التحدي المستمر “إعجاز القرآن في مواجهة الزمن والعقول”
15 يوليو، 2024
210
وما قِصَّة طبيب مسيحيٍّ حاول أن يتحدى القرآن؟
لطالما كان القرآن الكريم موضوعًا للدهشة والإعجاب والتحدي على مر العصور.
تحدى الله تعالى البشرية قاطبة أن تأتي بسورة واحدة من مثله، وهو التحدي الذي ظلّ عبر القرون المتطاولة
﴿وَإِن كُنتُمۡ فِي رَيۡبٖ مِّمَّا نَزَّلۡنَا عَلَىٰ عَبۡدِنَا فَأۡتُواْ بِسُورَةٖ مِّن مِّثۡلِهِۦ وَٱدۡعُواْ شُهَدَآءَكُم مِّن دُونِ ٱللَّهِ إِن كُنتُمۡ صَٰدِقِينَ﴾ [البقرة: 23]
تبصرنا هذه الآية بالبصائر التالية:
بصيرة [1]
التَّحَدِّي بِسُورَةٍ، وليس بآيات تعادل سورة؛ لِأَنَّ مِنْ جُمْلَةِ وُجُوهِ الْإِعْجَازِ أُمُورًا لَا تَظْهَرُ خَصَائِصُهَا إِلَّا بِالنَّظَرِ إِلَى كَلَامٍ مُسْتَوْفًى فِي غَرَضٍ مِنَ الْأَغْرَاضِ، كما أن التَّحَدِّي بالسُّورَة يثبت بقاء التَّواتر اللَّفظي للقرآن الكريم، ويحقِّق استعصاءه على التَّغيير، مهما حاول شانئوه.
بصيرة [2]
منشأ التَّحَدِّي المدهش: الإعجاز القرآنيُّ المتنوع والمذهل؛ إذ يملك الكنوز التي يعجز الكلام البشريُّ عن استيعابها، فمنها ما يرجع إلى اللفظ، ومنها ما يرجع إلى المعنى، وبعض أنواع الإعجاز ظاهرة بمجرَّد النُّزول، وبعضها تظهر تباعاً حسب تقدُّم البشريَّة، واكتشافها للجديد؛ إما من خلاله، وإما من خلال معارفها، فتجد حقائقها متطابقة مع ما تمَّ ذكره في القرآن الكريم.
• هنا تدرك ما أراد ابن كثير حينما ذكر وجود وجوه خفيَّة للإعجاز القرآنيِّ في قوله: “ومن تَدَبَّرَ القرآن وجد فيه من وُجُوهِ الإعجاز فُنُونًا ظاهرة وخفيَّة، من حيث اللفظ، ومن جهة المعنى” (تفسير ابن كثير 1/ 199)
• فما هذا الذي تجدَّد بالقرآن من عظيم المزيَّة، وباهر الفضل، والعجيب من الرَّصف؛ حتى أعجز الخلق قاطبة، وحتى قهر من البلغاء والفصحاء القُوَى والقُدَر، وقيَّد الخواطر والفِكَر؛ حتى خرست خرست الشَّقاشِقُ، وعُدِمَ نُطْقُ الناطق، وحتى لم يَجْرِ لسان، ولم يُبِنْ بيان، ولم يُساعد إمكانٌ، ولم ينقدح لأحد منهم زَندٌ، ولم يمض له حدٌّ، وحتى أسالَ الوادي عليهم عجزًا، وأخذ منافذَ القولِ عليهم أخذًا؟!
• ويروي الدكتور (موريس بوكاي) أنموذجاً للإعجاز العلميِّ المذهل من خلال قِصَّة هامان المسؤول عن المحاجر الفرعونيَّة، ورئيس البنَّائين، الذي لم توجد قِصَّته في الكتب السَّابقة، ولم تُكتشف إلا مؤخرًا عبر الكتابة الهيروغليفية.
• والآن ماذا نقول إلا كما قال الله تعالى: {وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ ٱلۡغَرۡبِيِّ إِذۡ قَضَيۡنَآ إِلَىٰ مُوسَى ٱلۡأَمۡرَ وَمَا كُنتَ مِنَ ٱلشَّٰهِدِينَ ٤٤ وَلَٰكِنَّآ أَنشَأۡنَا قُرُونٗا فَتَطَاوَلَ عَلَيۡهِمُ ٱلۡعُمُرُۚ وَمَا كُنتَ ثَاوِيٗا فِيٓ أَهۡلِ مَدۡيَنَ تَتۡلُواْ عَلَيۡهِمۡ ءَايَٰتِنَا وَلَٰكِنَّا كُنَّا مُرۡسِلِينَ ٤٥ وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ ٱلطُّورِ إِذۡ نَادَيۡنَا وَلَٰكِن رَّحۡمَةٗ مِّن رَّبِّكَ لِتُنذِرَ قَوۡمٗا مَّآ أَتَىٰهُم مِّن نَّذِيرٖ مِّن قَبۡلِكَ لَعَلَّهُمۡ يَتَذَكَّرُونَ} [القصص: 44-46]؟
بصيرة [3]:
وُصِفَ النَّبيُّ J في آية التَّحَدِّي بالقرآن بالعبودية، ولم يوصف بالرِّسالة؛ لبيان المصدريَّة الإلهيَّة للقرآن، وكون عبده قائماً برسالته على وجه التَّكليف، والالتزام.
بصيرة [4]:
قوله {وَٱدۡعُواْ شُهَدَآءَكُم مِّن دُونِ ٱللَّهِ}: جملة إثاريَّة استفزازيَّة، تتضمَّن تحديًّا صارخًا مدهشًا؛ وذلك حتى يكتمل التَّحَدِّي، ويظهر العجز من الخَصْم.
وبذا يظهر لنا معانٍ لهذه الجملة الإثاريَّة الجدليَّة المتضمِّنة للتَّحدِّي:
• معنى [1]: ادعوا آلهتكم من غير الله من معبوداتكم، أو: ادعوا أكابركم من نصرائكم؛ ليعينوكم على المعارضة، والإتيان بشيء يماثل القرآن، فيكون الشهيد مجازًا عن النَّاصر، والمعين.
ويكون معنى قوله: {وَٱدۡعُواْ}: استنصروا، واستغيثوا.
• معنى [2]: ادعوا من يشهد لكم، أو ممن يشهد لكم ممَّن نرضاه وترضونه، ممَّن يقبل قولهم بأن ما أتيتم به يماثل القرآن.
ويكون معنى: {ٱدۡعُواْ}: اطلبوا حضورهم؛ ليشهدوا لكم.
بصيرة [5]:
عجزهم عن معارضته، واستمرار ذلك العجز أمر مؤكَّد محتوم، لا مراء فيه: {فَإِن لَّمۡ تَفۡعَلُواْ وَلَن تَفۡعَلُواْ}[البقرة: 24].
قوله: ﴿وَلَن تَفۡعَلُواْ﴾، فهذه معجزة قرآنيَّة مدهشة؛ لأنها تستفزُّهم استفزازًا شديدًا إلى أن يبذلوا أقوى وسائلهم لمعارضته ليثبتوا كذب هذه الجملة فحسب، لكن النَّتيجة أنهم: لم يفعلوا، وإمعاناً في التَّحدِّي رأيت النفي القرآني لفعلهم مقترناً بالمستقبل (ولن تفعلوا) في تحدٍّ مستمرٍّ عَلَى تَعَاقُبِ السِّنِينَ.
قِصَّة طبيب مسيحيٍّ حاول أن يستجيب للتَّحدِّي
تعالوا بنا إلى الدكتور إبراهيم خليل في كتابه الماتع “لماذا أسلم صديقي، ورأي الفاتيكان في تحدِّيات القرآن”؛ إذ نجده يحكي قِصَّة طبيب مصريٍّ مسيحيٍّ قرَّر كتابة كتاب يردُّ فيه على تحدِّي القرآن، واختار له عنواناً مثيرًا: “وانتهت تحدِّيات القرآن”، وقد كتب عناوين بعض الفصول قبل أن يكتب تفاصيل الكتاب، فاختار هذه العناوين الأشدَّ إثارة: (القضاء على أكبر الأكاذيب الدِّينيَّة في التَّاريخ)، (أخيرًا هزمنا القرآن بالضربة القاضية).. كتب لأجل ذلك ثمانية آلاف خطاب لجميع أنحاء العالم يستحثُّهم على كتابة (خمس عشرة كلمة) فقط هي عدد كلمات أصغر سُوَر القرآن لإثبات أنَّ التَّحدِّي القرآنيَّ قد فشل.
المفاجأة بعد أربع سنوات من إثارته لكلِّ من خاطبه لم يأته إلا أربعة ردود باهتة، تثبت بفحواها صدق القرآن، بدلاً من أن تتحدَّاه.. خاطب أَلْفَي عالم ومعهد وجامعة يستحثُّهم على الاستجابة لتحدِّي القرآن.
عبَّر عن خيبة أمله فقال: إنه أمر غريب أن يصاب العالم أجمع بعُقْم فكريٍّ، فلا يستطيع أحد من علماء القرن العشرين أن يعارض القرآن بـ(15) كلمة فقط، إنه أكبر ألغاز القرن العشرين!
وأمام العجز العالمي فالإعجاز القرآني، سواء كان في بيانه أو في معانيه أو في تشريعاته، شاهد على عظمته وهو دليل قاطع على أن القرآن الكريم كلام الله تعالى، وأن محمدًا صلى الله عليه وسلم رسول الله
وسيط تفسير سورة البقرة