ما أسس الإدارة الراشدة التي تضمن أداء الحقوق الإنسانية إلى أصحابها؟ (النساء:58-59)
26 أغسطس، 2023
508
أدار الله سورة النساء على بيان حق الجنس الإنساني في الاستقرار والانتشار، ولذا لا بد أن يقيم أفراده الحقوق الإنسانية المختلفة المتبادلة، وذكر تعالى شأنه في القسمين السابقين الدور الخطير الذي يمارسه الصنف القيادي الذي يشتري الضلالة ويهدف إلى إضلال العالم؛ ليحرم الإنسانية من حقوقها.. وحتى لا تظن أن مسألة الحقوق الإنسانية مجرد كلامٍ ديني عاطفي جاء هذا القسم الإداري الدستوري لتجد فيه أن الله جل مجده أنزل إلى البشرية آيتين مركزيتين في السورة (النساء:58-59) تبينان الأسس الدستورية والتشريعية للإدارة الراشدة التي يجب إنشاؤها لتوصل الحقوق إلى الإنسانية، حتى يمكن للعالم أن يستوفي حقوقه.
ومن هذه الأسس:
الأساس الرابع:
يجب التزام النظام الدستوري الذي يحكم تفكير الإرادة الراشدة وتصرفاتها في الـمتفق عليه، والـمتنازع فيه. وهذا النظام الدستوري يتمثل في الـمصادر والأصول التشريعية، وقد ذكر الله هذه الأصول في قوله جل ذكره: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} [النساء: 59]
وهذه المصادر التي يجب الرجوع إليها في التشريعات المتعلقة بالأمانات والعدل، وفض النزاعات، سواء أكان ذلك من قبل الحكام أم قبل المحكومين، ولذا قال الرازي: «هَذِهِ الآيَةَ آيَةٌ شَرِيفَةٌ مُشْتَمِلَةٌ عَلَى أَكْثَرِ عِلْمِ أُصُولِ الفِقْهِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الفُقَهَاءَ زَعَمُوا أَنَّ أُصُولَ الشَّرِيعَةِ أَرْبَعٌ: الكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَالإِجْمَاعُ وَالقِيَاسُ، وَهَذِهِ الآيَةُ مُشْتَمِلَةٌ عَلَى تَقْرِيرِ هَذِهِ الأُصُولِ الأَرْبَعَةِ بِهَذَا التَّرْتِيبِ» [1].
فالمناسبة والاتصال هنا في غاية الوضوح، وتظهر الآية أن الله لـمَّا أَمَرَ الرُّعَاةَ وَالوُلَاةَ بِالعَدْلِ فِي الرَّعِيَّةِ أَمَرَ الرَّعِيَّةَ بِطَاعَةِ الوُلَاةِ، وأخضع الحكام والمحكومين لأربعة مصادر دستورية حاسمة هي المصادر الآتية:
الأصل الأول: الرجوع إلى الله سبحانه من خلال الرجوع إلى القرآن الكريم، ويُبَصِّرُنا بذلك قوله جل ذكره: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ﴾.
فبدأ الآية بخطاب الـمؤمنين فقال: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا﴾؛ ليخبرهم أن حقيقة إسلامهم التي يعلنونها، وينتسبون إليها، وربما تفاخروا بها، تقتضي أن يلتزموا بما سيذكره.
الأصل الثاني: الرجوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم، ونجد كلامه في سنته الـمطهرة إذا كانت غير مردودة، وفقًا لمعايير أهل الحديث: ﴿وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ﴾.
هنا ينبغي أن نشير إلى قومٍ جاءوا ظلمًا وزورًا يزعمون أن ظهور الإسلام، وبعثة النبي الخاتم صلى الله عليه وآله وسلم كان سببًا في تخلف العرب، وتبعهم بعض أصحاب المراهقة الفكرية، والخبرة السياسية المحدودة من المتأخرين، فأرادوا نبذ الصبغة الإسلامية، واستبدالها بمراهقة فكرية غرورة ليقيموا الحكومة التي تنافس العالم؟ هكذا زعموا.. قلِّب النظرَ في الآيات المحكمات، واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي تالين كتابه لترى أن الاستقامة على هذين المصدرين العظيمين أقامت التاريخ لهذه الأمة التي غرقت في التخلف لما نبذتهما وراءها ظهريًا… يحتوي هذان المصدران على كل ما تتمنى الإنسانية أن يشرق عليها مما يزيل كل قيود الظلم العنصرية، إذ ترى أن أهم القواعد التي دار عليهما المصدران إقامة حقوق الإنسانية في التكريم البشري، والمعرفة الكونية لسبب الماضي، واتجاه المصير في المستقبل، واليُسْرُ، وَرَفْعُ الحَرَجِ وَالعُسْرِ، وَحَظْرُ الضَّارِّ، وَإِبَاحَةُ النَّافِعِ، وَكَوْنُ مَا حُرِّمَ لِذَاتِهِ يُبَاحُ لِلضَّرُورَةِ، وَمَا حُرِّمَ لِسَدِّ الذَّرِيعَةِ يُبَاحُ لِلْحَاجَةِ، وَرَدُّ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا، والحكم بالعدل، لا بنظام الفيتو العنصري.
فأعاد فِعْل الطاعة مع الرسول ﴿وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ﴾ مَعَ أَنَّ حَرْفَ العَطْفِ يُغْنِي عَنْ إِعَادَتِهِ ليظهر أن للرسول أن يجتهد فيستقل بإصدار التشريعات؛ فهو مبلغ عن ربه، قائم بأمره، لا ينطق عن الهوى، ومهما قال فهو مسدد بالوحي، وليحذر ممن يتردد في التسليم لقوله وخبره مستقبلًا؛ إذ ذلك طريقة الانسلاخ من الإسلام كله، ومن معجزات النبي صلى الله عليه وسلم الغيبية خبره عن ذلك، حيث يحذر المسلمين ممن يتردد في التسليم لأمره وخبره مستقبلًا؛ ولذا قَالَ صلى الله عليه وسلم: «لاَ أُلْفِيَنَّ أَحَدَكُمْ مُتَّكِئًا عَلَى أَرِيكَتِهِ، يَأْتِيهِ الأَمْرُ مِنْ أَمْرِي مِمَّا أَمَرْتُ بِهِ، أَوْ نَهَيْتُ عَنْهُ، فَيَقُولُ: لاَ نَدْرِي مَا وَجَدْنَا فِي كِتَابِ اللَّهِ اتَّبَعْنَاهُ» [2].
الأصل الثالث: الرجوع إلى أولي الأمر الـمستنبطين من الـمصدرين السابقين أصالة، أو نيابة، ويذكر الله ذلك في قوله: ﴿وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ﴾ (النساء:59) وهم أهل الحل والعقد الذين تكون لهم السلطات العليا في البلد المسلم، ويضمون السلطة التشريعية والرقابية والقضائية، ويتقدمهم العلماء وذوو العقل والفقه ودين الله كما يقول مجاهد، وعنهم تنبثق تولية الأمراء والقيادات التنفيذية التي تدير مصالح الأمة.
فلم يقل ولي الأمر بل وأولي الأمر منكم فمن هم أولو الأمر المذكورون في الآية؟ الأَمْرُ المُشَارُ إِلَيْهِ هنا هو ذاته الأمر فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} [الشورى: 38] فذهب بعضهم إلى أنهم العلماء، وذهب آخرون إلى أنهم الحكام والأمراء، واسمع لمجاهد يصفهم فيقول فيهم: أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، وربما قال: أولي العقل والفقه ودين الله [3]، فاجمع كلامه لتجده عنى أنهم أولو العقل والفقه ودين الله، ومثل لهم بأصحاب النبي.
وعند الجمع بين هذه الأقوال تجد النور في فهمهم للآية؛ إذ معنى ذلك أن أولي الأمر ابتداء هم أهل الحل والعقد وهم الذين تكون لهم السلطات العليا في البلد المسلم، ويتكونون من العلماء وذوي العقل والفقه ودين الله كما يقول مجاهد.. هذا يعني:
أن الصفات الأساسية لهم: قوة العارضة العقلية، والاستقامة السلوكية، ويكون أساسهم العلماء العاملون، كما يوجد فيهم الخبراء من جميع التخصصات، وآلية اختيارهم قد تكون بالتزكية والشهرة بين الناس كما في عهد النبي صلى الله عليه وسلم والقرون المفضلة، وقد تكون بالانتخاب المقيد بشروط محددة في المنتخبين، وهذه الآلية أنسب لواقعنا وعصرنا الذي بعد عن عهد النبوة، وبتكون هذه السلطة التشريعية الرقابية يتم اختيار السلطة القضائية والسلطة التنفيذية، ثم تكون السلطات الثلاث النظام العام الذي يجتهد على حراسة المجتمع وسياسة الدنيا بالمنهج الذي ارتضاه الله للبشرية. وقد تم تطبيق هذا التصور في القرون المفضلة ولكن وفق تفصيلات مختلفة، وصور متعددة مع حدوث خلل جزئي كلما ابتعد الزمان عن عهد النبوة.
وعنهم ينبثق تولية الأمراء والقيادات التنفيذية التي تدير مصالح الأمة، ويكونون عليهم رقباء، فينشأ عن سلطاتهم تقسيم الوظائف الرئاسية والوزارية، وبذا ينتظم أهل الحّلِّ والعقد من: مسؤولي السلطة القضائية والتنفيذية والتشريعية، والعلماء وكبار المسؤولين العسكريين والاقتصاديين الذين يتولون المَصَالِح العَامَّة.
وينشأ عن مرجعية أهل الحل والعقد سلطتان:
1ـ سلطة الإجماع في القرارات الصادرة عن أهل الحل والعقد بإجماعهم.
لا عندما يختلفون، وهذا المصدر نستنبطه من المصادر الثلاثة السابقة فإن أهل الحل والعقد (السلطات التشريعية والرقابية والقضائية)، والسلطات التنفيذية قد يجمعون على شيء، فيجب الرجوع إليه، فعَنْ أَبِى مَالِكٍ الأَشْعَرِىَّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم «إِنَّ اللَّهَ أَجَارَكُمْ مِنْ ثَلاَثِ خِلاَلٍ أَنْ لاَ يَدْعُوَ عَلَيْكُمْ نَبِيُّكُمْ فَتَهْلِكُوا جَمِيعًا وَأَنْ لاَ يَظْهَرَ أَهْلُ البَاطِلِ عَلَى أَهْلِ الحَقِّ وَأَنْ لاَ تَجْتَمِعُوا عَلَى ضَلاَلَةٍ» [4]، وقد أشار إلى هذا الاستنباط الرازي والنيسابوري، فقال: «تعين أن يكون ذلك المعصوم كل الأمة أي أهل الحل والعقد وأصحاب الاعتبار والآراء» [5].
2ـ وسلطة القوة التنفيذية التشريعية، والرقابية، والقضائية، الذين تجب طاعتهم في غير معصية.
وبذا يظهر واضحًا قول من جمع بين العلماء والأمراء في مفهوم أولي الأمر [6]؛ إذ يعني ذلك أن العلماء هم أصحاب التشريعية والرقابية والقضائية، والأمراء هم أصحاب السلطة التنفيذية الخاضعة لسلطة العلماء الذين يؤيدهم المستشارون من شتى التخصصات.
وهذا واضحٌ تمام الوضوح من فعل الصحابة عندما اختاروا أبا بكر في الشورى التي تم عقدها في سقيفة بني ساعدة، فاجتمعوا عليه عن سواء لم يخالف في ذلك أحد من بعدهم إلا ما ذكر عن تأخر علي بسبب مرض فاطمة i، وبعد أن يتم اختيار أهل الحل والعقد لمن يقوم بالسلطات التنفيذية تجب الطاعة للسلطة التنفيذية المعينة من قبل السلطة التشريعية ثم تبقى السلطة الرقابية والقضائية قائمة لمراقبة سلوك السلطة التنفيذية، والأمة تفرض سلطتها، ولكن من خلال أهل الحل والعقد، ويتصفون كلٌّ في تخصصه بالصفات الأربع المذكورة في القرآن الكريم لأصحاب الولايات {إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ} [القصص: 26] ، {قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ} [يوسف: 55].
المجتمع الراشد يقوم على أساس العدل من جهة الحاكم، وعلى الطاعة والالتزام بالقوانين والقواعد والنظم والقرارات من جهة المحكوم، وينظم طبيعة العدل، وتفصيلاته، وطبيعة الطاعة وتفصيلاتها كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ولذا قدم ذكر طاعة الله وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم، وجعل طاعة الله وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم مطلقةً دون قيدٍ لبيان وجوب هذه الطاعة في المنشط والمكره والعسر واليسر وما يهوى الإنسان وما لا يهوى.. سواء أكان النشاط الحياتي الذي حكم فيه الشرع له أو عليه دون تردد أو مجاملة لأحد كائنًا من كان، ولذا قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ: حَقٌّ عَلَى الإِمَامِ أَنْ يَحْكُمَ بِمَا أَنْزَلَ اللَّه وَيُؤَدِّيَ الأَمَانَةَ، فَإِذَا فَعَلَ ذَلِكَ فَحَقٌّ عَلَى الرَّعِيَّةِ أَنْ يَسْمَعُوا وَيُطِيعُوا.
فالآيتان تفصلان الحقوق والواجبات التي على كل جهة من جهات الأمة حكامًا ومحكومين، وبين الطبري هذا التناسق بينهما فقال: هو خطاب من الله ولاةَ أمور المسلمين بأداء الأمانة إلى من وَلُوا أمره في فيئهم وحقوقهم، وما ائتمنوا عليه من أمورهم، بالعدل بينهم في القضية، والقَسْم بينهم بالسوية. يدل على ذلك ما وَعظ به الرعية في: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} [النساء: 59]، فأمرهم بطاعتهم، وأوصى الرّاعي بالرعية، وأوصى الرعية بالطاعة [7].
عن مصعب بن سعد قال، قال علي كلماتٍ أصاب فيهن: «حقٌّ على الإمام أن يحكم بما أنزل الله، وأن يؤدِّيَ الأمانة، وإذا فعل ذلك، فحقّ على الناس أن يسمعوا، وأن يُطيعوا، وأن يجيبوا إذا دُعوا» [8].
ولكن الرجوع إلى أولي الأمر، ليس على إطلاقه، بل مقيد بما لم يخالف الأصلين السابقين، ويُبَصِّرُنا بذلك أن الله لم يعد كلمة: ﴿أَطِيعُوا﴾ مع أولي الأمر؛ ليبين أن طاعتهم تبعية للمصدرين السابقين، وليست أصلية، وذلك ضمن الـمجتمع الـمسلم الـمشار إليه بقوله تعالى: ﴿وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ﴾ (النساء:59).
تعال لتملأ عينيك من الإعجاز البياني الذي يختزل الأحوال التشريعية المختلفة، فالله ذكر طاعته مطلقة دون تقييد باللفظ الصريح الآمر بها فقال: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ﴾ ثم ذكر طاعة الرسول ذكرًا مطلقًا دون قيدٍ فقال: ﴿وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ﴾، لكنه لما ذكر أولي الأمر قيد طاعتهم بأن تكون تابعة لطاعة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم؛ إذ لم يعد فعل الطاعة مع أولي الأمر ليبين أن طاعتهم مقيدة بما في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
فيجب طاعة أولي الأمر بناء على طاعتهم لله وطاعتهم لرسوله صلى الله عليه وسلم لا في الأمور المخالفة لذلك، فطاعتهم تبعية وليست أصلية، وهذا يؤدي إلى أن تكون جميع القوانين والتشريعات والنظم مستمدة من مصدر وحيد هو الشريعة الإسلامية.. وهذا ينافي أن تجعل بعض المجتمعات الإسلامية الشريعة مجرد مصدر رئيس فقط للتشريعات والقوانين ونظم المجتمع.
فإذا مثَّل أهل الحل والعقد الأمةَ، فاجتمعوا على أمر، فهو إجماع معصوم أو كالإجماع القريب من الحق، وإن اختلفوا وضعت آليات لصدور القرار عنهم حيث تجب طاعته، وبين النبي صلى الله عليه وسلم ضرورة الطاعة للسلطات التنفيذية المكونة من الأمراء ليتم الانضباط، ويحد من الفوضى في المجتمع، فعن أَبي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: مَنْ أَطَاعَنِي فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ، وَمَنْ عَصَانِي فَقَدْ عَصَى اللَّهَ، وَمَنْ أَطَاعَ أَمِيرِي فَقَدْ أَطَاعَنِي، وَمَنْ عَصَى أَمِيرِي فَقَدْ عَصَانِي [9].
ولكن النبي صلى الله عليه وسلم بين حدود هذه الطاعة، وأنها لا تكون في معصية، فعَنِ ابْنِ عُمَرَ، ﭭ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «السَّمْعُ وَالطَّاعَةُ حَقٌّ مَا لَمْ يُؤْمَرْ بِالمَعْصِيَةِ فَإِذَا أُمِرَ بِمَعْصِيَةٍ فَلاَ سَمْعَ، وَلاَ طَاعَةَ» [10].
ونهى لذلك عن منازعة أولي الأمر أي الخروج عليهم ما داموا لم يأمروا بمعاصي متتابعة يظهر منها المروق من الدين؛ فعن جُنَادَةَ بْنِ أَبِي أُمَيَّةَ قَالَ دَخَلْنَا عَلَى عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ وَهْوَ مَرِيضٌ قُلْنَا أَصْلَحَكَ اللَّهُ حَدِّثْ بِحَدِيثٍ يَنْفَعُكَ اللَّهُ بِهِ سَمِعْتَهُ مِنَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: دَعَانَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَبَايَعْنَاهُ، فَقَالَ فِيمَا أَخَذَ عَلَيْنَا أَنْ بَايَعَنَا عَلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ فِي مَنْشَطِنَا وَمَكْرَهِنَا وَعُسْرِنَا وَيُسْرِنَا وَأَثَرَةٍ عَلَيْنَا، وَأَنْ لاَ نُنَازِعَ الأَمْرَ أَهْلَهُ إِلاَّ أَنْ تَرَوْا كُفْرًا بَوَاحًا عِنْدَكُمْ مِنَ اللهِ فِيهِ بُرْهَانٌ [11].
قال ابن حجر مفصلًا المعنى: «وعند أبي بكر بن أبي شيبة من طريق أزهر بن عبد الله عن عبادة رفعه: «سيكون عليكم أمراء يأمرونكم بما لا تعرفون، ويفعلون ما تنكرون، فليس لأولئك عليكم طاعة» قوله عندكم من الله فيه برهان أي نص آية أو خبر صحيح لا يحتمل التأويل، ومقتضاه أنه لا يجوز الخروج عليهم ما دام فعلهم يحتمل التأويل. قال: النووي المراد بالكفر هنا المعصية، ومعنى الحديث: لا تنازعوا ولاة الأمور في ولايتهم ولا تعترضوا عليهم إلا أن تروا منهم منكرًا محققًا تعلمونه من قواعد الإسلام، فإذا رأيتم ذلك فأنكروا عليهم، وقولوا بالحق حيثما كنتم انتهى. وقال غيره: المراد هنا المعصية والكفر، فلا يعترض على السلطان إلا إذا وقع في الكفر الظاهر والذي يظهر حمل رواية الكفر على ما إذا كانت المنازعة في الولاية فلا ينازعه بما يقدح في الولاية الا إذا ارتكب الكفر، وحمل رواية المعصية على ما إذا كانت المنازعة فيما عدا الولاية، فإذا لم يقدح في الولاية نازعه في المعصية بأن ينكر عليه برفق ويتوصل إلى تثبيت الحق له بغير عنف» [12].
اضمم إلى جناحك هذه الكلمات القرآنية النبوية بالإجلال، وتأمل معهما ما ذكر في شرح النووي وابن حجر.. وأخبر بها عبيد السلطان، وعبيد سفارات الاستكبار الدولي في هذه الأيام.. أخبرهم عن القرآن والسنة وفهم أهل العلم لهما.. أخبرهم وذكرهم بأيام الله في الدنيا والآخرة.
ولقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن مفارقة الجماعة لمجرد شيءٍ يكرهه الإنسان من أميره، فعن ابْن عَبَّاسٍ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «مَنْ رَأَى مِنْ أَمِيرِهِ شَيْئًا يَكْرَهُهُ فَلْيَصْبِرْ عَلَيْهِ، فَإِنَّهُ مَنْ فَارَقَ الجَمَاعَةَ شِبْرًا فَمَاتَ إِلاَّ مَاتَ مِيتَةً جَاهِلِيَّةً» [13].
تذكر أن عدم المفارقة لا يعني عدم النصيحة، ولا يعني عدم قول الحق، ولا يعني ترك الأمر بالمعروف، ولا يعني ترك النهي عن المنكر.
وفرَّق النبي صلى الله عليه وسلم بين منازعة الأمر؛ إذ تكون مقيدة بالكفر البواح، وبين عدم الطاعة فإن مجرد الأمر بالمعصية كافٍ في عدم الطاعة.. فانظر لتجد أن النبي صلى الله عليه وسلم بقدر ما يأمر بطاعة تجده ينهى عنها حال وجود معصية، فعَنْ عَبْدِ اللهِ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «السَّمْعُ وَالطَّاعَةُ عَلَى المَرْءِ المُسْلِمِ فِيمَا أَحَبَّ وَكَرِهَ مَا لَمْ يُؤْمَرْ بِمَعْصِيَةٍ فَإِذَا أُمِرَ بِمَعْصِيَةٍ فَلاَ سَمْعَ، وَلاَ طَاعَة»[14]، وعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ﴾ قَالَ نَزَلَتْ فِي عَبْدِ اللهِ بْنِ حُذَافَةَ بْنِ قَيْسِ بْنِ عَدِيٍّ إِذْ بَعَثَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي سَرِيَّةٍ [15].
وقد ذكر أنه أمرهم بأمر فيه معصية واضحة، فعن عَلِيٍّ قَالَ بَعَثَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم سَرِيَّةً وَأَمَّرَ عَلَيْهِمْ رَجُلًا مِنَ الأَنْصَارِ وَأَمَرَهُمْ أَنْ يُطِيعُوهُ فَغَضِبَ عَلَيْهِمْ وَقَالَ أَلَيْسَ قَدْ أَمَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَنَّ تُطِيعُونِي قَالُوا بَلَى قَالَ عَزَمْتُ عَلَيْكُمْ لَمَا جَمَعْتُمْ حَطَبًا وَأَوْقَدْتُمْ نَارًا ثُمَّ دَخَلْتُمْ فِيهَا فَجَمَعُوا حَطَبًا فَأَوْقَدُوا فَلَمَّا هَمُّوا بِالدُّخُولِ فَقَامَ يَنْظُرُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ قَالَ بَعْضُهُمْ إِنَّمَا تَبِعْنَا النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فِرَارًا مِنَ النَّارِ أَفَنَدْخُلُهَا فَبَيْنَمَا هُمْ كَذَلِكَ إِذْ خَمَدَتِ النَّارُ وَسَكَنَ غَضَبُهُ فَذُكِرَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ لَوْ دَخَلُوهَا مَا خَرَجُوا مِنْهَا أَبَدًا إِنَّمَا الطَّاعَةُ فِي المَعْرُوفِ [16].
ونحن نرى في التطبيق الراشد للصحابة الكرام أن الطاعة لولي الأمر ليس على إطلاقه، بل هو مقيد بأن لا يكون في معصية، ولا حتى في أمور اجتهادية يغلب على الفرد أنها مخالفة للشريعة، واسمع إلى بعض الأمثلة المضيئة في ذلك، فعَنْ سَالِمٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ بَعَثَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم خَالِدَ بْنَ الوَلِيدِ إِلَى بَنِي جَذِيمَةَ فَدَعَاهُمْ إِلَى الإِسْلاَمِ فَلَمْ يُحْسِنُوا أَنْ يَقُولُوا أَسْلَمْنَا فَجَعَلُوا يَقُولُونَ صَبَأْنَا صَبَأْنَا فَجَعَلَ خَالِدٌ يَقْتُلُ مِنْهُمْ وَيَأْسِرُ وَدَفَعَ إِلَى كُلِّ رَجُلٍ مِنَّا أَسِيرَهُ حَتَّى إِذَا كَانَ يَوْمٌ أَمَرَ خَالِدٌ أَنْ يَقْتُلَ كُلُّ رَجُلٍ مِنَّا أَسِيرَهُ فَقُلْتُ وَاللَّهِ لاَ أَقْتُلُ أَسِيرِي، وَلاَ يَقْتُلُ رَجُلٌ مِنْ أَصْحَابِي أَسِيرَهُ حَتَّى قَدِمْنَا عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَذَكَرْنَاهُ فَرَفَعَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَدَهُ، فَقَالَ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَبْرَأُ إِلَيْكَ مِمَّا صَنَعَ خَالِدٌ مَرَّتَيْنِ [17].
وقال خالد بن الوليد: بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم في سرية ومعي عمار بن ياسر، فأصبنا ناسًا منهم أهل بيت قد ذكروا الإسلام، فقال عمار: إن هؤلاء قد وحدوا، فلم ألتفت إلى قوله فأصابهم ما أصاب الناس. قال: فجعل عمار يتوعدني لو قد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره، فلما رآه لا ينصره وَلَّـى وعيناه تدمعان -لعل ذلك لظنه خطأ فعله- قال: فدعاني فقال: «يا خالد لا تسب عمارًا؛ فإنه من يسب عمارًا يسبه الله، ومن يبغض عمارًا يبغضه الله، ومن يسفه عمارًا يسفهه الله» قال خالد: استغفر لي يا رسول الله، فو الله ما منعني أن أجيبه إلا تسفيهي إياه قال خالد: وما من شيء أخوف عندي من تسفيهي عمار بن ياسر يومئذ [18].
واسمع لهذا الحديث المهيب الجامع: فعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدِ رَبِّ الكَعْبَةِ قَالَ: دَخَلْتُ المَسْجِدَ فَإِذَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ العَاصِ جَالِسٌ فِي ظِلِّ الكَعْبَةِ وَالنَّاسُ مُجْتَمِعُونَ عَلَيْهِ، فَأَتَيْتُهُمْ فَجَلَسْتُ إِلَيْهِ، فَقَالَ: كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِى سَفَرٍ فَنَزَلْنَا مَنْزِلًا، فَمِنَّا مَنْ يُصْلِحُ خِبَاءَهُ، وَمِنَّا مَنْ يَنْتَضِلُ، وَمِنَّا مَنْ هُوَ فِى جَشَرِهِ إِذْ نَادَى مُنَادِى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: الصَّلاَةَ جَامِعَةً. فَاجْتَمَعْنَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ «… فَمَنْ أَحَبَّ أَنْ يُزَحْزَحَ عَنِ النَّارِ وَيَدْخُلَ الجَنَّةَ فَلْتَأْتِهِ مَنِيَّتُهُ وَهُوَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ، وَلْيَأْتِ إِلَى النَّاسِ الَّذِى يُحِبُّ أَنْ يُؤْتَى إِلَيْهِ، وَمَنْ بَايَعَ إِمَامًا فَأَعْطَاهُ صَفْقَةَ يَدِهِ وَثَمَرَةَ قَلْبِهِ فَلْيُطِعْهُ إِنِ اسْتَطَاعَ، فَإِنْ جَاءَ آخَرُ يُنَازِعُهُ فَاضْرِبُوا عُنُقَ الآخَرِ». فَدَنَوْتُ مِنْهُ فَقُلْتُ لَهُ أَنْشُدُكَ اللَّهَ آنْتَ سَمِعْتَ هَذَا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَأَهْوَى إِلَى أُذُنَيْهِ وَقَلْبِهِ بِيَدَيْهِ وَقَالَ سَمِعَتْهُ أُذُنَايَ وَوَعَاهُ قَلْبِي. فَقُلْتُ لَهُ هَذَا ابْنُ عَمِّكَ مُعَاوِيَةُ يَأْمُرُنَا أَنْ نَأْكُلَ أَمْوَالَنَا بَيْنَنَا بِالبَاطِلِ وَنَقْتُلَ أَنْفُسَنَا وَاللَّهُ يَقُولُ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا} [النساء: 29] قَالَ فَسَكَتَ سَاعَةً ثُمَّ قَالَ أَطِعْهُ في طَاعَةِ اللَّهِ وَاعْصِهِ في مَعْصِيَةِ اللَّهِ [19].
الأصل الرابع: إقامة المحاكم الدستورية، واللجان الشرعية لفض النزاع بالرجوع إلى الكتاب والسنة عند التنازع، ويُبَصِّرُنا بذلك قوله: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} [النساء: 59].
التَّنَازُعُ: من نزع الشيء ينزعه نزعُا، فهو منزوع ونزيع، وانتزعه فانتزع: اقتلعه فاقتلع على وجه الاستلاب. وانتزع الرمح: اقتلعه ثم حمل، وانتزع الشيء: انقلع شِدَّةُ الِاخْتِلَافِ، وَهُوَ تَفَاعُلٌ مِنَ النَّزْعِ، أَيِ الأَخْذِ، قَالَ الأَعْشَى:
نَازَعْتُهُمْ قُضْبَ الرَّيْحَانِ مُتَّكِئًا
وَقَهْوَةً مُزَّةً رَاوُوقُهَا خَضِلُ
فَأَطْلَقَ التَّنَازُعَ عَلَى الِاخْتِلَافِ الشَّدِيدِ الذي يشبه أن يقتلع كل واحد من الطرفين أو الأطراف شيئًا من عند الآخر على وجه الاستلاب والجذب لما ليس له، فإن كان ذلك على سبيل المزاح المتبادل كما يحدث بين الأصحاب أو الأزواج فهو تفكه يدل على التمتع والنعيم كما قال تعالى ذكره: {يَتَنَازَعُونَ فِيهَا كَأْسًا لَا لَغْوٌ فِيهَا وَلَا تَأْثِيمٌ} [الطور: 23].
وإن كان ذلك على سبيل تبادل الرأي، فهو مؤدٍّ إلى الفشل؛ إذ لا ينبغي أن يؤدي الاختلاف في الرأي إلى التنازع كما قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا} [الأنفال: 46] {فَتَنَازَعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى} [طه: 62]، ولا ينتهي إلا بانكسار أحد الأطراف كسرًا لا يبقي وحدة الفريق، ولا يحافظ على توافقه الفكري كالذي تسمعه في قوله جل ثناؤه: { إِذْ يَتَنَازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ فَقَالُوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْيَانًا رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ} [الكهف: 21] وهذا هو المراد في هذه الآية، فقوله ﴿ تَنَازَعْتُمْ ﴾ يدل على الاختلاف الفكري الشديد في قضيةٍ اختلافًا يؤدى إلى التجاذب، حتى يكاد كل طرفٍ أن يقلع شيئًا يعتبره الآخر حقًّا له.
وقوله ﴿ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ ﴾ يحتمل الوقوع، وذلك يعني أن الله تعالى ذكره قرر الوجود الطبيعي للتنازع، ويتصور التنازع بين ثلاث فئات: بين السلطات الثلاثة والأمة، وبين السلطات الثلاث نفسها: القضائية والتنفيذية والتشريعية، وبين أعضاء كل سلطة بذاتها، وبين أفراد الأمة أي فيما بينهم، وَيشَمَلَ التَنَازُعَ تنازع العُلَمَاءِ بَعْضِهِمْ مَعَ بعض فِي شؤون عِلْمِ الدِّينِ، فَمَا رُوِيَ عَنْ مُجَاهِدٍ وَمَيْمُونِ بْنِ مِهْرَانَ فِي تَفْسِيرِ التَّنَازُعِ بِتَنَازُعِ أَهْلِ العِلْمِ إِنَّمَا هُوَ تَنْبِيهٌ عَلَى الفَرْدِ الأَخْفَى مِنْ أَفْرَادِ العُمُومِ، وَلَيْسَ تَخْصِيصًا لِلْعُمُومِ [20].
فعند التنازع لا بد من تكوين مجالس شرعية خاصة للفصل تشبه المحاكم الدستورية العليا، ولا يرجع في ذلك إلى الأغلبية أو الأكثرية، وفي النظم الحديثة يتم التلاعب برأي الأكثرية حسب معايير متعددة لا تقف عند التهريج الإعلامي بل تصل إلى شراء الذمم، وتمويل الحملات وفق قواعد المصالح المتبادلة بين مراكز القوى والنفوذ؛ وذلك لأن قوله: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا } [النساء: 59] يدخل فيه عرض المسألة المختلف فيها المتنازع عليها على كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، كما يدخل فيه الرجوع إلى الخبراء الماهرين، وأصحاب الذكر والرأي في كل مسألة بحسبها لتنزيل الحكم الشرعي بحسبه، ولا بد مع ذلك من مراقبة الله تَعَالَى فِي طَلَبِ انْجِلَاءِ الحَقِّ فِي مَوَاقِعِ النِّزَاعِ، تَعْظِيمًا لِلَّهِ تَعَالَى [21].
وهذا يقتضي البحث بجهد عن القواعد العامة والخاصة المبثوثة في الكتاب والسنة مما يعضد الرأي الذي يميل إليه كل طرف، وليس الاختيال بالفهم السياسي المتفوق، أو بالحصافة والذكاء الذي حرم منه الطرف الآخر.
لعلك تُكْبِرُ الآن فقه أبي حازم حينما قال مسلمة بن عبد الملك: ألستم أمرتم بطاعتنا في قوله ﴿وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ﴾؟ قال: أليس قد نزعت عنكم إذا خالفتم الحق بقوله ﴿ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ ﴾؟ [22].
الأصل الخامس: القياس: ويُبَصِّرُنا به قَوْلَهُ: ﴿ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ ﴾، فلا يراد بالتنازع ما يكون حول أمر منصوصٍ عليه في الكتاب، والسنة، والإجماع، بل حول أمرٍ غير منصوصٍ عليه، فأسهل الطرق لمعرفة حكمه القياس على مثله مما هو منصوص.
[1] تفسير الرازي (10/ 112).
[2] أبو داود (4 / 329).
[3] تفسير الطبري ت شاكر (8/ 501).
[4] أبو داود (4 / 158)، وصحح الألباني الجملة الثالثة.
[5] تفسير النيسابوري (2/ 435)، تفسير المنار (5/ 149).
[6] تفسير ابن كثير (2/ 345).
[7] تفسير الطبري ت شاكر (8/ 492).
[8] تفسير الطبري ت شاكر (8/ 490).
[9] صحيح البخاري – ترقيم فتح الباري (9 / 77).
[10] صحيح البخاري – ترقيم فتح الباري (4 / 60).
[11] صحيح البخاري – ترقيم فتح الباري (9 / 59).
[12] فتح الباري لابن حجر (13 / 8).
[13] صحيح البخاري – ترقيم فتح الباري (9 / 59).
[14] صحيح البخاري – ترقيم فتح الباري (9 / 78).
[15] صحيح البخاري – ترقيم فتح الباري (6 / 57).
[16] صحيح البخاري – ترقيم فتح الباري (9 / 79).
[17] صحيح البخاري – ترقيم فتح الباري (5 / 203).
[18] المستدرك على الصحيحين للحاكم مع تعليقات الذهبي في التلخيص (3 / 439) وقال: صحيح الإسناد و لم يخرجاه.
[19] صحيح مسلم (6 / 18)، الجشر: إخراج الدواب للرعى، ينتضل : يرمى بالسهام.
[20] التحرير والتنوير (5/ 100).
[21] التحرير والتنوير (5/ 100).
[22] الكشاف للزمخشري (1/ 556).