علم الاجتماع القرآني (15).. كيف فضح القرآن مجموعات الإرجاف والتخذيل؟
17 أكتوبر، 2023
1020
تواصل الآيات القرآنية مد الأمة بأسس وقوانين استراتيجية أخذ الحذر، وهنا يبين لنا بأن من أهم مبادئ استراتيجية أخذ الحذر: الحذر الأمني الشديد من الـمجموعات (اللوبيات) الـمرجفة الـمخذلة.
وبصرنا الله بهم في قوله: {وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ فَإِنْ أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَالَ قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَعَهُمْ شَهِيدًا (72) وَلَئِنْ أَصَابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ اللَّهِ لَيَقُولَنَّ كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزًا عَظِيمًا} [النساء: 72، 73]، فهم يقومون بعملية التبطيء السيء؛ لتدمير جميع خطط الحماية الأمنية في الـمجتمع.
وأهم صفاتهم الكاشفة لهم:
الصفة الأولى: ينتمون للمسلمين، ويُبَصِّرُنا بذلك قوله: ﴿مِنْكُمْ﴾، ولم يقل: «فيكم»، فدخل فيهم الـمنافقون، والذين في قلوبهم مرض، والغافلون، والمقصرون، وربما بعض صالحي المؤمنين:
وللأسف فإنك تجد كثيرًا من المفسرين يقصر الآية على الـمنافقين.. هذا القصر يؤدي إلى فقهٍ خاطئٍ في التعامل مع الواقع الـمؤلم؛ إذ يحتمل أن يكونوا من السماعين لهم من صالحي المؤمنين.. وهنا ربما تتساءل مستغربًا: أمعقول أن يوجد من صالح المؤمنين سماعون للمنافقين؟ تجيبك الآية بنفسها فلأجل ألا تسيطر الغفلة على قوى الحق والعدل نجد التأكيد في هذه الجملة بأقوى المؤكدات عن هذه العناصر المخربة لخطط الحماية الأمنية وعن السماعين لهم، انظر إلى النص الدستوري المبارك: ﴿وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ﴾ فأكد فحوى الجملة بإن المشددة المؤكدة الناصبة، وباللام الداخلة على خبر إن، وبلام القسم، فـ»دخلت «اللام» في قوله: ﴿ لَمَنْ ﴾، وفتحت، لأنها «اللام» التي تدخل توكيدًا للخبر مع «إنَّ»، كقول القائل: «إنّ في الدار لَمَن يكرمك». وأما «اللام « الثانية التي في «ليبطئن»، فدخلت في جواب القسم، كأن معنى الكلام: وإن منكم أيها القوم لمن والله ليبطئن» [1].
لاحظ -أيدك الله- يقول: ﴿مِنْكُمْ﴾ ولم يقل (فيكم)، فالكلام ليس عن المنافقين فقط بل يدخل في المتكلم عنهم فئة من المؤمنين، وهذا تحليل عظيم للواقع الإسلامي المعاصر، وبيان صريح بأن نعترف بأننا قد نكون من هذه الفئات، فهي ليست من عملاء المخابرات الخارجية، وليست من المنافقين بالضرورة.. إذا كان منا من يبطئ فمن باب أولى من أدخل نفسه معنا وهو ليس منا، فالآية تتكلم عن بعض المؤمنين أكثر من تكلمها عن المنافقين، ولكنها بطريقة أخرى تشير إلى المنافقين، وبذا لا يظهر لي صواب ميل بعض المفسرين كالطبري إلى قصر الآية على المنافقين.
لماذا نؤكد على أن الآية قد تشير إلى المنافقين وبعض المؤمنين؟ لأن عدم الاعتراف بذلك يجعلنا نشرب شرب الهيم من الأوهام، فندمر استراتيجية أخذ الحذر، فحاطب بن أبي بلتعة أرسل رسالةً تتعلق ببعض الأسرار الأمنية إلى قريش، وهذا يعد خيانة عظمى مع أنه من أهل بدر، والنبي صلى الله عليه وسلم بين أنه لم يفعل ذلك خروجًا من الإيمان، بل قال صلى الله عليه وسلم: «إِنَّهُ شَهِدَ بَدْرًا وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ اللَّهَ اطَّلَعَ عَلَى أَهْلِ بَدْرٍ فَقَالَ: اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ فَقَدْ غَفَرْتُ لَكُمْ» [2]، فقد وقع ذلك من هذا الجبل إيمانًا وتقى، فكيف لا يقع من غيره وعن الصحابة أجمعين، فلمَ نهرب من كلمة ﴿ مِنْكُمْ ﴾ ونقول هذا يستشنع أن يقع من المؤمنين؟ فإذا هربنا من الاعتراف ببشريتنا أدى ذلك إلى فقهٍ خاطئ في التعامل مع الواقع المؤلم.
الصفة الثانية: لا يقومون بالـمهام الأمنية الحارسة للمجتمع، ويُبَصِّرُنا بذلك قوله: ﴿لَيُبَطِّئَنَّ﴾، فالبطء تأخر الانبعاث في السير.
وهذه الكلمة تدل بحروفها الثقيلة على العمل الثقيل الهائل الذي تسببه هذه العناصر عندما تصر على القعود وعدم القيام بالمهمات الحارسة للمجتمع المسلم، فيتثاقلون عن القيام بواجباتهم الأمنية.
الصفة الثالثة: ينشطون في زرع التثاقل عن القيام بالواجبات الأمنية عند الآخرين، وتكوين مجموعات مخذلة، ويُبَصِّرُنا بذلك قوله: ﴿ لَيُبَطِّئَنَّ ﴾؛ إذ تدل هذه الكلمة أصالة، أو تبعًا على هذا الصنف، فالتشديد للدلالة على تكرار الفعل في نفسه، وعلى محاولة صاحبه أن يؤثر على غيره؛ ليكون مثله في التخلف عن القيام بواجباته الأمنية، فيتأخر ويؤخر غيره [3]، واستعمل النبي صلى الله عليه وسلم هذا الفعل متعديًا فقال: «وَمَنْ بَطَّأَ بِهِ عَمَلُهُ لَمْ يُسْرِعْ بِهِ نَسَبُهُ» [4]، فلا يكتفي هذا الصنف بعدم خروجه حتى يتحول إلى أداةٍ نشطةٍ لتخذيل غيره، وذلك لئلا يكون وحيدًا في الفضيحة، والأعمال القبيحة، وهناك سبب آخر أن يحول فعله القبيح إلى مجد ويمسح عنه أن يكون قد اقترف كبيرة من الكبائر، فهو عندما يتأخر عن مكارم الأمور يبحث عن المبررات في التأخر، ويوهم الناس أنه من خلال تأخره استطاع أن يحمي مصالحهم.. هكذا تتكون المجموعات المخذلة المرجفة (اللوبيات المجرمة) التي يكون أثرها في الإجرام أسوأ من المعتدين الخارجيين.
الصفة الرابعة: الأنانية الـمفرطة، وعدم تحمل تبعات مواجهة تحديات الحياة، ويُبَصِّرُنا بها قوله: {فَإِنْ أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَالَ قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَعَهُمْ شَهِيدًا } [النساء: 72].
إنهم يبتعدون ويبعدون المجتمع حولهم عن رؤية الأحداث بصورة شرعية، فيكونون رؤية قاتمة قائمة على المصلحة الشخصية الخاصة، فعند المصيبة التي تحل على الصف المطيع لله تعالى يرفع أحدهم عقيرته، فيقول: أنا بطأت عن القيام بالواجبات الأمنية من أجل السلامة العامة؛ لأن الذين قاموا بها أصيبوا إما بالقتل أو الجراح، أما أنا فألهمني التفكير السديد فـ﴿ لَمْ أَكُنْ مَعَهُمْ شَهِيدًا﴾، و﴿ شَهِيدًا ﴾ بمعنى حاضر وهو المعنى الأول، ويُبَصِّرُنا بأنانيتهم كأنه يقول: إيثاره للسلامة وعدم المواجهة كان هو القرار الصائب بدليل أن المسلمين الذين لم يستمعوا له وخرجوا للجهاد قد أصيبوا، وهو لم يكن حاضرًا، ويحمد الله على ذلك إذ لم تصبه جراح أو ألم أو قتل«وسَرَّه تخلّفه عنكم، شماتةً بكم، لأنه من أهل الشك في وعد الله الذي وعد المؤمنين على ما نالهم في سبيله من الأجر والثواب، وفي وعيده. فهو غيرُ راج ثوابًا، ولا خائف عقابًا» [5]… نسي أن الله جعل حدوث المصيبة في الجهاد من أعظم أماكن الطاعات والقربات، بل جعلها من الأمور الحسنة المرغوب فيها فقال: {قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ } [التوبة: 52].
نسى أن المسلم إذا أصيب بجرحٍ أو تأذى فهو في سبيل الله، فالله سبحانه وتعالى يقول: {مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ وَلَا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لَا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلَا نَصَبٌ وَلَا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلَا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} [التوبة: 120].
فصارت وظيفة هذه الفئة المخذلة العمل قصدًا أو بغير قصدٍ على إنهاك الصف المسلم.. هذه الفئة يزين لها الشيطان أعمالها، فتعمل على إنهاك العقول الرشيدة باسم العقل، ويطلبون منها الهرب الدائم، ورفع راية الاستسلام باسم القبول بالحلول الممكنة.. ومع المدى تصبح الحلول الممكنة عين التدمير البطيء أو السريع لأصحاب الحق، وبعضهم يعبر عن هذا باسم المصالح والحفاظ على الدماء مع أن حقيقة الأمر أن تلك الحلول قد تؤدي إلى المزيد من إراقة الدماء، إن هؤلاء هم الذين يرقصون على جراح المظلومين، ويقتاتون من دماء المستضعفين.
وستسأل: لماذا يذكر الله هذه الصفات عن هذا الصنف المبطئ؟
الجواب: لأن ذلك جزء من استراتيجية أخذ الحذر؛ فإن كان الإنسان المبطئ المبَطئ منافقًا، فهذا شأنه.. هذه طبيعته.. هذه وظيفته: العمل على تدمير أصحاب الحق، وإن كان مؤمنًا فقد يكون موقفه بسبب ضعف إيمانه، أو لأن طريقة تفكيره خاطئة، فينبغي أن ننبهه وننتبه منه أيضًا.. لا أن ننجر إليه لمكانته أو لسابقته الإيمانية، لذا كان معاذ بن جبل h يقول: (إياك وزيغة الحكيم، ولا ينئينك ذلك عنه)[6] يعني هذا مؤمن حكيم عالم، ولكن إياك وما يقع فيه من الزيغ، ولا يُنئينك، أي: لا تبتعد عنه ولكن احذر من زيغته.
الصفة الخامسة: إيثار الدنيا على الآخرة من خلال كره معالي الأمور الحقيقية، ويُبَصِّرُنا بذلك الـمعنى الثاني لقوله: {قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَعَهُمْ شَهِيدًا} [النساء: 72] ، فالشهيد هو الذي قضى نحبه مواجهًا لتحديات إحلال السلام والأمان في الـمجتمع، وهذا هو المعنى الثاني للكلمة:
فيجوز أن يكون معنى ﴿شَهِيدًا﴾ الشهيد بالمعنى الشرعي، فيكون كلامه للاستهزاء والسخرية بطلب الصالحين الشهادة لإحلال السلام للآخرين، فكأنه لم يعرف الإيمان طرفة عين؛ إذ يجعل أجل الأهداف الحقيقية في الحياة شيئًا يسخر منه.. كذلك يقول المنافقون ومرضى القلوب دائمًا، واسمع إلى الله يحكي عنهم في سورة الأنفال: {إِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ غَرَّ هَؤُلَاءِ دِينُهُمْ} [الأنفال: 49].
وبهذا يكون ديدن هذه الفئة الفت في عضد المؤمنين، وتوهين قواهم، وتشكيكهم في جدوى المجاهدة والمناضلة عن الحقوق، وتقديم التضحيات في سبيل إعزاز دينهم ورفعة أمتهم وأمن مجتمعهم.
لماذا يذكر الله هذه الصفات عن هذا الصنف المبطئ؟
لأنه إن كان منافقًا فهذا شأنه وحاله وطبيعته لا نكلفه فوق طبيعته ولكننا نفضح نفاقه، وإن كان ضعيف الإيمان فقد نسي كل شيء يربطه بالمسلمين: نسي أخوته لمجتمعه ونسي إيمانه، فنذكر له أنه يسير على صفات المنافقين، ويركب متن رواحل الخاسرين.
قد يتسلل الواحد منهم إلى إدارات التوجيه، وعندما يفوز الـمؤمنون في مواجهة التحديات، يشعر بأنه ليس منهم، فيتمنى أن لو كان معهم.
انظر كيف يؤكد الله غرابة مواقف هذا الصنف المريض المنتكس، فيؤكده باللام الموطئة لجواب القسم في قوله ﴿وَلَئِنْ﴾، معناه وأقسم لئن أصابكم، وبلام جواب القسم وبنون التوكيد في قوله ﴿لَيَقُولَنَّ﴾ ثلاث مؤكدات كما في السابق.. كل ذلك ليؤكد لقوى الخير حقيقة يغفلون عنها في غمرة الأحداث المتعاقبة، وكثرة الضجيج الذي يصدر عن التلاعب العالمي والإقليمي بهم.. التأكيد المتتابع ليوقظ الصالحين من غفلتهم عن الحذر من هذا الصنف بأنواعه .. إن الصالحين قد يغفلون عن وجود هذا الصنف المبطئ بينما هو يتسلل في إعلامهم وتعليمهم، ومنتدياتهم، وربما تسلل إلى أهم مراكز أمنهم القومي.
والمقصود هنا تحذير مجتمع المؤمنين إما من الصنف المريض القلب مع صحة إيمانه، وإما من الصنف المنافق؛ إذ كل منهم يقوم بالدور ذاته في الإبطاء والتبطيء مع تفاوت حجم السوء الذين يحدثه كل منهم.
الصفة السابعة: نسيانه لكل صلة إيمانية أو محبة رحمية، أو وشيجة قربى، أو إحسان يد عندما تحدث الأحداث الفاصلة، ويُبَصِّرُنا بذلك قوله تعالى: {كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ } [النساء: 73]:
وتعال إلى البلاغة القرآنية حيث تأخذ أنفاسك عندما ترتقي عرشًا لا يمكن للكلام البشري الوصول إليه؛ فجملة {كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ } [النساء: 73] جُمْلَةٌ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ القَوْلِ وَمَقُولِهِ أي بين قوله ﴿لَيَقُولَنَّ﴾ وقوله حكاية عنهم {يَا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزًا عَظِيمًا} [النساء: 73] فكلمة مودة جاءت نكرة منفية في سياق التشبيه؛ فإن كان مؤمنًا أصاب قلبه مرض فاحذروا منه؛ إذ يتكلم بحسد ولؤم بخلاف المؤمنين الذين هم إِخْوَةٌ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ، وهم جسد واحد، يحب أحدهم لأخيه ما يحبه لنفسه، ويد واحدة على من سواهم، ويحتمل أن يكون القائل مؤمنًا ويشعر بالندم لأنه بطأ فيقول: يا ليتني كنت معهم، وإن كان منافقًا فهو لا يذكر أي إحسانٍ أنعم المجتمع المسلم به عليه، وهذا يجعلنا نقول: إن الآيات وردت في المؤمنين كما هي في المنافقين، وانظر إلى أهل البدع الكبرى كيف يعيشون بين المؤمنين، فيأكلون خيراتهم، ويجدون من رفقهم وإحسانهم حتى إذا علا وارتقى المفسدون على المؤمنين نسي أولئك كل مودةٍ كانت بينهم وبين المؤمنين، والمودة إما أن تكون حقيقية إن صدرت هذه المقولة من ضعفة المؤمنين، وإما أن تكون صورية إن كانت المقولة صادرة من المنافقين..
وبالقدر الذي تدل فيه هذه الجملة على تحذير المؤمنين من هذا الصنف المبطئ الذي يعمل ضد أمنهم القومي، ويحاول أن يربك حساباتهم الشرعية والواقعية إلا أن الأسلوب الذي جاء فيه هذا التحذير مثيرٌ جدًا من الناحية البلاغية؛ إذ هذه الجملة {كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ} [النساء: 73] تستدر كل عطف، وتحمل كل عتاب لمن أصاب قلبه مرض، فاتصف بصفات المنافقين دون أن يشعر، وصار من المبطئين الـمـُـبَطِّئين، ثم عمل الحسد في نفسه عمله لما رأى انتصار المؤمنين فقام يقول: يا ليتني كنت معهم.. فيذكره الله بالمودة السالفة، والمحبة السابقة حيث كان يبادل إخوانه الابتسامات الحانية، ويظهر لهم المحبة الخالصة.. وتعجب من هذه العبارة التي تحمل التحذير، وتتضمن في الوقت ذاته أجمل التأثير عسى أن يتأثر من زلت قدمه من المؤمنين فوقع في هذه الخصلة من خصال الذين في قلوبهم مرض والمنافقين
وهناك بعدٌ بلاغي ثالث في كلمة ﴿مَوَدَّةٌ﴾ هنا، فهو إنما ذكرها لأن الذين يقولون هذا القول من مرضى القلوب ومن المنافقين كانوا يبالغون في إظهار الود والشفقة والنصيحة للمؤمنين [7]، وهذا يعني مزيدًا من التحذير الشديد من أفعالهم، وعدم الاغترار بنصحهم وإظهار مودتهم.
وفي كلمة ﴿يكن﴾ من قوله تعالى: {كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ} [النساء: 73] قراءتان:
الأولى: قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَحَفْصٌ عَنْ عَاصِمٍ ﴿كَأَنْ لَمْ تَكُنْ﴾ بِالتَّاءِ لتأنيث مودة، وقد جاء مثل هذه القراءة في المجمع عليه قوله تعالى {قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ} [يونس: 57].
وَالبَاقُونَ بِاليَاءِ لأن المودة مؤنث غير حقيقي مع وجود فاصل بين الفعل والفاعل، ومما يشبه ذلك من المجمع عليه قوله تعالى فِي آيَةٍ أُخْرَى: {فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّ} [البقرة: 275].
الصفة الثامنة: حب الـمناصب والمجد الدنيوي أو الأخروي ولكن عبر الدعاوى الفارغة، ويُبَصِّرُنا بذلك قول الواحد منهم: {يَا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزًا عَظِيمًا} [النساء: 73].
فهذا الإبطاء والتبطيء يجر لهؤلاء المنتكسين تارة السرور بالسلامة، وتارة الشعور بالغيظ والحسرة والندامة، فعندما يحصل الانتصار لا يكون همهم تصويب رؤيتهم وفق مبدأ الطاعة الشرعي بل يلومون أنفسهم أنهم لم يركبوا الموجة ليجدوا مغنمًا مع المنتصرين، ولشدة حسدهم للصف المتقدم المثابر لا يعدون انتصار المطيعين انتصارًا لهم، ولا فوزهم فوزًا لهم، بل يتلهفون على ما فاتهم من مكانةٍ وغنيمة.
إن هذا الصنف المبطئ يتربص بالصف المطيع المقدم التضحيات فإن حصلت المصيبة لهم فرحوا بقراراتهم الجبانة، وإن تحقق النجاح لمن يواجه تحديات الحياة، وحصل الانتصار للمطيعين تمنوا أنهم معهم: ليجدوا الفوز بمنصبٍ، أو شرفٍ أو مالٍ، أو أجرٍ أخرويٍّ.
نعود الآن إلى السؤال الذي يفرض نفسه: من هؤلاء المُبْطِئون المُبَطِّئون؟
حاول كثيرٌ من المفسرين أن يجعلوا هذه الصفات حصرية على المنافقين، واستثقلوا كما استبشعوا صدورها من قومٍ مؤمنين، فكيف يمكن أن تصدر من بعض الأنصار أو من بعض المهاجرين؟.. هكذا رأوا رحمهم الله.. تأمل في الآيات لترى أن ما ذهبوا إليه ليس صحيحًا لا من الناحية الأسلوبية القرآنية، ولا من الناحية الطبعية..
أما من حيث الأسلوب القرآني: فإن الله جل شأنه إن أراد أن يذكر المنافقين ذكرهم بالاسم كما في سورتهم.. أما إذا لم يذكرهم بالاسم بل أشار بالوصف إلى قومٍ بين صفاتهم فهذا يدل على أن هذه الصفات موجودة في كل من يقع فيها أو يطبقها ولو كان من المؤمنين المخلصين.. ألا ترى أن حاطب بن أبي بلتعة كان من أهل بدر ثم وقع منه شيء ليس بالهين في حق المسلمين إلا أن ذلك غمر في بحر حسناته؟ إن الآيات توقظنا إلى حقيقة أنفسنا التي قد نسقط في براثن أمرها بالسوء عسى أن نتقي ذلك الوقوع، فإن عجزنا لما غرس فينا من الطبيعة فإن الآيات تخاطب المجموع ليُعينَ الذاكرُ الناسيَ، ويُنَبِّهَ اليقظُ الغافلَ..
وفي هذه السورة إشارة واضحة إلى أن بعض الصفات السيئة تكون كاملة في المنافقين لكن مقدارها لا يصل إلى الكمال في المؤمنين، ولا يمنعهم ذلك من أن يمسهم منها طيف، وطائف من الشيطان.. انظر إلى ذلك في قوله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا} [النساء: 61] فصرح بأن المنافقين يصدون عن رسول الله صلى الله عليه وسلم صدًا عنيفًا.. أفدنا ذلك من التأكيد.. ومعنى ذلك أنه قد يوجد من المؤمنين من يصد عن التحاكم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لتأويل ظهر له، أو ضعف طرأ عليه.. وما قصة الأنصاري البدري الذي قال لرسول الله في مخاصمته للزبير: أن كان ابن عمتك يا رسول الله، وجعل الزبير قصتهما تلك داخلة -فيما يحسب- في قوله تعالى: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء: 65].
وأما من الناحية النفسية البشرية فإن المتقين يمسهم طائف من الشيطان، فيُذَكَّرون فيتذكرون، وربما فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم كما وصفهم الله في سورة آل عمران.. إلا أنهم لا يصرون على ما فعلوا وهم يعلمون.. إن هذه الآيات تعالج واقع المؤمنين في أنفسهم عندما يعتريهم الضعف، وينتابهم الخور، وتهجم عليهم وساوس الشيطان فربما جادلوا في الحق بعدما تبين.. وبذا فإن كل ما فيه لوم وتقريع في هذه الآيات: من التحاكم إلى الطاغوت، ووجود الحرج من قضاء الرسول صلى الله عليه وسلم، والتبطيء، وخشية الناس كخشية الله، وإذاعة ما فيه أمر من الأمن أو الخوف مما يخلخل صفوف المؤمنين..
كل ذلك يشمل المؤمنين يحذرهم من أنفسهم، كما يشمل المنافقين يفضحهم أمام المؤمنين، لكنه يكون في المؤمنين شيئًا عارضًا إن وجد من يذكرهم بقوة، ويأطرهم على الحق رجعوا فرحين برجوعهم، ويكون ذلك في المنافقين على حد الكمال في السوء، فيمضون في غيهم، ويشتدون في جرمهم.
#المجيدي
مفصل تفسير سورة النساء
[1] تفسير الطبري ت شاكر (8/ 539).
[2] صحيح البخاري – ترقيم فتح الباري (6 / 186) برقم 3007.
[3] انظر: المفردات في غريب القرآن ت كيلاني (ص: 52).
[4] صحيح مسلم (8 / 71).
[5] تفسير الطبري ت شاكر (8/ 538).
[6] سنن أبي داوود، (4/202)، قال الأرناؤوط: أثر إسناده صحيح.
[7] نظم الدرر في تناسب الآيات والسور (5/ 326).