
د. عامر الخميسي
تأملات في قوله تعالى: ﴿ وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي ﴾ [طه: 39]
أوحى الله إلى أم موسى أن تأخذَ طفلَها ووليدها الرضيع، وأن تجعله في تابوت، ثم ترمي به في نهر النيل، يا لجلال الخطاب ورَهبته! وهل تجرؤ أم حنون على ذلك؟ وهل تستطيع أم أن تُقدِم على هذه الخطوات؟ إنه حبيب قلبها، وفلذة كبدها، وهواؤها الذي تتنفَّسه، كأني بها تقبِّله بين الحين والآخر، وتشمه وتضمُّه إلى صدرها، وقد امتلأ قلبُها حبًّا له وتعلقًا به، وهي تفكِّر في أمر الله لها، حالها:
وإن ناله سقمٌ تَمنَّيتُ أنني
فداءٌ له كنتُ السقيمَ المعذَّبا
وأُسدل أجفاني غطاءً يُظلّه
ويا ليتها كانت أحنَّ وأحْدَبا
أخذت الوليد وصنعتْ له تابوتًا وقذفتْه في نهر النيل، قذفته والحب يملأ قلبها، وعواطف الأمومة تجيش بصدرها، وأصبح فؤادها فارغًا؛ أي: خاليًا من ذكر كل شيء في الدنيا إلا من ذكر موسى، أصبح فؤادها فزعًا، أو نافرًا أو ذاهلًا، وقيل: والهًا، قاله سعيد بن جبير، وهو ذهاب العقل، “والمعنى أنها بقيت قلقة عليه، وكاد عقلها يطير من فَرْط الجزع والدهشة، ونحوه قوله تعالى: ﴿ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ ﴾ [إبراهيم: 43]؛ أي: جوفاء لا عقول بها”، حتى لقد كادت تُبدي به وتخرج في الناس هائمة، وتُظهر سرَّها مِن وَلَهِها على وليدها وحبها له، وأن تُعلن أنها قتلت الوليد وقذَفته في النهر، وقيل: إن إبليس جاء يُوسوس إليها أنه لو ذبح الجنود ولدَكِ في بيتك، لكنتِ توارينه وتَسترينه وتُودعينه، كان أحبَّ إليك مما ألقيتِه بيدك إلى حيتان اليم ودوابه”، وتراكَم عليها القلقُ، وبدَت عليها اللوعةُ وأماراتُ الخوف والهلع على رضيعها، لولا أن الله ألهمها الصبرَ، وربط على قلبها: ﴿ وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغًا إِنْ كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلَا أَنْ رَبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ﴾ [القصص: 10]، كيف لا والولد هذا مصنوع بعناية فائقة ليس لها مثيلٌ، والربط هنا التثبيت والتصبير؛ لئلا تبوح بالسر، وما أروعه من ربط!
فالذي ربط هو الله، والمربوط هو قلب تلك الأم الوالهة المحزونة المفجوعة على رضيعها الذي للتوِّ فصَلته عن ثدييها ورمتْ به في النهر.
فأخذت الأمواج ذلك التابوت يعلو تارة وينزل تارةً، تَحفه عناية ملك الملوك، حتى أوصلته إلى قصر فرعون، وكان قصر فرعون على ساحل نهر النيل، ففتَحه الجنود وإذا به فيه طفل كفلقة القمر من بهائه وحُسنه وجماله، والأطفال محبوبون لبراءتهم وجمال طفولتهم حتى يقول الشاعر:
فيا رب حبِّب كلَّ طفلٍ فلا يرى
وإن لَجَّ في الإعنات وجهًا مُقطبَا
وهيِّئ له في كل قلب صبابةً
وفي كل لُقيا مرحبًا ثم مَرحَبَا
فتحه الجنود فأحاطت بهم الدهشة، كيف يكون طفل في تابوت؟!
ولكن هذا الطفل كان كل من رآه أحبَّه، فقد ألقى الله عليه محبة لم يُلقِ مثلها على أحدٍ: “حب من أول نظرة”، والحب من أول نظرة له نكهة خاصة ومذاق خاص وطعم خاص.
ويا لجمال هذا الحب وروعته ونضارته وأَلَقِه، فزارع هذا الحب هو خالقُ الحب في كل قلب؛ قال المفسرون عند تفسير قوله تعالى: ﴿ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي ﴾ [طه: 39]؛ أي: كل من رآك أحبَّك، وقد ألقى الله على موسى محبة عظيمة كائنة منه عز وجل في قلوب عباده، فلا يراه أحد إلا أحبه، وقيل: جعَل عليه سبحة من جمال لا يراه أحدٌ من الناس إلا أحبَّه واستحلاه، ومال قلبه إليه، وتعلَّقت نفسه به.
وقال ابن جرير: المعنى: وألقيت عليك رحمتي، وقيل: المعنى أحببتك؛ ومن أحبه الله أحبَّه الناس، وهفت إليه القلوب، وتعلقت به الأرواح؛ قال ابن عباس: كل من رآه ألقيت عليه منه محبة، وعن سلمة بن كهيل قال: حبَّبتك إلى عبادي.
وقال عكرمة معناه: إني حسَّنتُ خَلقك؛ أي: جعلتُ لك حُسنًا ومَلاحة، وحببتك إلى كلِّ من رآك.
وقيل: إن الله جل ذكره جعل في موسى عليه السلام ملاحة، وذكر ابن الإعرابي عن قتادة في قوله: ﴿ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي ﴾، قال: ملاحة في عينيك، لا يراك أحد إلا أحبك.
وقيل معناه: جبَلت القلوب على محبتك، اختصاصًا لك.
وقوله: “مِنِّي”؛ إما أن يتعلق بـ”أَلْقَيْتُ”، أو يكون صفة للمحبة؛ أي: محبة حاصلة مني، وعلى الوجهين فالمحبة إما محبة الله، ومَن أحبه الله أحبته القلوب، وإما محبة الناس التي زرعها الله في قلوبهم، فقد يُروى أنه كانت على وجهه مسحة جمال، وفي عينيه ملاحة لا يكاد يصبر عنه من رآه، وهذا تلخيص المحبة عند النيسابوري.
إنه لولا هذه المحبة لقتله فرعون عندما وصل إليه؛ لأنه سيتأكد لديه أنه من أطفال بني إسرائيل، قذفوه لعله يقع في يد من يعتني به ويصونه عن القتل لجماله وبهائه، وحُسنه وحلاوته، وكان الحب الذي أُلقي على موسى وهو لا يزال طفلًا سببًا في كفِّ يد فرعون عن قتله، فهو لا يستطيع الكفاح ولا الدفاع عن نفسه، فيَكفيه أنه لديه سلاح الحب الذي زوَّده الله به، وألقاه عليه وغمَره به.
وتخيَّل معي شخصًا أُلقي عليه هذا التكريم، فهو محبوب من أول نظرة؛ أي رِفعة سيتقلَّدها؟ وأي وسام سيناله؟ وأي تكريم سينهال عليه؟
الطفولة محببة لكل القلوب، حتى أطفال الحيوانات تشعر تُجاهها بالشفقة والود والرحمة، فما بالك إذا كان هذا الطفل إنسانًا من بني آدم؟ ثم ما بالك إن كان هذا الطفل كرَّمه الله بتكريم زائد، وهو أن ألقى عليه محبة منه خاصة، فذلك الحب خيار من خيار من خيار؟! براءة الطفولة تبعث الحنان والحب والرأفة.
تود النجومُ الزهر لو أنها دُمى ليختار منها المترفات ويَلعَبا أسرعوا به إلى فرعون فأشار بقتله، ولكن كانت آسية حاضرة المشهد، فقالت: ﴿ وَقَالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لَا تَقْتُلُوهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا ﴾ [القصص: 9]. قرة العين؛ أي: الشيء الذي تقر به العين، وتبتهج وتسر وتفرح، ويزداد رونقها، وتتسع فرحًا، ولربما بكت العين فرحًا لذلك. إن هذا الولد مما تقر به العيون، وتفرح لرؤيته القلوب، لعلنا نصيب منه خيرًا؛ لأني أرى فيه مخايلَ اليُمن ودلائل النجابة، أو نتخذه ولدًا لما فيه من الوسامة وجمال المنظر التي تجعله أهلًا لتبنِّي الملوك له. دخل قلبها من أول نظرة، رأته فأحبَّته وتمنَّت أن لو ظفرت به من بين أنياب الوحوش الكاسرة، واستطاعت بفضل الله أن تقنع فرعون بالعدول عن قراره الأثيم في قتل هذه البراءة، فتَربَّى في قصر فرعون أعتى هذه الأمة وأشدها كفرًا. وتأمل معي هذه الخطوات الشديدة القاسية التي في ظاهرها الشدة وفي باطنها الرحمة: ﴿ أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ ﴾ [طه: 39]. حركات توحي بالقسوة، فهذا طفل رضيع تُشفق عليه أمُّه من مَسيس الرياح، تقذفه في التابوت، ثم تقذف به في اليم، فيُلقيه اليم بالساحل من حركة عنيفة إلى حركة أعنف، ثم عند وصوله الساحل: أيُّ يدٍ ستتلقَّفه؟! ﴿ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ ﴾ [طه: 39]، إنها يد فرعون أشد خصومه وألد أعدائه، وأطغى هذه الأمة وأكفرها بالله! زوَّد ملك الملوك عز وجل هذا المولود الرضيع بسلاح لم يعهده الناس من قبلُ – سلاحًا قويًّا فتاكًا – لدفع الخطر عنه، وهو سلاح (الحب)، وأعظِمْ به من سلاح؛ قال تعالى: ﴿ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي ﴾ [طه: 39]، فملأ الله قلب امرأة فرعون (آسية) بالحب لهذا الطفل، فوقفت حاجزًا دون ذبحه بتدبير الله وقدرته، وحفظه لهذا الطفل. إن قدرة الله جعلتْ من المحبة الهينة اللطيفة درعًا واقيًا ضد أعتى الضربات، وسلاحًا فتاكًا لا يصمد أمامه أحدٌ، ففرعون الطاغية بحرسه وجنوده يقف الآن عاجزًا أمام هذا الرضيع المسلوب من كل قوة المتنقل بين الأحضان كذرة ضعيفة لا يهمه غير لبن أُمِّه. قال ابن كثير في تفسير قوله تعالى: ﴿ وَقَالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لَا تَقْتُلُوهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ ﴾ [القصص: 9]، يعني أن فرعون لَما رآه همَّ بقتله خوفًا من أن يكون من بني إسرائيل، فشرَعت امرأته آسية بنت مزاحم تخاصم عنه وتذبُّ دونه، وتُحببه إلى فرعون، فقالت: قُرة عين لي ولك، فقال فرعون: أما لك فنعم، وأما لي فلا، فكان كذلك، وهداها الله بسببه وأهلكه الله على يديه”؛ ا. هـ. وتأمل معي آسية وقد نصَبت نفسها مدافعًا عنه، تأمَّلها وهي تقدم عذر المنفعة: ﴿ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا ﴾، ثم تُردفه بعذرٍ آخر وهو عذر الولد: ﴿ أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا ﴾؛ لأن فرعون كان عقيمًا يتمنى الولد. فكأن لسان حالها: لعلنا نُصيب منه خيرًا؛ لأني أرى وألْمَح فيه مخايلَ اليُمن، وصفاتِ الحسن، ودلائلَ النَّجابة، أو نتخذه ولدًا لما فيه من مسحة الجمال، فهو أهل لأن يتربى في بيوت الملوك. حبيب الله يتربى في بيت عدو الله! هذا معنى ﴿ وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي ﴾ [طه: 39]. ﴿ وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي ﴾؛ أي: ولتُربَّى وتُغذَّى بمرأى مني، ويُحْسَنُ إليك وأنا مراعيك ومراقبك، كما يراعي الإنسان الشيء بعينه إذا اعتنى به. ﴿ وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي ﴾: “تحت عين فرعون – عدوك وعدوي – وفي متناول يده بلا حارس ولا مانع ولا مدافعٍ. ولكن عينه لا تمتد إليك بالشر؛ لأني ألقيت عليك محبة مني، ويده لا تنالك بالضر وأنت تُصنع على عيني”. فإذا صنعك على عينه ستعيش في قمة الهدوء والسكينة والطمأنينة، حتى إن كنت في عين العاصفة، وإذا صنعتك على عينه ستنعَم بالثبات ورباطة الجأش وقوة القلب، حتى إن كنت في أَوْج المصيبة. لقد صنعه الله صناعة فريدة عجيبة، ولذلك تتبيَّن هذه الصناعة من خلال التحدي الإلهي الكبير لقوة فرعون الطاغية من طفل رضيعٍ لا حول له ولا قوة، إلا مِن قوة الله وحمايته ورعايته ولطفه، فيتحدى الله به جبروت فرعون وعظمته، فقد قتل فرعون آلاف الأطفال الرُّضَّع من أجل العثور على هذا الطفل البريء الموعود الذي سيكون على يديه زوال ملكه ومملكته، فيأتي الله بقدرته وتدبيره بهذا الطفل، ويجعله في متناول يده وبين جنده وحراسه وفي قصره، ولا يستطيع أن يؤذيه، أو حتى يمسَّ شعرة من شعيراته بسوء، فكأن الله يقول لفرعون: سأجعلك تربي وتحرس، وترعى من سيتولى قهرك، ويزيل ملكك. انظر إلى سر الصنعة، وكيف تمت مراحلها لهذا الرضيع: ورد الإعجاز الإلهي بحفظه في اليم من الغرق، ثم بسلامته من حيتان اليم ودوابه، ثم باهتدائه إلى القصر وعدم ذَهابه مع الأمواج المتشعبة بعيدًا إلى المصب، ثم بالربط على قلبها وتثبيته وتصبيره، ثم بحفظه من حرس وجنود فرعون، ثم بتحريم المراضع عليه؛ ليجعلهم يحتارون في أمره ويبحثون له بسرعة فائقة عن مُرضعٍ، وهي مرحلة إعادته إلى أمه؛ لينجز لها الوعد الإلهي، ثم لُقيا أمه به والتقامه لثديها، ثم حراسة فرعون له، وهو الذي سيكون هلاكه على يديه، لتكتمل مراحل هذه الصنعة: ﴿ إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ ﴾ [القصص: 7]، فما أروع هذا التصوير البليغ لهذه الخطوات في قصة صناعة هذا الطفل. ومعنى ﴿ وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي ﴾؛ أي: ولتُربَّى وتكبر وتغذَّى، وتنشأ في هذه الحياة بمرأى مني، ويُحْسَنُ إليك ويُهتَمُّ بك، ويُعتنى بك أشد العناية وأجَلها وأفضلها وأكملها، وأنا مراعيك ومراقبك، كما يراعي الإنسان الشيء بعينه إذا اعتنى به، واهتم أرقى وأعظم اهتمامٍ. ﴿ وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي ﴾؛ أي: “ولتنشأ ولتكبر ولتربَّى، ولتعيش طفلًا ورضيعًا وحابيًا ويافعًا وشابًّا وكهلًا وشيخًا – على علم الله وعنايته ورعايته وحفظه، فكان من تمام رعاية الله أن رُبِّي هذا الوليد وغُذي في بيت عدوه الذي يخاف من قدومه، والذي أمر بذبح الأطفال بسببه، ولكن الله ساقه حيث سيحفَظه عدوه بنفسه”. ﴿ وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي ﴾؛ أي: برعايتي، وبكلاءتي، وبحفظي لك، فقد حفظه الله ورباه أحسن وأجمل وأعظم تربية. إذا تكفَّل أحدٌ بحراستك ورعايتك وإكرامك، وإجزال المثوبة لك، لا شك أن ستشعر بالطمأنينة والسرور والغبطة، فكيف إذا كانت هذه الرعاية وهذا الحفظ من ملك الملوك عز وجل، وتخصيص الله عينه هنا يأتي لإفادة شدة العناية والحفظ والمراقبة، ومن الأمثال العربية التي كان العرب يستخدمونها إذا بعثوا أحدًا واستعجلوه: ((بِعَيْنٍ مَا أَرَيَنَّكَ))؛ أَي: لا تلو على شيء، فنحن ننظر إليك ونحرسك ونرقُبك. يقول النابغة: عهِدتُك ترعاني بِعين بصِيرةٍ وتبعث حراسًا علَيَّ وناظرَا
يقول الطاهر بن عاشور في التحرير والتنوير: “وَالصُّنْعُ: مُسْتَعَارٌ لِلتَّرْبِيَةِ وَالتَّنْمِيَةِ، تَشْبِيهًا لِذَلِكَ بِصُنْعِ شَيْءٍ مَصْنُوعٍ، وَمِنْهُ يُقَالُ لِمَنْ أَنْعَمَ عَلَيْهِ أَحَدٌ نِعْمَةً عَظِيمَةً: هُوَ صَنِيعَةُ فُلَانٍ”؛ ا. هـ.
وهذه اللفظة العجيبة الملفتة للنظر ﴿ وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي ﴾، وقفت عندها مليًّا لأشرحها، فعجَزت، ولا أظن أحدًا من البشر مهما أُوتي من الفصاحة والبلاغة وصنوف البديع – أن يبلغ كُنهها أو يصف محتواها، أو يُحيط بمداها، والله لو نزلتْ عليك عناية الله خصيصًا لحظة واحدة في عمرك، وساعة مفردة في دهرك، لصِرتَ أسعد إنسان في الكون، فكيف بمن سيتقلب عمره كله تحت عناية الله الخاصة به؟ بل كيف بمن سيُصنَع صناعةً تحت عين الله وسمعه وبصره؟ أي كرامة ستحفه؟
وأي بشريات ستنهال عليه؟ وأي قلب سيحمله؟ وأي فرح وأي سعادة وأي بهجة ستنزل عليه؟
إنها الصناعة على عين الله التي لا تعدِلها صناعة في هذا الوجود بأسره، ولذلك يقول الله عز وجل في موطن آخرَ مخاطبًا له مؤكدًا هذا المعنى ﴿ وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي ﴾؛ أي: خالصًا مستخلصًا لي. وهي مرحلة عظيمة كبيرة تَجِلُّ أيضًا عن الوصف، فكما أنك صُنعت وتُصنع على عيني، فأنت مقصود لأن تكون خالصًا مخلصًا لي.
وكم هي المِنن التي امتنَّ الله بها على هذا الرضيع، فقد أنجاه من القتل، وأنجاه من الموت بالذُّبول لترك الرضاعة، ومن الإهمال المفضي إلى الهلاك أو الوهن إذا وَلِيَ تربيته مَن لا يشفق عليه الشفقة الجبِلِّيةَ.
لَمَّا خرج هذا الطفل من التابوت بكى وطلبَ اللبن، وذلك شأنُ كلِّ رضيعٍ، فإنه لا يتكلم بغير البكاء، وفي حال يقظته لا يكاد يفارق ثدي أمه، فهو إما في نوم أو في حجر أمه، فلما بكى وجعل صراخه يَملأ القصر، طلب فرعون له المراضع، فلم يقبل أحدًا منهن، فشق ذلك على فرعون، وأثَّر في نفسه، وأشفق عليه، واغتمَّ له، وقلِق عليه، وجعل يبعث إلى كل مرضعٍ في المدينة، بل أصبح ذلك شغله الشاغل، فكانت المراضع يقبلنَ إلى قصر فرعون ابتغاء الرفعة والمكانة والحظوة، ولكن الطفل مصنوع بصناعة خاصة، فلم يقبل أي مرضع على الإطلاق، عند ذلك، جاءت أخت موسى صلى الله عليه وسلم، فقالت: هل أدلكم على من يرضعه؟ فقيل لها: هاتها، فجاءت بأم موسى، فناولوها إياه، فوضعته في حجرها، فالتقَم ثديها، فطابت نفس فرعون بذلك الصنيع، ومضت به معها إلى بيتها آمنة عليه مما كانت تخافه وتَحذره، وذلك وعد الله لها بأن يرده إليها: ﴿ فَرَجَعْنَاكَ إِلَى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ ﴾ [طه: 40]؛ أي: رددناك إلى أمِّك بعد أن أخذتك الأمواج، ووصلتَ إلى أيدي الذباحين؛ كي تقرَّ عينُها؛ أي: تقر عينها بسلامتك من الذبح والغرق، ولا تحزن عليك، ولا تغتم، ولا يتقطَّع قلبها عليك من الخوف، ومن فرعون أن يقتلك.
لقد ردُّوه إلى أمه ترضعه وتكفله وترعاه؛ لطفًا من الله بها، وصار موسى وأمه كأنهم من أهل بيت فرعون في الأمان من القتل وغيره، وكانت أم موسى تمشي بين الناس وتروح، وتغدو على القصر وكأنها من أهل الملك، وكان موسى على فراش فرعون وسريره عزيزًا قويًّا ممتنعًا، متغذيًا بما يتغذى به الملك، وهذا من بديع لطف الله تعالى، وبديع حكمته، وجمال صنعه.
وفي الأثر الموقوف على ابن عباس وأورده ابن جرير وابن كثير والنسائي أن امرأة فرعون طلبت له الرضاعة، فلم يقبل على ثدي أحد، فغمَّها ذلك حتى أخرجته إلى السوق تطلب له المراضع، فأتت أخته: ﴿ فَقَالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ ﴾ [القصص: 12]، فأخذوها وقالوا: ما نصحهم له؟ هل تعرفونه، فشكوا في ذلك.
قال ابن عباس: وذلك من الفتون، فقالت: نصحهم له وشفقتهم عليه ورغبتهم في القرب من فرعون، ورجاء منفعته، فتركوها، فانطلقت إلى أمه، فجاءت معها، فلما وضعته في حجرها ترامى إلى ثديها حتى امتلأ جنباه، فاستبشرتْ وفرحت آسية، وقالت لها: امكثي عندي لترضعي ابني هذا، فإن لم أحب حبه شيئًا قط، فأبت أم موسى وتعاسرت عليها في القيام عندها، وتذكرت ما وعدها الله من رده عليها، وأن الله منجز وعده، فوافقت على ذهابه معها، فعادت بابنها إلى بيتها، فأنبته الله نباتًا حسنًا”.
إنه لطف الله وعنايته بهذا الرضيع الذي سيُصنع على عين الله تعالى؛ ليُصبح كليمًا له عز وجل ونبيًّا عظيمًا ورسولًا مختارًا من أولي العزم، فأصبحت أم موسى ترضع وليدها، وتستلم أجرة على ذلك، وليست أجرة من جهة عادية، إنما تأتيها الأجرة من قصر فرعون، فأي تكريم هذا؟!
وكانت إذا جاءت به زائرة لقصر فرعون، لم تزل التُّحف والأعطيات والهبات تنهمر عليها وعلى رضيعها منذ خروجها من بيتها إلى رجوعها.
قمة التسخير أن يسخر الله لك عدوك، فيخدمك ويقوم على رعايتك، ويتكفل بك، ويسهر على مصالحك، ويهمه أمرك، فإذا وجه الملك عز وجل بحفظك حفِظك، ولو كنت في بيت عدوك والموت يقطر أحمر على مفرق رأسك، وإذا شاء إهلاكك هلَكت، ولو كنت في عقر دارك وبين أهلك تُضاحك أولادك، والأمن يحفك، وحرسك على بابك.
فتعلَّقْ به وتهيَّأ لعنايته وتعرَّض لحمايته؛ لتجد الأمن رغم المخاوف، ولو كادت لك السماوات السبع ومَن فيهن، والأرض ومن فيهن، وأنت متعلق به، ملتجئ إليه – لجعل الله لك من بينهن فرجًا ومخرجًا، وعشت قرير العين هادئَ البال مطمئن النفس!
وإذا العنايةُ لاحظتْك عيونُها *** نَمْ فالمخاوف كلُّهنَّ أَمانُ
كما حكى الله عن موسى بقوله: ﴿ وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي ﴾، فقد أمر نوحًا بقوله: ﴿ وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا ﴾ [هود: 37]؛ أي: بحفظنا ورعايتنا، فلن يقدر أحدٌ أن يمسَّك بسوء، وكلمة «بأعيننا» تفيد شمول الحفظ، وقوة الحماية، وكمال الرعاية، وخاطب الله سيد الأولين والآخرين بقوله: ﴿ وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا ﴾ [الطور: 48]؛ أي: في حفظنا الذي لا يعدله حفظٌ، وفي جوارنا الذي هو أكرم جوار، وفي كنفنا ورعايتنا، وعلى مرأى منا ومسمع، وفي هذا الخطاب الإلهي الجليل الذي يبعث الطمأنينة، منتهى الإكرام والتأييد.
ربَّى الله موسى ورعاه وصنَعه على عينه، فمع أنه عاش فُتوَّته في بيت فرعون، لكنه لم يتأثر بالجو الديني والأخلاقي الفاسد داخل القصر، وفي مملكة فرعون على السواء، فعناية الله تعالى معه وعين الله تحرسه منذ أن كان رضيعًا في حجر أمه، فقد حفظه عز وجل وسهَّل له سبلًا للنجاة، حفظه في اليم والموج يتلاعب به، وحفظه من الذبح وهو رضيع بين أيدي الجند لا يملِك حولًا ولا قوة، ثم حفظه في قصر فرعون مَن أن يُصاب بلوثة الكفر والأخلاق الفاسدة المنحرفة، ومن أن يزيغ أو يضل، فلم يلِج الكفر قلبه ولا حتى بمقدار ذرة، بل رضع عقيدة التوحيد والإيمان بالله ربًّا وخالقًا مع لبن أمه، كيف لا وقد تعهَّد الله بحفظه بقوله تعالى: ﴿ وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي ﴾، والدليل على ذلك أنه لَمَّا قتل القبطي، وما كان يقصد قتله، التجأ إلى الله مستغفرًا الله، فقال: ﴿ قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي ﴾ [القصص: 16]، ثم استمر في الاستعطاف والدعاء والإنابة: ﴿ قَالَ رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًا لِلْمُجْرِمِينَ ﴾ [القصص: 17].
يظهر هذا جليًّا في قوله: ﴿ عَسَى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السَّبِيلِ ﴾ [القصص: 22]، يقول هذا عندما توجه تلقاء مدين هاربًا من بطش فرعون، فهو عبدٌ منيبٌ لربه، خاضع لمولاه عز وجل.
ويظهر هذا جليًّا، وهو يصل إلى مدين حافيًا جائعًا منهكًا، بعد رحلة قطعها لعدة أيام في الصحاري والقفار والشِّعاب، لا أنيس له إلا الله، فيوجه ذلك النداء الحار بعد أن سقى للفتاتين: ﴿ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ ﴾ [القصص: 24]، فيَمُنُّ الله عليه بالسكن والزوجة والأمان، لكن هذه المرحلة تختلف تمامًا عن مرحلة القصر، إذ فيها رعي الغنم والكد من أجل المهر، والتعب والنصب طول عشر سنوات، وهو يلاحق الأغنام في الشعاب وبطون الأودية بعد النعمة والدلال، وهذا أيضا يندرج تحت: ﴿ وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي ﴾.
ثم يعود فيوحَى إليه ويُصبح رسولًا وينال شرف الرسالة: ﴿ وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى ﴾ [طه: 13]، لقد أصبح الآن في درجة عظيمة من الاصطفاء، ثم بعد مراحل طويلة ينال شرف الاصطفاء: ﴿ قَالَ يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ ﴾ [الأعراف: 144]، فتأمَّل معي أوسمة الشرف التي تقلَّدها موسى:
لقد نال موسى شرف: ﴿ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي ﴾ [طه: 39].
ثم شرف: ﴿ وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي ﴾ [طه: 39].
ثم شرف: ﴿ وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى ﴾ [طه: 13].
ثم شرف: ﴿ قَالَ يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ ﴾ [الأعراف: 144].
وكان أجملُ شيء يختم الله به هذه المنازل العالية وهذه الدرجات السامية – هو حضَّ موسى على الشكر: ﴿ فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ ﴾ [الأعراف: 144].