المقالات

ما أسس الإدارة الراشدة التي تضمن أداء الحقوق الإنسانية إلى أصحابها؟

أ.د/ عبد السلام المجيدي

أدار الله سورة النساء على بيان حق الجنس الإنساني في الاستقرار والانتشار، ولذا لا بد أن يقيم أفراده الحقوق الإنسانية المختلفة المتبادلة، وذكر تعالى شأنه في القسمين السابقين الدور الخطير الذي يمارسه الصنف القيادي الذي يشتري الضلالة ويهدف إلى إضلال العالم؛ ليحرم الإنسانية من حقوقها.. وحتى لا تظن أن مسألة الحقوق الإنسانية مجرد كلامٍ ديني عاطفي جاء هذا القسم الإداري الدستوري لتجد فيه أن الله جل مجده أنزل إلى البشرية آيتين مركزيتين في السورة (النساء:58-59) تبينان الأسس الدستورية والتشريعية للإدارة الراشدة التي يجب إنشاؤها لتوصل الحقوق إلى الإنسانية، حتى يمكن للعالم أن يستوفي حقوقه.

ومن هذه الأسس:

الأساس السادس:

منع إدخال أي جهات أجنبية لتكون وساطات إصلاح عند التنازع. وهذا الأساس تبصرنا به الثقة التي يجب أن نغرسها بالـمصادر التشريعية الإسلامية، وهذه الثقة تجدها في قوله تعالى جده: {ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} [النساء: 59])، فما عند الله خير وأحسن عاقبة ومصيرًا إذا قورن بها أهم الشرائع الأرضية وأعظمها.

ومعنى {ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} أن رجوعكم إلى مصادركم التشريعية، وإلى الهيئات التي تشرف على تنفيذ هذه المصادر خير لكم وأحسن تأويلًا أي أحسن عاقبة ومصيرًا من أن تفكروا ببديل عنها، وقوله ﴿ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ ﴾ ليس اسما التفضيل على بابهما بل المراد تمامًا كما في قوله تعالى ذكره: {أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلًا} [الفرقان: 24] ، فإن قوله ﴿ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلًا ﴾ لا يعني أن أهل النار عندهم خير في المستقر وعندهم حسن ولكنه أقل مما عند أهل الجنة، وكذلك هذه الآية فإن قوله ﴿ خَيْرٌ ﴾ ﴿ وَأَحْسَنُ ﴾ ليسا على بابهما في أفعل التفضل بل المراد أن هذه المصادر وما ينبثق عنها هي التي تحوي الخيرية الكاملة، والحسن التام الذي يترتب عليه المصير الحسن، والنتائج الطيبة.. فانظر كم سَبَّبَ رجوعنا إلى الوساطات الأجنبية من الآلام والأوهام، ويمكن القول: هما على بابهما، إذ يبدو لكم أن هناك خيرية ما، وحسنًا ما في تشريعات مناقضة للمنظومة التشريعية الإسلامية.. فإن بدا لكم ذلك فلتتيقنوا أن المنظومة التشريعية الإلهية الظاهرة خير لكم وأحسن مصيرًا وعاقبة في شؤونكم الحيوية المختلفة.

إن الالتزام بالأصول التشريعية السابقة هو خير للأفراد والمجتمعات وأحسن تأويلًا أي مرجعًا ومصيرًا من كل مصلحة متوهمة يظنها الإنسان في غير الشريعة..

يترتب على ذلك شيوع الخير في نفسية الأفراد وأوضاع المجتمعات، وتوابع ذلك من الاستقرار الاقتصادي، والعدل الوظيفي والمجتمعي، وعدم شيوع الطبقية أو الطاغوتية التي يحرص أصحابها على تصدير التشريعات المناسبة لهم دون النظر إلى غيرهم، والاطمئنان إلى العاقبة الحسنة والمستقبل المشرق لمن يفعل ذلك، وهذا هو المعنى الأول لقوله ﴿ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا ﴾، فقوله: ﴿ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا ﴾ يعني الاطمئنان على صدق الإيمان من الإنسان حيث يجعل أكبر همه معرفة حكم الله وحكم رسوله صلى الله عليه وسلم، وهذا هو المعنى الثاني لقوله ﴿ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا ﴾، إن قوله ﴿ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا ﴾ يعني أن الرجوع إلى المصادر التشريعية السابقة هو الذي يحقق المصلحة، ويدرأ المفسدة، ولا يتنافى هذا مع قَاعِدَةِ جَلْبِ المَصَالِحِ وَحِفْظِهَا وَدَرْءِ المَفَاسِدِ وَإِزَالَتِهَا؛ لأن الذي يجلي الضوابط العامة لكون الأمر مصلحة أو مفسدة هي الشريعة، والمَصَالِحِ المُرْسَلَةِ كما يقول القَرَافِيُّ: عِنْدَ التَحْقِيقِ ثَابِتَةٌ فِي جَمِيعِ المَذَاهِبِ، وَمِنَ الأَدِلَّةِ عَلَيْهَا حَدِيثُ: «لَا ضَرَرَ، وَلَا ضِرَارَ».

وكذلك فإن قوله ﴿ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا ﴾ يعني الاجتهاد الشديد في البحث عن مراد الله تعالى في الأمور المختلفة مهما كانت غامضة ودقيقة، ومن لم يفعل ذلك فهو يحمل بذور الشر للعالم ويحاول جر الناس إلى مصير مجهول مليء بالمخاطر؛ لأن البحث عن المراد الشرعي ﴿ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا ﴾.

ستقول: أليس هذا الأساس قد سبق في الأساس الثالث؟

والجواب: بلى سبق ما يماثله، لكن الثقة التي بصرنا بها قوله جل ذكره: {إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا} [النساء: 58] ثقة اقترنت بالرقابة الإلهية على تطبيق أداء الأمانة وإقامة العدل، والثقة هنا لا بد من إعادتها وذلك لمنع إدخال أي وساطات أجنبية تأتي من الخارج لتحاول الفض بين المتنازعين.. حسبك فقط أن تنظر إلى النتائج الكارثية لدخول المؤسسات الأممية المرتزقة لتكون وساطات بين المتنازعين من الأمة.. حسبك أن ترى ذلك لتعلم لماذا قال الله جل في علاه عن التزام الأحكام الدستورية السابقة في بيان الإدارة الراشدة: ﴿ﰎ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا ﴾.

«تِلْكَ أُصُولُ الشَّرِيعَةِ الإِسْلَامِيَّةِ المَدَنِيَّةُ السِّيَاسِيَّةُ القَضَائِيَّةُ لَا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلَا أَمْتًا، وَلَا تُبْصِرُ فِيهَا غِلًّا وَلَا قَيْدًا، وَلَيْسَ فِيهَا عُسْرٌ وَلَا حَرَجٌ، وَلَا مَجَالَ فِيهَا لِلِاضْطِرَابِ وَالهَرْجِ، وَلَكِنْ لَمْ يَعْمَلْ بِهَا إِلَّا الخُلَفَاءُ الرَّاشِدُونَ عَلَيْهِمُ الرِّضْوَانُ، بِحَسَبِ مَا اقْتَضَتْهُ حَالُ الأُمَّةِ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ، فَكَانُوا مَعَ ذَلِكَ حُجَّةَ اللهِ عَلَى نَوْعِ الإِنْسَانِ، إِذْ لَمْ تَكْتَحِلْ بِمِثْلِ عَدْلِهِمْ عَيْنُ الدُّنْيَا إِلَى الآنِ» [1].


[1] تفسير المنار (5/ 157).


الكلمات المفتاحية: أسس الإدارة الراشدة التي تضمن أداء الحقوق الإنسانية إلى أصحابها