علم الاجتماع القرآني.. ما الأسس التي تحدد لنا الصنف الذي يمنع الإنسانية من حقوقها، ويحارب الإدارة الراشدة، ويحرص على تدمير البشرية باللغو في الرسالة الإلهية؟
18 مارس، 2023
383
بعد ذكر الحقوق الإنسانية العامة والخاصة يذكر الله تعالى في المحور الرابع من سورة النساء
تعريفا بالصنف القيادي الأول الذي يمنع الإنسانية من حقوقها، ويحارب الإدارة الراشدة، ويحرص على تدمير البشرية باللغو في الرسالة الإلهية (النساء:44-46)
آيات هذا القسم:
﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يَشْتَرُونَ الضَّلَالَةَ وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ (44) وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِأَعْدَائِكُمْ وَكَفَى بِاللَّهِ وَلِيًّا وَكَفَى بِاللَّهِ نَصِيرًا (45) مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْنًا فِي الدِّينِ وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنَا لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَقْوَمَ وَلَكِنْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا﴾ (النساء:44-46).
حدد الله لنا الصنف القيادي الذي يتلاعب بحقوق الناس تحديدًا دقيقًا من خلال ذكر أهدافه وجنسه وصفاته، ويمكن أن نجمع هذه المعالم التي تشكل تفصيلًا مبينًا لهذا الصنف في الأسس الآتية، منها:
الأساس الثامن:
ليس جميع الذين هادوا يعبثون بالحقوق البشرية، ويقومون بعملية الإضلال العالمي، بل الصنف المقصود هم الذين وصفهم الله بقوله: ﴿ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ ﴾.
فهذا هو العمل الأول من أهم أعمال قيادات الضلالة والإضلال من الذين هادوا:
فيقومون بهذه الخطوة الكاذبة الخاطئة لتكتمل عملية الضلال والإضلال، فهم لما فقدوا كتاب موسى وجدت عندهم قراطيس متفرقة فأظهروا منها ما أظهروا ولفقوا بينها فجاء الخلط والتكرار.
ويظهر أن من أهم ما أخفوه اسم النبي الخاتم ليتحكموا في طريقة التعامل معه لو ظهر اتباعًا وامتناعًا، وترجع أنواع التحريف الذي قاموا به في كلام الله إلى ثلاثة أنواع:
الأول: تحريف التبديل: فكَانُوا يُبَدِّلُونَ اللَّفْظَ بِلَفْظٍ آخَرَ، وربما بدلوا عبارات بأكملها تبعًا لأهوائهم، وذكر الله ذلك عنهم صراحة في القرآن والكتاب المقدس، أما في القرآن ففي قوله جل ذكره: {فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} [البقرة: 79].
ولقد بلغ التحريف حدًا منافيًا للرسالات الإلهية، فإن من ثوابت كلام الله ألا تزر وازرة وزر أخرى، فماذا تقول عندما تجد نصًا يخطئ فيه حام، فيلعن نوحٌ عليه السلام أحفاده بسبب خطأ ارتكبه ابنه، ونوحٌ نبي من أولي العزم صبر على قومه نحو ألف سنة، ولم يصبر على ابنه في خطأ بل إن عقيدة الشعب المختار واستباحة الفلسطينيين غرست هذا النص الغريب في سفر التكوين9:
(20وَابْتَدَأَ نُوحٌ يَكُونُ فَلاَّحًا وَغَرَسَ كَرْمًا. 21وَشَرِبَ مِنَ الخَمْرِ فَسَكِرَ وَتَعَرَّى دَاخِلَ خِبَائِهِ. 22فَأَبْصَرَ حَامٌ أَبُو كَنْعَانَ عَوْرَةَ أَبِيهِ، وَأَخْبَرَ أَخَوَيْهِ خَارِجًا. 23فَأَخَذَ سَامٌ وَيَافَثُ الرِّدَاءَ وَوَضَعَاهُ عَلَى أَكْتَافِهِمَا وَمَشَيَا إِلَى الوَرَاءِ، وَسَتَرَا عَوْرَةَ أَبِيهِمَا وَوَجْهَاهُمَا إِلَى الوَرَاءِ. فَلَمْ يُبْصِرَا عَوْرَةَ أَبِيهِمَا. 24فَلَمَّا اسْتَيْقَظَ نُوحٌ مِنْ خَمْرِهِ، عَلِمَ مَا فَعَلَ بِهِ ابْنُهُ الصَّغِيرُ، 25فَقَالَ: «مَلعُونٌ كَنْعَانُ! عَبْدَ العَبِيدِ يَكُونُ لإِخْوَتِهِ». 26وَقَالَ: «مُبَارَكٌ الرَّبُّ إِلهُ سَامٍ. وَليَكُنْ كَنْعَانُ عَبْدًا لَهُمْ. 27لِيَفْتَحِ اللهُ لِيَافَثَ فَيَسْكُنَ فِي مَسَاكِنِ سَامٍ، وَليَكُنْ كَنْعَانُ عَبْدًا لَهُمْ).
هل هذا يصدر عن نبي؟ وفي سفر التكوين أن أبناء حام أربعة: كوش ومصرام وفوط وكنعان، فلم خص كنعان الذي لا ذنب له مع نوح؟
النوع الثَّانِي: تحريف التأويل: فلا يغيرون اللفظ ولكنهم يتلاعبون بالمعنى،
النوع الثالث: تحريف الألفاظ والمصطلحات التي تنصر العدل في الإنسانية، فلم يخصص ﴿ الْكَلِمَ ﴾ بأنه كلم الله، فيدخل فيه كل كلم، وإن كان كلام الله يدخل ابتداء، فمن خلال النوعين السابقين يقومون بإِلْقَاء الشُّبَهِ المجرمة المخربة، وَالتَّأْوِيلَاتِ الفَاسِدَةِ، وَيصرفون اللَّفْظِ عَنْ مَعْنَاهُ الحَقِّ إِلَى مَعْنًى بَاطِلٍ بِوُجُوهِ الحِيَلِ اللَّفْظِيَّةِ، كَمَا يَفْعَلُهُ أَهْلُ البِدْعَةِ فِي زَمَانِنَا هَذَا بِالآيَاتِ المُخَالِفَةِ لِمَذَاهِبِهِمْ [1].
ومما جاء في التوراة مما يقارب ما في القرآن عن هذا العمل السيء:
في سفر التثنية تجد أن موسى لقب بني إسرائيل بأصحاب الرقاب الصلبة، وجاء فيه ما يشبه التصريح بتعرض الكتاب للتحريف، فمن ذلك ما جاء في سفر التثنية 31إشارة إلى هذا العمل الخطير الذي قاموا به في التحريف:
24 فعندما كمل موسى كتابة كلمات هذه التوراة في كتابٍ إلى تمامها. 25 أمر موسى اللاويين حاملي تابوت عهد الرب قائلًا: 26 خذوا كتاب التوراة هذا، وضعوه بجانب تابوت عهد الرب إلهكم؛ ليكون هناك شاهدًا عليكم.
27 لأني أنا عارف تمردكم ورقابكم الصلبة، هو ذا وأنا بعد حي معكم اليوم، قد صرتم تقاومون الرب، فكم بالحري بعد موتي. 28 اجمعوا إلي كل شيوخ أسباطكم وعرفائكم؛ لأنطق في مسامعهم بهذه الكلمات، وأشهد عليهم السماء والأرض. 29 لأني عارف أنكم بعد موتي تفسدون، وتزيغون عن الطريق الذي أوصيتكم به، ويصيبكم الشر في آخر الأيام؛ لأنكم تعملون الشر أمام الرب؛ حتى تغيظوه بأعمال أيديكم. 30 فنطق موسى في مسامع كل جماعة اسرائيل بكلمات هذا النشيد الى تمامه. 32: 1 أنصتي أيتها السماوات فأتكلم، ولتسمع الأرض أقوال فمي 2 يهطل كالـمطر (كالغيث) تعليمي، ويقطر كالندى كلامي، كالطل على الكلأ، وكالوابل على العشب. 3 إني باسم الرب أنادي أعطوا عظمة (تعظيمًا) لإلهنا.
وقد ذكر الشيخ رَحْمَة اللهِ الهِنْدِيِّ – رحمه الله تَعَالَى- في كتابه الفريد إِظْهَار الحَقِّ، مِائَةَ شَاهِدٍ عَلَى التَّحْرِيفِ اللَّفْظِيِّ وَالـمعْنَوِيِّ فِيهَا.
ثم أخبر عن موت موسى عليه السلام فقال:
34: 4 وقال له الرب: هذه هي الأرض التي أقسمت لإبراهيم وإسحق ويعقوب قائلًا: لنسلك أعطيها قد أريتك إياها بعينيك ولكنك إلى هناك لا تعبر.
34: 5 فمات هناك موسى عبد الرب في أرض مواب حسب قول الرب.
34: 6 ودفنه في الجواء في أرض مواب مقابل بيت فغور ولم يعرف إنسان قبره إلى هذا اليوم .
فهذا من التحريف الواضح للكتاب الذي أنزله الله يبين تداخل ما أنزله الله مع ما عبث البشر فيه، ونجد في سفر الملوك الثاني هذا النص:
22: 8 فقال حلقيا الكاهن العظيم لشافان الكاتب: قد وجدت سفر الشريعة في بيت الرب وسلم حلقيا السفر لشافان فقرأه
فهل المراد أن سفر الشريعة ضاع ثم وجد، وكيف كان بنو إسرائيل في فترة ضياعه يفعلون؟
ولكن السؤال الذي تثيره الكلمات المحكمة للآية: لماذا قال الله: ﴿ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ ﴾، ولم يقل: يحرفون التوراة أو يحرفون كلام الله؟
هذا التعبير الدقيق هنا يعطي معاني غير المعاني التي نستلهمها من قوله تعالى: {وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [البقرة: 75] ؛ إذ هذا الموضع من سورة البقرة ينص على تحريفهم لكلام الله، فذهب مجاهد إلى أن المراد بالكلم التوراة، فقال: تبديل اليهود التوراة[2] .
والأصل في التفسير عدم التكرير، فلا بد أن نفهم من هذا الموضع في سورة النساء أمورًا أخرى، فمن ذلك:
يدخل كل كلام صالح من كلام الله أو من كلام البشر حرفوه وأمالوه عن موضعه، فالعبارة القرآنية واضحة ﴿ الْكَلِمَ ﴾، وذلك أعم من التوراة، فيدخل في هذه الكلمة كل كلام حق حرف عن مواضعه، خذ نموذجًا لذلك كلمات مثل العدالة والسلام يجعلهما مجانين نبوءة هرمجدون ستارًا لكل جرائمهم التي يؤسسونها في حياتهم وتبقى بعد موتهم من مؤامراتهم على هذه الأرض، وربما هذا ما جعل «ألبرت آل غور» نائب كلينتون يقول: (بمناسبة خمسين عامًا على قيام الكيان الصهيوني، وبنبرة مألوفة من المسؤولين في الولايات المتحدة): «يشعر الأمريكيون بأن الوشائج التي تربطنا بإسرائيل أبدية، لقد مضى مؤسسو دولتنا مثلما مؤسسو دولتكم، ردحًا من الزمن في التيه بحثًا عن صهيون جديد، وكان كفاحنا، مثل كفاحكم، مع الإلهي والبشري، وقد قال لنا أنبياؤنا، وأنبياؤكم إن لديهم حلمًا، وأهابوا بنا بحلمهم، إلى هذا الكفاح من أجل العدالة والسلام» !!
فهل سرقة ثروات الشعوب والعيش على خيراتها هي العدالة، والسلام؟ هل العدالة، والسلام في إبادة الشعوب، سواء أكانوا من الفلسطينيين أم من الهنود الحمر؟
وأي إله ذلك الذي يرضى بالدمار النووي، والفرح بانتشار الاغتصاب، وبيع السلاح على ذئاب البشر، ومنع الضحية من الدفاع عن نفسه.. فقط إرضاء لأسوأ أنواع العنصرية، وجريًا وراء الأكاذيب التي يتحدث عنها مجانين النبوءات الخرافية الدائرة حول نص محرف لاغتصاب الحقوق والعيش على خيرات الشعوب.
أ.د/ عبد السلام المجيدي
مفصل تفسير سورة النساء
[1] تفسير الرازي (10/ 93).
[2] تفسير الطبري ت شاكر (8/ 432).