ما الآية التي تكفي في فهم القدر؟
4 ديسمبر، 2023
1381
{مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ} [النساء: 79]
وكيف تكون هذه الآية كافية في فهم هذه القضية؟
القرآن في طريق بناء الأمة وتعميق المعرفة يأتي بالفصل من الكلام ليحصل للذهن كفاية معرفية في أهم القضايا، فإن جمْع الله تعالى هنا بين القدر والسبب يظهر سر التقلبات الكونية والعلاقة بين الخلق الإلهي والاختيار الإنساني، ويُبَصِّرُنا بذلك قوله: {مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ} [النساء: 79]، فالحسنات من عند الله خلقًا، وإنشاء، واستمرارًا، ولكن انقلاب الحسنة سيئة يكون من نفس الإنسان تسببًا، ومن الله عقوبة، فلا يناقض هذا قوله: {قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} [النساء: 78].
هذه البصرية العامة مبنية على مقدمات مهمة؛ فإن الله أراد بالعالم الرحمة‘ فأنشأ له كل حسنة.. يراها الإنسان خيرًا في الصحة والنفس والمال والحال وغير ذلك، وذلك من الله، وإلا قل لي: من أين جاءك هذا الخلق المستقيم، وهذا الهواء العظيم الذي تحتاجه مع كل نفس؟.. بأي استحقاق حصلت على هذا الجسد القويم، والأرض المسخرة؟
أما إن رأى الإنسان سوءًا طارئًا فهو بسبب ذنوبه التي اقترفتها نفسه، فاستمرار الحسنة بلطف الله وفضله، وانقلاب الحسنة سيئة سببه تلاعب النفوس البشرية، وبذا نفهم معنى {مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ} [النساء: 79]، فوجود الابتلاء القدري المحض بالسراء والضراء لا يعني عدم النظر إلى الأسباب؛ فإن الضراء لا تصيب الإنسان إلا بسبب شيءٍ من عند نفسه {مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ} [النساء: 79].
ولا تناقض بين قوله {قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} وقوله {مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ}؛ إذ الآية الأولى تذكر أن الحسنة من الله إيجادًا وفضلًا واستمرارًا، وهي الأصل والسيئة تأتي لعمل الإنسان بالشر في الحسنة فتنقلب الحسنة إلى ضدها، وذلك من نفس الإنسان تسببًا، وإلا فهي من الله عقوبة.
ولا تقع السيئة والشر إلا بسوء استعماله للخير كما بين النبي صلى الله عليه وسلم ذلك بيانًا وافيًا، فعن أبي سَعِيدٍ الخُدْرِيَّ، يُحَدِّثُ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم جَلَسَ ذَاتَ يَوْمٍ عَلَى المِنْبَرِ وَجَلَسْنَا حَوْلَهُ فَقَالَ: «إِنِّي مِمَّا أَخَافُ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِي مَا يُفْتَحُ عَلَيْكُمْ مِنْ زَهْرَةِ الدُّنْيَا وَزِينَتِهَا»، فَقَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَوَ يَأْتِي الخَيْرُ بِالشَّرِّ؟ فَسَكَتَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، فَقِيلَ لَهُ: مَا شَأْنُكَ تُكَلِّمُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، وَلاَ يُكَلِّمُكَ؟ فَرَأَيْنَا أَنَّهُ يُنْزَلُ عَلَيْهِ، فَمَسَحَ عَنْهُ الرُّحَضَاءَ، فَقَالَ: «أَيْنَ السَّائِلُ؟» وَكَأَنَّهُ حَمِدَهُ، فَقَالَ: «إِنَّهُ لاَ يَأْتِي الخَيْرُ بِالشَّرِّ، وَإِنَّ مِمَّا يُنْبِتُ الرَّبِيعُ يَقْتُلُ، أَوْ يُلِمُّ، إِلاَّ آكِلَةَ الخَضْرَاءِ، أَكَلَتْ حَتَّى إِذَا امْتَدَّتْ خَاصِرَتَاهَا، اسْتَقْبَلَتْ عَيْنَ الشَّمْسِ فَثَلَطَتْ وَبَالَتْ وَرَتَعَتْ، وَإِنَّ هَذَا الـمالَ خَضِرَةٌ حُلْوَةٌ، فَنِعْمَ صَاحِبُ الـمسْلِمِ مَا أَعْطَى مِنْهُ الـمسْكِينَ وَاليَتِيمَ وَابْنَ السَّبِيلِ، وَإِنَّهُ مَنْ يَأْخُذُهُ بِغَيْرِ حَقِّهِ كَالَّذِي يَأْكُلُ، وَلاَ يَشْبَعُ، وَيَكُونُ شَهِيدًا عَلَيْهِ يَوْمَ القِيَامَةِ» [1].
«فَاللَّهُ قَدَّرَ المَنَافِعَ وَالمَضَارَّ بِعِلْمِهِ وَقَدَرِهِ وَخَلَقَ مُؤَثِّرَاتِهَا وَأَسْبَابَهَا، فَهَذَا الجُزْءُ لِلَّهِ وَحْدَهُ لِقَوْلِهِ: قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ» [2].
إن الله تعالى خلق المخلوقات برحمته {الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى (2) وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى } [الأعلى: 2، 3] ، ودفع عنها الآلام، وجهز لها الأجهزة التي تدفع عنها الأسقام، وتمكنها من الالتذاذ بكل ما حولها، فهذا كله من عند الله، ثم إن الأمر السيء يأتي المكلف بفقدان إحدى الحسنات التي قدرها الله له لأحد سببين لا ثالث لهما:
إما ابتلاء وإما عقوبة، فهذا معنى {مَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ} [النساء: 79] فإن فعل سبب السيئة منعه الله من استمرار أحد الحسنات أو كلها فتكون السيئة عند ذلك من الله، كما قال قتادة:
«ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك»، عقوبة، يا ابن آدم بذنبك. قال: وذكر لنا أن نبي الله صلى الله عليه وسلم كان يقول: «لا يصيب رجلا خَدْش عود، ولا عَثرة قدم، ولا اختلاج عِرْق إلا بذنب، وما يعفو الله عنه أكثر» [3]
وعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «مَا يُصِيبُ المُسْلِمَ مِنْ نَصَبٍ، وَلاَ وَصَبٍ، وَلاَ هَمٍّ، وَلاَ حُزْنٍ، وَلاَ أَذًى، وَلاَ غَمٍّ حَتَّى الشَّوْكَةَ يُشَاكُهَا إِلاَّ كَفَّرَ اللَّهُ بِهَا مِنْ خَطَايَاهُ» [4]
وعَنْ مُطَرِّف بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: مَا تُرِيدُونَ مِنَ القَدَرِ، أَمَا تَكْفِيكُمُ الآيَةُ الَّتِي فِي سُورَةِ النِّسَاءِ: {وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ} [النساء: 78] أَيْ: مِنْ نَفْسِكَ، وَاللَّهِ مَا وُكِلُوا إِلَى القَدَرِ وَقَدْ أُمِروا وَإِلَيْهِ يَصِيرُونَ[5].
وقد قال -تعالى مجدُه-: {قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا أَضِلُّ عَلَى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي } [سبأ: 50]، فـ«لا تعلق للقدرية بهذه الآية، لأن الحسنة والسيئة المذكورتين ههنا لا ترجعان إلى الطاعة والمعصية، واكتساب العباد بحال، لأن الحسنة التي يراد بها الخير والطاعة لا يقال فيها: أصابتني. إنما يقال: أصبتها. وليس في كلام العرب: أصابت فلانا حسنة، على معنى: عمل خيرا، وكذلك: أصابته سيئة، على معنى: عمل معصية، غير موجود في كلامهم، إنما يقولون: أصاب سيئة إذا عملها واكتسبها» [6].
«قَالَ أَبُو عَلِيٍّ الجُبَّائِيُّ: قَدْ ثَبَتَ أَنَّ لَفْظَ السَّيِّئَةِ تَارَةً يَقَعُ عَلَى البَلِيَّةِ وَالمِحْنَةِ، وَتَارَةً يَقَعُ عَلَى الذَّنْبِ وَالمَعْصِيَةِ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى أَضَافَ السَّيِّئَةَ إِلَى نَفْسِهِ فِي الآيَةِ الأُولَى بِقَوْلِهِ: {قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} [النساء: 78] وَأَضَافَهَا فِي هَذِهِ الآيَةِ إِلَى العَبْدِ بِقَوْلِهِ: {وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ} [النساء: 79] فَلَا بُدَّ مِنَ التَّوْفِيقِ بَيْنَ هَاتَيْنِ الآيَتَيْنِ وَإِزَالَةِ التَّنَاقُضِ عَنْهُمَا، وَلَمَّا كَانَتِ السَّيِّئَةُ بِمَعْنَى البَلَاءِ وَالشِّدَّةِ مُضَافَةً إِلَى اللَّه وَجَبَ أَنْ تَكُونَ السَّيِّئَةُ بِمَعْنَى المَعْصِيَةِ مُضَافَةً إِلَى العَبْدِ حَتَّى يَزُولَ التَّنَاقُضُ بَيْنَ هَاتَيْنِ الآيَتَيْنِ المُتَجَاوِرَتَيْنِ، قَالَ: وَقَدْ حَمَلَ المُخَالِفُونَ أَنْفُسَهُمْ عَلَى تَغْيِيرِ الآيَةِ وقرءوا: (فَمِنْ تَعْسِكَ) فَغَيَّرُوا القُرْآنَ وَسَلَكُوا مِثْلَ طَرِيقَةِ الرَّافِضَةِ مِنَ ادِّعَاءِ التَّغْيِيرِ فِي القُرْآنِ.
فَإِنْ قِيلَ: فَلِمَاذَا فَصَلَ تَعَالَى بَيْنَ الحَسَنَةِ وَالسَّيِّئَةِ فِي هَذِهِ الآيَةِ فَأَضَافَ الحَسَنَةَ الَّتِي هِيَ الطَّاعَةُ إِلَى نَفْسِهِ دُونَ السَّيِّئَةِ وَكِلَاهُمَا فِعْلُ العَبْدِ عِنْدَكُمْ؟
قُلْنَا: لِأَنَّ الحَسَنَةَ وَإِنْ كَانَتْ مِنْ فِعْلِ العَبْدِ فَإِنَّمَا وَصَلَ إِلَيْهَا بِتَسْهِيلِهِ تَعَالَى وَأَلْطَافِهِ فَصَحَّتِ الإِضَافَةُ إِلَيْهِ، وَأَمَّا السَّيِّئَةُ الَّتِي هِيَ مِنْ فِعْلِ العَبْدِ فَهِيَ غَيْرُ مُضَافَةٍ إِلَى اللَّه تَعَالَى لَا بِأَنَّهُ تَعَالَى فَعَلَهَا ، بل أرادها الله بمقتضى إرادتها الكونية لا الشرعية وإلا فإن مآل القول بذاك أن العبد قد يفعل ويحدث ما لا يريده الله تقديرا وأزلا، وَلَا بِأَنَّهُ أَمَرَ بِهَا، وَلَا بِأَنَّهُ رَغِبَ فِيهَا، فَلَا جَرَمَ انْقَطَعَتْ إِضَافَةُ هَذِهِ السَّيِّئَةِ مِنْ جَمِيعِ الوُجُوهِ إِلَى اللَّه تَعَالَى» [7].
ويدخل في الصور الواردة في الآية ما ورد عَنْ جَابِر، جَاءَ أَعْرَابِيٌّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَبَايَعَهُ عَلَى الإِسْلاَمِ فَجَاءَ مِنَ الغَدِ مَحْمُومًا فَقَالَ أَقِلْنِي فَأَبَى ثَلاَثَ مِرَارٍ فَقَالَ المَدِينَةُ كَالكِيرِ تَنْفِي خَبَثَهَا وَيَنْصَعُ طَيِّبُهَا [8].
#المجيدي
مفصل تفسير سورة النساء
[1] البخاري (2 / 150).
[2] التحرير والتنوير (5/ 131)
[3] تفسير الطبري ت شاكر (8/ 558).
[4] صحيح البخاري – ترقيم فتح الباري (7 / 148).
[5] تفسير ابن كثير (2/ 363).
[6] التفسير الوسيط للواحدي (2/ 84).
[7] تفسير الرازي (10/ 147).
[8] صحيح البخاري – ترقيم فتح الباري (3 / 29).