المقالات

ما أسس الإدارة الراشدة التي تضمن أداء الحقوق الإنسانية إلى أصحابها؟

أدار الله سورة النساء على بيان حق الجنس الإنساني في الاستقرار والانتشار، ولذا لا بد أن يقيم أفراده الحقوق الإنسانية المختلفة المتبادلة، وذكر تعالى شأنه في القسمين السابقين الدور الخطير الذي يمارسه الصنف القيادي الذي يشتري الضلالة ويهدف إلى إضلال العالم؛ ليحرم الإنسانية من حقوقها.. وحتى لا تظن أن مسألة الحقوق الإنسانية مجرد كلامٍ ديني عاطفي جاء هذا القسم الإداري الدستوري لتجد فيه أن الله جل مجده أنزل إلى البشرية آيتين مركزيتين في السورة (النساء:58-59) تبينان الأسس الدستورية والتشريعية للإدارة الراشدة التي يجب إنشاؤها لتوصل الحقوق إلى الإنسانية، حتى يمكن للعالم أن يستوفي حقوقه.

ومن هذه الأسس:

الأساس الخامس: الشورى.

 فالأَمْرُ الـمشَارُ إِلَيْهِ في قوله ﴿وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ﴾ هو ذاته الأمر فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} [الشورى: 38]، والصفات العامة التي يجب توفرها في كل هذه الوظائف أربع، ذكرت في قوله: {إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ} [القصص: 26]، {قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ} [يوسف: 55].

فالأمور العامة في قضايا الأمن الاقتصادي والسياسي والاجتماعي والثقافي لا بد فيها من الشورى الحقيقية، وكذلك من يتولاها، ولذا وجب اختيار الأكفاء من العلماء والأمراء والأكفاء في المجالات المختلفة ليكونوا مجلس أهل الحل والعقد، وأهم الصفات التي ينبغي توافرها فيهم الصفات الأربع: القوي الأمين الحفيظ العليم، وجميعهم يخضعون لسلطة الكتاب والسنة، ويقوم العلماء المؤهلون بعملية الاستنباط من الكتاب والسنة في مسائل الأمن أو الخوف أي مسائل السلم والحرب، والبناء والإعمار، وحل مشاكل البلاء والبوار، وقد ذكر الله ذلك بدقة واضحة لا لبس فيها فقال : {وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا } [النساء: 83]، وبوب البخاري: باب قَوْلِ اللهِ تَعَالَى: {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ}.

ثم قال: «{وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ} [آل عمران: 159] وَأَنَّ المُشَاوَرَةَ قَبْلَ العَزْمِ وَالتَّبَيُّنِ لِقَوْلِهِ: {فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ} فَإِذَا عَزَمَ الرَّسُولُ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَكُنْ لِبَشَرٍ التَّقَدُّمُ عَلَى اللهِ وَرَسُولِهِ، وَشَاوَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَصْحَابَهُ يَوْمَ أُحُدٍ فِي المُقَامِ وَالخُرُوجِ، فَرَأَوْا لَهُ الخُرُوجَ، فَلَمَّا لَبِسَ لأْمَتَهُ وَعَزَمَ قَالُوا: أَقِمْ، فَلَمْ يَمِلْ إِلَيْهِمْ بَعْدَ العَزْمِ وَقَالَ: «لاَ يَنْبَغِي لِنَبِيٍّ يَلْبَسُ لأْمَتَهُ فَيَضَعُهَا حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ»، وَشَاوَرَ عَلِيًّا وَأُسَامَةَ فِيمَا رَمَى أَهْلُ الإِفْكِ عَائِشَةَ، فَسَمِعَ مِنْهُمَا حَتَّى نَزَلَ القُرْآنُ فَجَلَدَ الرَّامِينَ وَلَمْ يَلْتَفِتْ إِلَى تَنَازُعِهِمْ، وَلَكِنْ حَكَمَ بِمَا أَمَرَهُ اللَّهُ، وَكَانَتِ الأَئِمَّةُ بَعْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يَسْتَشِيرُونَ الأُمَنَاءَ مِنْ أَهْلِ العِلْمِ فِي الأُمُور المُبَاحَةِ لِيَأْخُذُوا بِأَسْهَلِهَا فَإِذَا وَضَحَ الكِتَابُ، أَوِ السُّنَّةُ لَمْ يَتَعَدَّوْهُ إِلَى غَيْرِهِ اقْتِدَاءً بِالنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَكَانَ القُرَّاءُ أَصْحَابَ مَشُورَةِ عُمَرَ كُهُولًا كَانُوا، أَوْ شُبَّانًا، وَكَانَ وَقَّافًا عِنْدَ كِتَابِ اللهِ عزَّ وجلَّ» [1].

ومجلس أهل الحل والعقد الذي يتكون في أصله من (العلماء، والخبراء) يختارون السلطات التنفيذية، ويتفقون على إيجاد السلطة القضائية التي تكون مستقلة في ميزانيتها، ويشترط في أصحابها العلم المؤصل يأَنْ يَكُونوا عَالِمين بِالكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالمَصَالِحِ العَامَّةِ ليفصلوا في قضايا النزاع لا بالأهواء بل بالرجوع إلى الكتاب والسنة، فالفارق بين القوانين البشرية الوضعية والقوانين الإسلامية أن المرجعية الحاكمة عندنا هي الكتاب والسنة، فلا تجوز عبادة الأكثرية بل يجب أن يرجعوا إِلَى الكِتَابِ وَالسُّنَّةِ ويعرضون المستجدات عَلَى أُصُولِهِمَا وَقَوَاعِدِهِمَا، فالأَكْثَرِيَّةُ لَا تَسْتَلْزِمُ الحَقِّيَّةَ وَالإِصَابَةَ فِي الحُكْمِ، فالنَّبِيّ صلى الله عليه وسلم رَجَّحَ فِي أُحُدٍ رَأْيَ الأَكْثَرِينَ مُخَالِفًا لِرَأْيهِ، وَرَجَّحَ فِي بَدْرٍ الرَّأْيَ المُوَافِقَ لِرَأْيِهِ وَلَمْ يَكُنْ هُنَاكَ أَكْثَرِيَّةٌ ظَاهِرَةٌ [2].

ولا ينبغي أن يوجد تنازعٌ في المسائل الدينية المحضة لأن المرجع فيها هو النص، وما لم يرد فيه نص وسعه الخلاف في النظر بعد الرد إلى أصلٍ معتبر، وإنما النزاع في المسائل الدينية ذات الصبغة الدنيوية مما لم يرد فيه نص ظاهر وتجاذبتها الأدلة، واختلف النظر في المصالح الموافق للشريعة.

والشورى تقتضي الرقابة العليمة على السلطة التنفيذية.. لقد كان ذلك أمرًا بديهيًا في العهود الزاهرة، فقد دَخَلَ أَبُو مُسْلِمٍ الخَوْلَانِيُّ عَلَى مُعَاوِيَةَ، فَقَالَ: السَّلَامُ عَلَيْكَ أَيُّهَا الأَجِيرُ، فَقَالُوا: قُلِ السَّلَامُ عَلَيْكَ أَيُّهَا الأَمِيرُ، فَقَالَ: السَّلَامُ عَلَيْكَ أَيُّهَا الأَجِيرُ، فَأَعَادُوا قَوْلَهُمْ وَأَعَادَ قَوْلَهُ، فَقَالَ مُعَاوِيَةُ: دَعُوا أَبَا مُسْلِمٍ فَإِنَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُ، وَنَظَمَ ذَلِكَ أَبُو العَلَاءِ المَعَرِّي فَقَالَ:

مُـلَّ المُقَامُ فَـكَمْ أُعَـاشِرُ أُمَّةً

أَمَـرَتْ بِغَيْرِ صَـلَاحِهَا أُمَـرَاؤُهَـا

ظَلَمُوا الرَّعِيَّةَ وَاسْتَجَازُوا كَيْدَهَا

فَـعَدَوْا مَصَـالِحَهَا وَهُمْ أُجَـرَاؤُهَا

أنموذج راشدي لكيفية التعامل مع الـمسائل الـمتنازع فيها:

عَنْ مَيْمُونِ بْنِ مِهْرَانَ، قَالَ: كَانَ أَبُو بَكْرٍ إِذَا وَرَدَ عَلَيْهِ خَصْمٌ نَظَرَ فِي كِتَابِ اللَّهِ، فَإِنْ وَجَدَ فِيهِ مَا يَقْضِي بِهِ، قَضَى بِهِ بَيْنَهُمْ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ فِي الكِتَابِ، نَظَرَ هَلْ كَانَتْ مِنَ النَّبِي صلى الله عليه وسلم فِيهِ سُنَّةٌ، فَإِنْ عَلِمَهَا، قَضَى بِهَا، وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ، خَرَجَ فَسَأَلَ الـمسْلِمِينَ، فَقَالَ: أَتَاني كَذَا وَكَذَا، فَنَظَرْتُ فِي كِتَابِ اللَّهِ، وَفِي سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَلَمْ أَجِدْ فِي ذَلِكَ شَيْئًا، فَهَلْ تَعْلَمُونَ أَنَّ نَبِي اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، قَضَى فِي ذَلِكَ بِقَضَاءٍ، فَرُبَّمَا قَامَ إِلَيْهِ الرَّهْطُ، فَقَالُوا: نَعَمْ، قَضَى فِيهِ بِكَذَا وَكَذَا، فَيَأْخُذُ بِقَضَاءِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ جَعْفَرٌ: وَحَدَّثَنِي غَيْرُ مَيْمُونٍ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ كَانَ يَقُولُ عِنْدَ ذَلِكَ: الحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي جَعَلَ فِينَا مَنْ يَحْفَظُ عَنْ نَبِيِّنَا صلى الله عليه وسلم، وَإِنْ أَعْيَاهُ ذَلِكَ، دَعَا رُؤوسَ الـمسْلِمِينَ وَعُلَمَاءَهُمْ، فَاسْتَشَارَهُمْ، فَإِذَا اجْتَمَعَ رَأْيُهُمْ عَلَى الأَمْرِ، قَضَى بِهِ، قَالَ جَعْفَرٌ: وَحَدَّثَني مَيْمُونٌ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الخَطَّابِ  كَانَ يَفْعَلُ ذَلِكَ، فَإِنْ أَعْيَاهُ أَنْ يَجِدَ فِي القُرْآنِ وَالسُّنَّةِ، نَظَرَ هَلْ كَانَ لأَبِي بَكْرٍ فِيهِ قَضَاءٌ، فَإِنْ وَجَدَ أَبَا بَكْرٍ  قَدْ قَضَى فِيهِ بِقَضَاءٍ، قَضَى بِهِ، وَإِلاَ دَعَا رُؤوسَ الـمسْلِمِينَ وَعُلَمَاءَهُمْ، فَاسْتَشَارَهُمْ، فَإِذَا اجْتَمَعُوا عَلَى الأَمْرِ قَضَى بَيْنَهُمْ [3].


[1] صحيح البخاري – ترقيم فتح الباري (9 / 138).

[2] تفسير المنار5/155.

[3] السنن الكبرى للبيهقي وفي ذيله الجوهر النقي (10 / 114).


الكلمات المفتاحية: أسس أداء الحقوق الإنسانية إلى أصحابها أسس الإدارة الراشدة التي تضمن أداء الحقوق الإنسانية إلى أصحابها