ما الطريقة القرآنية الفذة في علاج عقدة الخوف من الموت؟
28 نوفمبر، 2023
1810
أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ} [النساء: 78]
وكيف تجعل ذكر الموت يسبب لك السعادة وليس الخوف؟
سورة النساء وهي تبني الأمة في طريق حماية الحقوق ونصرة المستضعفين تتطرق إلى أهم سبب يخرج الأمة عن دورها العالمي في ذلك، فتبين السورة كيفية معالجة عقدة الخوف من الـموت، بأن نذكر أنه آتٍ بغض النظر عن سببه، فلنحرص على أن يكون سببه أربح في التجارة وليكن التخطيط للمستقبل بعده أجود، ويُبَصِّرُنا بذلك قوله: {أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ} [النساء: 78]، فيُبَصِّرُنا هذا التذكير بكيفية المعالجة العقلية لعقدة الخوف من الموت؟ فالموت المكتوب سيأتيكم في المكان الذي أنتم فيه ولو كنتم في بروجٍ مشيدة، فالموت «بإزائكم أين كنتم، وواصلٌ إلى أنفسكم حيث كنتم، ولو تحصَّنتم منه بالحصون المنيعة».
وبما أن الموت لا بد منه فلنحرص على الإعداد الجيد والواعي لما بعده لتكون تجارتنا وتخطيطنا المستقبلي أكثر وعيًا، وأعظم ربحًا، والبروج هي القصور المحصنة المنيعة المرتفعة، وسميت بروجًا لظهورها وبروزها للناظرين، ومن ذلك بروج السماء في قوله تَعَالَى: {تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا} [الفرقان: 61]، وَقَوْلِهِ: {وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ} [البروج: 1]، فيُقَالُ: تَبَرَّجَتِ المَرْأَةُ، إِذَا أَظْهَرَتْ مَحَاسِنَهَا، ووصف هذه البروج بأنها مشيدة، ومُشَيَّدة كلمة لها بريقها في وصف البروج، فإما أن تكون من الشِّيد بالكسر، وهو المطلي بالجص، أو المِلاط وبالفتح المصدر. تقول: شاده يشيده شيدًا: جصصه. والمشيد: المعمول بالشِيدِ. والمُشَيَّدُ، بالتشديد: الـمُطَوَّلُ ، وشاده شَيدًا بالفتح، أي: أحكمه، فكل ما أُحْكِمَ من البناءِ، فقد شُيِّدَ، وتَشْييدُ البناء: إِحكامُه ورَفْعُه.
فانظر كيف جمعت هاتان الكلمتان: (بروج مشيدة) أوصافًا مدهشة تبرز معانيها من ورائها، فالبروج القصور والمنازل المحصنة الرفيعة، وهي مشيدة، أي: مطلية بالشِيد لتكون مشيَّدة، أي: محكمةً متراصةً من جهةٍ، ولتبدو مزينة مزخرفة من جهة أخرى، ولتكون مشيدة، أي: متطاولة، دلالة على رفاهية أصحابها، وعلى الرغم من أنك ترى الارتفاع الذي تنقطع الأنفاس في كلمة بروج إلا أن كلمة مشيدة في أحد معانيها أكسبتها ارتفاعًا جديدًا، فصارت مرتفعة ارتفاعًا مضاعفًا.
والمعنى: أينما تكونوا يدرككم الموت ولو كنتم مختبئين أو لاجئين أو مقيمين في بروجٍ عالية مرتفعة ارتفاعًا مضاعفًا تزينت للناظرين وأحكم بناؤها فلا يستطيع أحدٌ خرقَها أو كسرَها، أو زحزحتها.. لم ينقض سيل المعاني المدرار بعدُ، فلو تناولت هذه العبارة كاملةً {أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ} [النساء: 78] لوجدت تكملةً للصورة؛ إذ تضيف لك معنى آخر عند النظر إلى الجمع في قوله ﴿بُرُوجٍ﴾؛ فتبصرك بمعنيين يستتران خلفها:
فإما أن يكون المعنى: هناك بروجٌ متعددة تحمي واحدًا أو مجموعةً، وإما أن تدل على برجٍ يحمي كل واحدٍ، وهي تفتح عينيك على الغرور الذي يغشى أعين الغافلين من بني الإنسان عندما يهرب الأغنياء والأقوياء منهم يريدون الخلود في الحياة الدنيا، فإما أن يختبئ الواحد أو المجموعة منهم خلف بروجٍ مشيدة، أي: أنه يحتمي ببرجٍ وراء برجٍ وراء برج، ومؤسسةٍ محليةٍ وراء مؤسسة إقليمية، وراء مؤسسةٍ دولية، ويلوذ بمؤسساته المخابراتية وراء مؤسساته المالية وراء مؤسساته العسكرية وراء مؤسساته المعلوماتية وراء مؤسساته التشريعية القضائية الدولية.. إنها حصونٌ متعددةٌ متنوعةٌ يحتمي بها تدفعه إلى الغرور وإلى الزور وراء الغرور.. أيظن أنه محميٌّ من الموت -بعد كل هذه الحمايات المتعددة-؟
وكذلك يدل الجمع في قوله جل ذكره ﴿بُرُوجٍ﴾ على جمعٍ من الأقوياء الأغنياء قد اختبأ كلٌ منهم في برجه.. أفيظنون أن تعدد الأبراج تتعب ملك الموت أن يأتي كل واحدٍ منهم في مكمنه أو حصنه أو مأمنه.. فإن كانوا يتيقنون بالموت فما الذي يجعلهم يأبون المواجهة في موضعها؟ ما الذي يجعلهم لا يطبقون استراتيجية أخذ الحذر التي تقتضي الاشتباك في وقته المناسب؟ لأن ذلك يؤدي إلى الموت، فأينما يكونون يدركهم الموت ولو كانوا في بروجٍ مشيدة قد تنوعت إلى حمايات متعددة، وبما أن الموت لا بد منه فلينظر المرء أي الحياتين أبقى وأرقى وأصفى وأنقى، كما يقول المتنبي في قصيدته الراشدة التي يكاد يفصل فيها هذه الآية:
صَحِبَ النّاسُ قَبلَنا ذا الزّمَانَا
وَعَنَـاهُمْ مِن شـأنِهِ مَا عَنَانَا
وَتَـوَلّوْا بِغُـصّةٍ كُلّهُمْ مِنْـ
هُ وَإنْ سَـرّ بَعْـضَهُمْ أحْـيَانَا
رُبّمَا تُحـسِنُ الصّنيعَ لَيَالِيـ
هِ وَلَكِـنْ تُكَـدّرُ الإحْـسَانَا
غَـيرَ أنّ الفَتـى يُلاقـي المَنَايَا
كالِحَـاتٍ، وَلا يُـلاقي الهَـوَانَا
وَلَـو أنّ الحَيَـاةَ تَبْقَى لِحَـيٍّ
لَعَـدَدْنَا أضَـلّنَا الشّجْعَانَا
وَإذا لم يَكُـنْ مِنَ المَـوْتِ بُـدّ
فَمِـنَ العَجْـزِ أنْ تموت جَبَانَا
وها هو خالد بن الوليد رضي الله عنه يجسد هذا المعنى الذي غفل عنه الناس؛ إذ بكى لَمَّا حَضَرَتْهُ الوَفَاةُ، وَقَالَ: لَقَدْ لَقِيتُ كَذَا وَكَذَا زَحْفًا، وَمَا فِي جَسَدِي شِبْرٌ إِلَّا وَفِيهِ ضَرْبَةٌ بِسَيْفٍ أَوْ رَمْيَةٌ بِسَهْمٍ أَوْ طَعْنَةٌ بِرُمْحٍ ؛ فَهَا أَنَا أَمُوتُ عَلَى فِرَاشِي حَتْفَ أَنْفِي كَمَا يَمُوتُ العِيرُ؛ فَلَا نَامَتْ أَعْيُنُ الجُبُنَاءِ، ولما دخل على عثمان جعل يَقُولُ: اللَّهُمَّ اجْمَعْ أُمَّةَ مُحَمَّدٍ، ثُمَّ تَمَثَّلَ بِقَوْلِ الشَّاعِرِ:
أَرَى الموتَ لَا يُبقي عَزيزا وَلَمْ يَدَعْ
لِعَادٍ ملاذَّا فِي البِـلَادِ ومَرْبَعـا
يُبَيَّتُ أهلُ الحِصْن والحصنُ مغلقٌ… وَيَأْتِي الجبالَ فِي شَماريخها مَعَا وقد قيل من قبل: في أحد ملوك العراق بنى قصرًا سماه الحضر:
وأخو الحَضْرِ إذ بناهُ وإِذْ دجلةُ
تُجْبَى إليه والخابُورُ
شادَهُ مَرْمَرًا وجلّلهُ كِلْسًا
فَلِلطيرِ في ذُرَاهُ وُكُورُ
لمْ تهبْهُ ريبُ المنونِ فبادَ
الملكُ عنهُ فبابُهُ مهجُورُ
أين كسرى كسرى الملوك
أنوشروان أمْ أين قبلهُ شابُورُ
وبنوا الأصفرِ الكرامُ ملوكُ
الرّومِ لمْ يَبْقَ منهمُ مَذْكُورُ
أيها الشامِتُ المعيِّرُ بالدّهْرِ
أأنت المبرَّأُ الموفُورُ
أمْ لديك العَهْدُ الوثيقُ منَ
الأيّام بلْ أنتَ جاهلٌ مغرورُ
أم رأيت المنون أبقين أمْ
منْ ذا عليه مِنْ أنْ يُضَامَ خَفِيرُ
ثم بعد الفلاح والخير والأمّة
وارتهُمُ هناك القبُورُ
ثم صاروا كأنهم ورق جفّ
وألوت بها الصّبا والدَّبُورُ
وهذا الوصف للبروج المشيدة يذكر بما يجتهد طواغيت الدنيا في تشييده ثم ما يلبثون إلا يسيرًا، فما هو إلا أن تمضي مدتهم، فيردون إلى الله مولاهم الحق، ويتركون ما شيدوه وراء ظهورهم، فما أغنت عنهم بروجهم وعروشهم شيئًا، وإذا كان الأمر كذلك: فما الفرق بين الموت عند المواجهة والموت في البروج المشيدة؟
فـ «لا تجزعوا من الموت، ولا تهربوا من القتال، وتضعفوا عن لقاء عدوكم، حذرًا على أنفسكم من القتل والموت» ، وكأن المتنبي التقط ذلك فقال:
إذا غامَرْتَ فـي شَرَفٍ مَرُومِ
فَلا تَقـنَعْ بما دونَ النّـجومِ
فطَعْمُ المَوْتِ في أمْرٍ حَـقِيرٍ
كطَعْمِ المَـوْتِ فـي أمْرٍ عَـظيمِ
يرَى الجُـبَناءُ أنّ العَجزَ عَقْلٌ
وتِـلكَ خَديـعَةُ الطّـبعِ اللّئـيمِ
وكلّ شَجاعَةٍ في المَرْءِ تُغني
ولا مِثـلَ الشّجاعَةِ في الحَكيمِ
ولأهمية هذه الحقيقة وكثرة غفلة المخططين لمستقبلهم عنها ترى القرآن مليئًا بتكرار هذه الحقيقة التي تضعف النفس عن تذكرها واستيعابها.. أليس الله يقول: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ (26) وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ} [الرحمن: 26، 27] ويقول جل ذكره {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ } [الأنبياء: 35] ويقول تَعَالَى شأنه: {وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ} [الأنبياء: 34] ويقول جل مجده: {قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذًا لَا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلًا } [الأحزاب: 16].
وحكماء العرب في الجاهلية قبل الإسلام تمتعوا بأنفةٍ لا تراها في مسلمي اليوم وهم يزعمون أنهم مسلمون فها هو زهير يقول:
وَمَن خَاف أسبابَ المَنيّة يَلْقَهَا
وَلَوْ رَامَ أسبابَ السَّمَاءِ بسُلَّم
وها هو عمرو بن كلثوم من أعظم شجعان العرب يردد:
وإنا سـوف تـدركنا المنـايا
مقـدرة لنـا ومقدريـنا
وقال طرفة بن العبد:
أَلا أَيُّهذَا الّلائمِي أَحْـضُرُ الـوَغَى
وَأَنْ أَشْهَدَ الّلذَّاتِ، هَلْ أنْتَ مُخْلِدِي؟
فإن كُنْتَ لاَ تَسْـطِيعُ دَفْعَ مَنِـيَّتِي
فَدَعْـنِي أُبَـادِرْهَا بِمَا مَـلَكَتْ يَـدِي
#المجيدي
مفصل تفسير سورة النساء