علم الاجتماع القرآني (13)
16 سبتمبر، 2023
310
كيف تتعامل الأمة والدولة مع المنافقين الذين ينكرون السنة؟
بين الله تعالى أن من صفات المنافقين إنكار حجية السنة النبوية وأنهم يصدون عن النبي صلى الله عليه وسلم فقال {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا} [النساء: 61]
ثم بين أنّ التعامل معهم يجب أنْ يتسم بالحُسْن والحذر في الوقت ذاته لشدة الخبث الذي يتسم به قياداتهم، ولاستيعاب المغرر به من أتباعهم، ويُبَصِّرُنا بذلك قوله جل ذكره: {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغًا} [النساء: 63] ؛ إذ لا يمكن أن يعاملوا معاملة الأعداء الصرحاء ويصعب أن يعاملوا معاملة الأصدقاء الموالين.
ويُبَصِّرُنا الله جل جلاله بكيفية التعامل معهم فيقول: ﴿ أُولَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ ﴾ وهذه العبارة تستخدم في بيان اختلاف أحوالهم فمنهم النشطون الخونة، ومنهم المغرر بهم، وقلوبهم تختلف في رغباتها وإراداتها، كما أنك عندما تسمع هذه العبارة ﴿ أُولَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ ﴾ تشعر بأن يثير فيك تفظيع أمر القيادات الخائنة منهم وشدة شناعته، فلا يحيط بما في قلوبهم من الخبث إلا الله؛ إذ هم العدو الحقيقي الأسوأ، فينتمي بعضهم للمنافقين وبعضهم لمرضى القلوب عباد الدينار والدرهم وشهوات البطون والفروج، وبعضهم للجهل المركب، ولأنهم متفاوتون في مراداتهم وأهدافهم؛ فإن هذه الجملة المباركة تقتضي ألا يرد المرء زعمهم إرادة الإحسان والتوفيق، ولكنه لا يترك لومهم وتقريعهم والتثريب عليهم في انحرافهم عن حكم الله وحكم رسوله صلى الله عليه وسلم، والتعامل الحسن الحذر يقتضي أيضًا أن تنبه ﴿ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ ﴾ والإعراض يقتضي عدم تمكينهم من ولايةٍ أو مسؤولية لأن ذلك خيانة للأمانة، ويقتضي صرف الوجه عنهم، فلا يقبل عليهم بالإكرام والاحترام والبشاشة دائمًا، ويقتضي عدم قبول عذرهم كما يقتضي ألا ترد زعمهم أنهم يريدون الإحسان والتوفيق، ولكنك تطالبهم بمقتضى إيمانهم بأن يتركوا التحاكم إلى الطاغوت، والإعراض عنهم يقتضي عدم الحرص على إرجاعهم إلى ما يجب عليهم لشدة صدهم، وعدم إكرامهم بما يشعرهم بالأمان في مؤامراتهم، ولا بد من أن تظهر أنك تشعر بالريبة نحوهم ليبقيهم ذلك على وجل خائفين من سوء العاقبة شاكين هل استطاعوا خداع المسلمين مجددًا أم لا.. وَلِذَلِكَ كَانُوا يَحْذَرُونَ أَنْ تَنْزِلَ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ، وَيَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عليهم، وبذلك يخفف من شرهم، ويمكن استيعاب المغرر بهم من أتباعهم، ولكن لا تكتفي بالإعراض عنهم بل انتقل إلى أمر آخر ﴿ وَعِظْهُمْ ﴾ عظهم الموعظة الحسنة، وهذا يقتضي التعميم في الخطاب، والموعظة تذكيرٌ ونصحٌ مشفق يقترن بالتخويف من المآلات المستقبلية لأفعالهم الحالية، فتزجرهم عن الوقوع في النِّفَاقِ وَالمَكْرِ وَالكَيْدِ وَالحَسَدِ وَالكَذِبِ وَتخَوِّفُهُمْ من عِقَابِ الآخِرَةِ، ولا تكتفي بوعظهم، بل ينقلك الله إلى مرحلة موازية لا بد منهم فيقول عنها -عزَّ جارُه-: ﴿ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغًا ﴾:
هذه الجملة تدل على ضرورة النصيحة المحاسِبة لهم، فإما ان تكون على ظاهرها، ويكون المعنى: قل لهم في خاصة أنفسهم على وجه السرية فيما بينك وبينهم قولًا بليغًا يكشف لهم عن معرفتك بخيانتهم.
وتحتمل الجملة تقديمًا وتأخيرًا، والتقدير: وقل لهم قولًا بليغًا في أنفسهم يَغُوصُ فِي أعماقها، ويكشف خبيئة دسائسها ومؤامراتها وخياناتها ببيان التحركات التي قاموا بها من خلال التقارير الظاهرية والأمنية عن تحركاتهم المريبة -كما قال الرازي-: «وَقُلْ لَهُمْ فِي مَعْنَى أَنْفُسِهِمُ الخَبِيثَةِ وَقُلُوبِهِمُ المَطْوِيَّةِ عَلَى النِّفَاقِ قَوْلًا بَلِيغًا، وَإِنَّ اللَّه يَعْلَمُ مَا فِي قُلُوبِكُمْ فَلَا يُغْنِي عَنْكُمْ إِخْفَاؤُهُ، فَطَهِّرُوا قُلُوبَكُمْ مِنَ النِّفَاقِ وَإِلَّا أَنْزَلَ اللَّه بِكُمْ مَا أَنْزَلَ بِالمُجَاهِرِينَ بِالشِّرْكِ أَوْ شَرًّا مِنْ ذَلِكَ وَأَغْلَظَ» [1].
والفرق بين الوعظ السابق والقول البليغ هنا أن الوَعْظ هنا يتعلق بالنُّصْح المُتَعَلِّق بالمآلات المأساوية المتعلقة بهم في الدنيا والآخرة، وَالقَوْلُ البَلِيغُ يتعلق بكشف واقعهم بما يشكل ردعًا لهم عسى أن يرجعوا إلى الحق، فيظهر منه الإحاطة بتحركاتهم وخياناتهم، ويكشف خبيئة دسائسها ومؤامراتها، والبليغ الذي يبلغهم عن مآلات تصرفاتهم في الدنيا.
فبصرتنا الآية بضرورة التنويع بين النصيحة، والمحاسبة والتهديد على وفق مصلحتهم الحقيقية ومصالح الإنسانية، وربما اقتضى ذلك السرية، وربما اقتضى العلنية.. كل ذلك تبصرك به الآية في الوقت ذاته حسب مقتضيات الحال في التعامل مع هذه النفوس، والمصلحة العامة للأمة الإسلامية، وهذا يقتضي التخصيص مع السر أو الإعلان حسب ما تقتضيه الحكمة.
ولذكر الوعظ والقول البليغ هنا أهمية خاصة؛ إذ ترى كثيرًا من المسلمين يكتفي باللقاءات السياسية معهم، ويعرض عن تطبيق مفهوم الوعظ والقول البليغ، فيخسر وهو يظن نفسه يصنع النجاح.. يخسر إظهار هويته، وتجميع من ينتمي إليه حوله، ويخسر خلخلة تفكير هذا الصنف الخطير، وزعزعة أتباعهم من حواليهم، وكم جنى الفعل السياسي المحض الخالي من تطبيق مفهوم هذه الآيات.. كم جنى على التحركات الصادقة.
#المجيدي
مفصل تفسير سورة النساء
[1] تفسير الرازي (10/ 124).