الدوافـــع النفســية الخفيــة للتلاعـــب في أمــــوال اليتامـــى
18 يوليو، 2022
1128
{وَلَا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا وَبِدَارًا أَنْ يَكْبَرُوا} [النساء: 6]
لماذا ذكــر الله تعالــى هذين السببين فقط؟
تمتاز النفس البشرية بخلق الأعذار التي ترضي هوى صاحبها ليحصل على مبررات خادعة له وللناس من حوله وخصوصا في التعاملات المالية ولذلك تجد القرآن الكريم يشرح النفس ويبين الدوافع الخفية عند أصحابها، ومن ذلك قوله تعالى {وَلَا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا وَبِدَارًا أَنْ يَكْبَرُوا} [النساء: 6]
فقد بصرنا الله تعالى بأنه يحرم الاحتيال الذي يؤدي إلى أكل أموال اليتامى مطلقًا.
وقد تقدم النهي عن أكل أموال اليتامى في الآية الثانية بقوله تعالى {وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ} [النساء: 2] فلماذا كرر النهي في الآية السادسة؟
أولا- في قوله تعالى ذكره: {وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ} [النساء: 2] بَيَّنَ حرمةَ ضمِّ أموالِهم إلى أموال المجتمع.
وانظر لجمال التعبير حيث قال: ﴿وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ﴾ ولم يقل: ولا تضموا، ولذا انبثق عن هذا التعبير ثلاث صور:
الصورة الأولى: لا تأخذوها غصبًا، فتضيفوها إلى أموالكم، فهو غير الحق الأول لأن الحق الأول فيه المنع من الامتناع عن إيتاء اليتامى أموالهم، والمنع من التثاقل في ذلك، بينما هنا يخبر الله عن تحريم اغتصابها بضم أموالهم إلى أموالكم.
الصورة الثانية: لا تضموها إلى أموالكم بزعم الاستثمار لهم، على وجه الإرغام لهم، أو الحياء منهم على قبول ذلك، فتخلطوها، فتأكلوها جميعًا.
الـصورة الثالثة: لا تنفقوا على ميزانياتكم الـمشتركة في الأكل والتصرف حتى تميزوا مالكم من مال اليتيم؛ وعند ذلك يمكنكم الحساب الدقيق، والعدل في الأخذ والعطاء والاستثمار؛ ولذا عبر بـ(إلى) إشارةً إلى تضمين الأكل معنى الضم؛ تنبيهًا على أنها متى ضمت إلى مال الولي أكل منها، فوقع في النهي، فحض بذلك على تركها محفوظة على حالها.
ثانيا- في قوله تعالى {وَلَا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا وَبِدَارًا أَنْ يَكْبَرُوا} [النساء: 6] بَيَّنَ حرمة أكل أموالهم مطلقًا، فهنا تأتي سورة النساء لتعالج الدوافع النفسية الخفية التي تدفع الأوصياء أو الأيادي الخاطفة للتلاعب في أموال الأيتام فيذكر الله تعالى جده أهم سببين يدفعان إلى ذلك، وهما:
السبــب الأول: {إِسْرَافًا} [النساء: 6] أي احذروا أن تأكلوا أموالهم بسبب الإسراف في النفقات مثل تصرفٍ تزعمون أنه لصالح الأيتام، أو لحاجتكم في القيام على مصالحهم..
احترسوا أن تتجاوزوا حد الاعتدال في الإنفاق من مال اليتيم تلاعبًا، والإِسْرَافُ مُجَاوَزَةُ الحَدِّ فِي كُلِّ عَمَلٍ كما قال -تعالى مجدُه-:
{ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ} [المائدة: 32]، وَيُقَابِلُهُ القَتْرُ، وَهُوَ النَّقْصُ فِي النَّفَقَةِ عَمَّا يَنْبَغِي كما قَالَ -تعالى مجدُه-:
{وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا} [الفرقان: 67]، وبينهما القَوَامُ كَالقِيَامِ، وهُوَ الحد المعتدل الَّذِي تدور عليه الحياة الحقيقية المتزنة.
السبـــب الثاني: {وَبِدَارًا أَنْ يَكْبَرُوا} [النساء: 6]، أي فِي السِّنِّ، من كَبِرَ يَكْبَرُ – بِوَزْنِ عَلِمَ يَعْلَمُ، إِذَا كَبِرَتْ سِنُّهُ، وَأَمَّا كَبُرَ يَكْبُرُ – بِضَمِّ البَاءِ – فِي المَاضِي وَالمُضَارِعِ، فَهُوَ كَعَظُمَ يَعْظُمُ حِسًّا، أَوْ مَعْنًى، وَيُقَالُ: كَبُرَ عَلَيْهِ الأَمْرُ- بِضَمِّ المُوَحَّدَةِ- شَقَّ.
أي: تبتدر أياديكم بأكلها قبل أن يكبر الأيتام فيمنعوكم من التصرف في أموالهم..
بصيـــرة
هذا الهاجس النفسي ينصب الشيطان عنده الراية، فيجعلكم تحتالون بأنواعٍ من الحيل إما لإبقاء تلك الأموال تحت تصرفكم كالدخول في تجارات لا يمكنهم الفكاك عنكم فيها، وإما بأكلها والاستمتاع بها خوفًا من اليوم الذي تمنعون فيه من ذلك.. وقد يدعي بعض الأوصياء أن اليتيم ما زال يتيمًا وأنتم حريصون على استثمار ماله لمصلحة نفسه، وليس ذلك في حقيقة الأمر إلا ستارٌ من أجل حماية مال الوصي بمال اليتيم، فيدخله شريكا وهو يعلم أن اليتيم لا يربح كثيرًا ولا قليلًا، والرابح الحقيقي هو الوصي.. ونحو ذلك من أنواع الاحتيال، فكأن الله جل في علاه يقول: لا ينبغي لكم أن تأخذوا من أموال اليتيم بدارًا قبل ألا تستطيعوا التصرف فيها عندما يبلغ النكاح ويؤنس منه الرشد، فتحتالون على ذلك بأنواعٍ من الحيل التي تبقيها بأيديكم كأنها لكم.
انتبهوا أيها الأولياء لأن الله عزَّ وجلَّ الذي وضع هذا القانون هو المطلع على قلوبكم ونفوسكم، وهو يعلم أن بعض الناس يعجل قبل ان يكبر اليتيم.. ألا ترى كيف تفضح هذه الجملة العجيبة بواطن النفوس عندما يدغدغها الشيطان بالارتياح في إنفاق أموال الأيتام واستهلاكها قبل انتهاء مدة الوصاية؟.
ولماذا ذكر الله تعالى هذين السببين فقط؟
ذكر الله تعالى هذين السببين اللذين يدفعان الوصي إلى أكل أموال اليتامى لأنهما من مواطن مخادعة النفس؛ والإنسان مجبولٌ على نقائص منها الطمع وعدم الشبع، لا سيما إن وجد غطاء شرعيًا؛ وهو بذلك ينبه تنبيهًا شديدًا إلى كمائن النفوس ووساوس الشيطان التي تتسلل إلى أعماق القلوب..
وأدب الله الإنسان الطامع بقوله:
﴿وَلَا تَأْكُلُوهَا﴾ أي بعلة استحقاقكم لذلك بالعمل فيها [1] فيمكن للولي إذا أنكر عليه أحد إسرافه في صرف مال اليتيم، أو تصرفه به على نحوٍ ما أن يبادر إلى الإنكار بإظهار أحد أنواع الأعذار، فأراد الله -عزَّ ذكره- أن يذكره أن خفاء حقيقة الفعل عن البشر لا يعني غيابه عن رب البشر، وأن المرء تأتيه خطرات السوء وإرادات التلاعب فليحذر منها.
وبهذا التشريع الحقوقي تتم حماية مال اليتيم من أن تأكله الأيادي الخاطفة سواء أكانت لوصي أو لولي أو لقاضٍ أو لحاكم.
[1] نظم الدرر في تناسب الآيات والسور (5/ 197).