مقتطفات

كيف تستمتع بالصلاة؟ … حقوق الصلاة الأساسية حسب سورة النساء

أ.د/ عبد السلام المجيدي

حثنا الله تعالى على الاستمتاع الحقيقي بالصلاة؛ لأنها تمنع حالة السكر العقلي المدمر، وتحمي من الوقوع في خطيئة منع الحقوق الإنسانية، وذلك بتعظيم الصلاة وأماكنها، فالصلاة المعظمة من أقوى أسس بث الحياة الإنسانية (النساء:43)

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلَا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا غَفُورًا} [النساء: 43]

للتمكن من الاستمتاع بالصلاة ذكر الله حقوقها الأساسية هنا، وهي:

الحق السادس: التمتع بالصلاة مهما كانت الأحوال، إذ تجد التخفيف في مقدماتها أي في شروطها لأصحاب الأعذار؛ لئلا تفوتهم متعة الصلاة، وبصرنا بذلك قول الله جل ذكره: ﴿وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا غَفُورًا﴾ (النساء:43):

فذكر الله تعالى العلاقة بين حق الصلاة وحق أماكنها الـمخصصة لها، مع حق العباد في التخفيف عنهم عند عدم إمكانية التعظيم الكامل للصلاة ولأماكنها؛ وذلك لتبقى متعة الصلاة قائمة، فلا تسقط عند ظهور عذر العبد في أدائها على الوجه الأكمل..

إن التخفيف في الأصل لمصلحة العباد في عدم حرمانهم من متعة الصلاة لشدة حاجتهم إليها لا لأن الله يحتاجها كما تصوره الأساطير الإغريقية عن آلهتهم الذين يحتاجون إلى صلوات العباد لبقاء قوتهم.. الأمر مختلف، فإن البشرية بأمس الحاجة إلى الصلاة لتستمد قوتها، وقد بين الله سبحانه أن التخفيف بالاكتفاء بالتيمم إذا تعذر الماء أو شق استعماله يتم في أربعة أحوال:

الحال الأول: المرض، ويُبَصِّرُنا به قوله جل ذكره: ﴿وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى﴾ سواء كان المرض بسبب الجروح أو الكسور أو القروح.

قال عبدالرحمن بن زيد بن أسلم العدوي المتوفى سنة 182هـ: المريضُ الذي لا يجد أحدًا يأتيه بالماء، ولا يقدر عليه، وليس له خادم ولا عون، فإذا لم يستطع أن يتناول الماء، وليس عنده من يأتيه به، ولا يحبو إليه، تيمم وصلَّى إذا حلَّت الصلاة. قال: هذا كله قولُ أبي إذا كان لا يستطيع أن يتناول الماء وليس عنده من يأتيه به، لا يترك الصلاة، وهو أعذَرُ من المسافر [1]، والمرض المعتبر الذي يجيز التيمم هو المرض الَّذِي يُخَافُ مَعَهُ مِنِ اسْتِعْمَالِ المَاءِ فواتُ عُضْوٍ أَوْ شَيْنه أَوْ تَطْوِيلُ البُرء كما يقرر ابن كثير.

الحال الثاني: السفر ﴿أَوْ عَلَى سَفَرٍ﴾.

الحال الثالث: إتيان الغائط مع قلة الماء ﴿أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ﴾.

و«الغائط»: ما اتسع من الأودية، فهذه اللفظة من كنايات النزاهة، وجعل كناية عن قضاء حاجة الإنسان؛ لأن العرب كانت تختار الأماكن البعيدة المستترة لقضاء حاجتها، فكنى عن قضاء الحاجة في الغائط بقوله: ﴿أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ﴾.. فلم يقل: إذا عملتم كذا وكذا، بل قال: إذا جئتم من مكان كذا كناية عما تم فيه! ولم يسند الفعل إلى المخاطبين، فلم يقل: أو جئتم من الغائط. بل قال: ﴿أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ﴾ زيادة في أدب الخطاب، ولطف الكناية ليرتفع بأخلاق البشر في مخاطباتهم، وكلامهم فيما بينهم، وليكون هذا الأدب نموذجًا للبشر حين يتخاطبون! ومثل هذا الرقي في الخطاب تراه في اللغة القرآنية الراقية حين يعبر عما يكون بين الرجل والمرأة بقوله: ﴿ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ﴾ والتعبير بالملامسة أرق وأحشم وأرقى- والملامسة قد تكون مقدمة للفعل أو تعبيرًا عنه- وعلى أية حال فهو أدب يضربه الله للناس، في الحديث عن مثل هذه الشؤون عند ما لا يكون هناك مقتض للتعبير المكشوف [2].

الحال الرابع: ملامسة النساء مع قلة الماء بحيث لا يكفي للاغتسال ﴿أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ﴾: وَأَصْلُ اللَّمْسِ المُبَاشَرَةُ بِاليَدِ أَوْ بِشَيْءٍ مِنَ الجَسَدِ، وَقَدْ أُطْلِقَ مَجَازًا وَكِنَايَةً عَلَى التحسس والمعرفة عن كثب: ﴿وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ﴾ (الجِنّ: 8) وَعَلَى النُّزُولِ، قَالَ النَّابِغَةُ:

لِيَلْتَمِسَنْ بِالجَيْشِ دَارَ المُحَارِبِ

واختلف في معنى اللمس، ويعبر عن ذلك سعيد بن جبير فيقول: ذكروا اللمس، فقال ناس من الموالي: ليس بالجماع. وقال ناس من العرب: اللمس الجماع. قال: فأتيت ابن عباس فقلت: إنّ ناسًا من الموالي والعرب اختلفوا في «اللمس»، فقالت الموالي: ليس بالجماع، وقالت العرب: الجماع. قال: من أيّ الفريقين كنت؟ قلت: كنت من الموالي. قال: غُلِب فريق الموالي، إن «المس» و«اللمس»، و«المباشرة» الجماع، ولكن الله يكني ما شاء بما شاء [3].

ويدل لتفسير ابن عباس ما جاء عن عروة عن عائشة: أن النبي قبل بعض نسائه ثم خرج الى الصلاة ولم يتوضأ قلت: من هي إلا أنت؟ فضحكت، وبعد هذه الرواية يبين الترمذي خلاف أهل العلم في مفهوم اللمس، فيقول: وقد روي نحو هذا عن غير واحد من أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم والتابعين، وهو قول سفيان الثوري وأهل الكوفة قالوا: ليس في القبلة وضوء، وقال مالك بن أنس والأوزاعي والشافعي وأحمد وإسحق في القبلة وضوء [4].

ويؤيد ما ذهب إليه مالك ومن معه رأي عبد الله بن عمر في تعميم المعنى الذي تدل عليه الملامسة؛ إذ كان يقول: قبلة الرجل امرأته وجسها بيده من الملامسة فمن قبل امرأته أو جسها بيده فعليه الوضوء [5]. وسبب الاختلاف يعود إلى محاولة تحديد المعنى اللغوي لكلمة (لمس) مع وجود الرواية التطبيقية من النبي صلى الله عليه وسلم ، ويقرر الراغب معنى اللمس فيقول: اللمس إدراكٌ بظاهر البشرة، كالمسّ، ويعبّر به عن الطّلب، كقول الشاعر:

ألام على تبـكّيـه

وأَلْمِسُـهُ فلا أجده

وكيف يلام محزون

كبـير فاته ولـده[6]

ودَخَلَ أبو يونُس عبد الله بن سالِم مَوْلى هُذَيل على المَهدِيّ فَمَدَحَه، فأمَرَ له بخمسةِ آلافِ دِرْهَم، فَفَرَّقَها وقال:

لَمَسْتُ بكَفّي كَفَّهُ أبْتَغي الغِنى

ولم أدْرِ أنَّ الجُـوْدَ من كَفِّه يُعْـدي

فَلا أنـا مِنْهُ ما أفادَ ذَوُو الغِنى

أفَدْتُ، وأعْداني فأتْلَفْتُ ما عِنْدي

وإذا نظرت في القرآن وجدت أن اللمس يطلق على الجس باليد، فقد قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَابًا فِي قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ} [الأنعام: 7] وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِمَاعِزٍ -حِينَ أَقَرَّ بِالزِّنَا يُعرض لَهُ بِالرُّجُوعِ عَنِ الإِقْرَارِ-: «لَعَلَّكَ قَبَّلْتَ أَوْ لَمَسْتَ»، وَفِي الحَدِيثِ الصَّحِيحِ: «وَاليَدُ زِنَاهَا اللَّمْسُ» وَقَالَتْ عَائِشَةُ: قَلّ يَوْمٌ إِلَّا ورسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَطُوفُ عَلَيْنَا، فَيُقَبِّلُ وَيَلْمِسُ. وَمِنْهُ مَا ثَبَتَ فِي الصحيحين: أَنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنْ بَيْعِ المُلَامَسَةِ، كما يطلق اللمس على التطلب مطلقًا كما في قول الله تعالى: {وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَسًا شَدِيدًا وَشُهُبًا} [الجن: 8] ، ومن هنا لعله يمكن الترجيح بأن اللمس المصاحَب بثوران شهوة هو الذي يوجب الوضوء

وتأمل في الآية: ألَمْ يَسْتَغْنِ عَنْ ﴿أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ﴾ بِقَوْلِهِ قبلها ﴿وَلَا جُنُبًا﴾؟

الجواب: لا لِأَنَّ ذَلِكَ ذُكِرَ فِي مَعْرِضِ الأَمْرِ بِالِاغْتِسَالِ، وَهَذَا ذُكِرَ فِي مَعْرِضِ الإِذْنِ بِالتَّيَمُّمِ الرُّخْصَةِ، وَالمَقَامُ مَقَامُ تَشْرِيعٍ يُنَاسِبُهُ عَدَمُ الِاكْتِفَاءِ بِدَلَالَةِ الِالتِزَامِ [7]، وبعد ذكر الأحوال الأربعة التي توجب الطهارة الصغرى أو الكبرى بين الله جواز الاكتفاء بالتيمم فقال: ﴿ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ﴾ (النساء: 43)، ولكنه قيد هذه الرخصة بعدم وجود الماء.. والآية فيها مجال واسع للتدبر لنصل إلى هدى الله فيها، فقيد «عدم وجود الماء» على ماذا يرجع من هذه الأحوال الأربعة؟

لنسمع الشوكاني يبين ذلك فيقول: «هذا القيد إن كان راجعًا إلى جميع ما تقدم مما هو مذكور بعد الشرط وهو المرض والسفر والمجيء من الغائط وملامسة النساء كان فيه دليل على أن المرض والسفر بمجردهما لا يسوغان التيمم بل لابد مع وجود أحد السببين من عدم الماء، فلا يجوز للمريض أن يتيمم إلا إذا لم يجد الماء ولا يجوز للمسافر أن يتيمم إلا إذا لم يجد ماء، ولكنه يشكل على هذا أن الصحيح كالمريض إذا لم يجد الماء تيمم، وكذلك المقيم كالمسافر إذا لم يجد الماء تيمم، فلا بد من فائدة في التنصيص على المرض والسفر فقيل: وجه التنصيص عليهما أن المرض مظنة للعجز عن الوصول إلى الماء، وكذلك المسافر عدم الماء في حقه غالب.

وإن كان راجعًا إلى الصورتين الأخيرتين أعني قوله: ﴿ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ ﴾ كما قال بعض المفسرين كان فيه إشكال، وهو أن من صدق عليه اسم المريض أو المسافر جاز له التيمم وإن كان واجدًا للماء قادرًا على استعماله. وقد قيل: إنه رجع هذا القيد إلى الآخرين مع كونه معتبرا في الأولين لندرة وقوعه فيهما»، ويرد الشوكاني هذا الرأي الثالث ردًا قويًا، فيقول: وأنت خبير بأن هذا كلام ساقط وتوجيه بارد. وقال مالك ومن تابعه: «ذَكَر الله المرض والسفر في شرط التيمم اعتبارًا بالأغلب في من لم يجد الماء بخلاف الحاضر؛ فإن الغالب وجوده، فلذلك لم ينص الله سبحانه عليه».

والظاهر أن المرض بمجرده مسوغ للتيمم إن كان الماء موجودا إذا كان يتضرر باستعماله في الحال أو في المآل ولا يعتبر خشية التلف؛ فالله سبحانه يقول: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ} [البقرة: 185] ﴾، ويقول {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ } [الحج: 78] ، والنبي يقول: «الدين يسر» ويقول: «يسروا ولا تعسروا» وقال: «قتلوه قتلهم الله» ويقول: «أمرت بالشريعة السمحة» [8]

وقد رجح محمد صديق حسن خان أَنْ قَيْدَ عَدَمِ الوُجُودِ رَاجِعٌ إِلَى قَوْلِهِ: ﴿أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ﴾، فَتَكُونُ الأَعْذَارُ ثَلَاثَةً: السَّفَرَ، وَالمَرَضَ، وَعَدَمَ الوُجُودِ فِي الحَضَرِ، وَهَذَا ظَاهِرٌ عَلَى قَوْلِ مَنْ قَالَ: إِنَّ القَيْدَ إِذَا وَقَعَ بَعْدَ جُمَلٍ مُتَّصِلَةٍ كَانَ قَيْدًا لِآخِرِهَا، وَأَمَّا مَنْ قَالَ: إِنَّهُ يَكُونُ قَيْدًا لِلْجَمِيعِ إِلَّا أَنْ يَمْنَعَ مَانِعٌ فَكَذَلِكَ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ قَدْ وُجِدَ المَانِعُ هَاهُنَا مِنْ تَقْيِيدِ السَّفَرِ وَالمَرَضِ بِعَدَمِ الوُجُودِ لِلْمَاءِ، وَهُوَ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عُذْرٌ مُسْتَقِلٌّ فِي غَيْرِ هَذَا البَابِ كَالصَّوْمِ، وَيُؤَيِّدُ هَذَا أَحَادِيثُ التَّيَمُّمِ الَّتِي وَرَدَتْ مُطْلَقَةً وَمُقَيَّدَةً بِالحَضَرِ، ونقله محمد رشيد رضا في تفسير المنار مقرًا له إلا أنه أكد على أن الاحتياط الأَخْذُ بِالعَزِيمَةِ وَعَدَمُ تَرْكِ الطِّهَارَةِ بِالمَاءِ إِلَّا لِمَشَقَّةٍ شَدِيدَةٍ [9].

أ.د/ عبد السلام المجيدي

مفصل تفسير سورة النساء


[1] تفسير الطبري ت شاكر (8/ 387).

[2] في ظلال القرآن2/671.

[3] تفسير الطبري ت شاكر (8/ 389).

[4] سنن الترمذي (1 / 133).

[5] الموطأ – رواية يحيى الليثي (1 / 43).

[6] المفردات للراغب ص747.

[7] التحرير والتنوير (5/ 67).

[8] تفسير فتح القدير (1/ 471).

[9] انظر: الروضة الندية شرح الدرر البهية لصديق حسن خان1/56، وتفسير المنار5/105.