ما علاقة آية الشفاعة {مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً…} [النساء: 85] باستراتيجية أخذ الحذر؟
22 يناير، 2024
1161
وما فلسفة الشفاعة في الإسلام؟ (الشفاعة بين الاستراتيجية والإعانة)
يمضي القرآن في بيان أهم استراتيجيات الأمن والحماية للأمة والإنسانية وهي استراتيجية أخذ الحذر فيتعمق في بيانها وذكر مبادئها وفي أثناء ذلك يذكر القوانين المهمة ومنها:
يجب أخذ زمام المبادرة إلى نصرة أصحاب القضايا العادلة، ببذل الشفاعة لهم، وهي تعني القيام بكل ما يُستطاع؛ لإنجاح الأعمال بدعم القيادات الراشدة، وشفعها بالعاملين، أو الشفاعة لقضاء حاجة المحتاجين، إذ هي من الشفع الذي يعني جعل الفرد شفعًا. ويُبَصِّرُنا بذلك قوله: {مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا وَمَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتًا} [النساء: 85].
الشَّفع يدل عَلَى اقتران شَّيْئَيْنِ، يقال: كَانَ وِترًا فشفعته بآخر، فالشافع الذي انضم لغيره ليعضده ويساعده في تحقيق المطلوب.
فحقيقة الشفاعة أن تنصر غيرك، وتشفع فرديته، والكلام هنا عن النصر في القتال، لكنه يشمل كل نصر حتى في القيام بالشفاعات لقضاء الحاجات، وَيمكن أن تكون الشفاعة بالعكس بمساعدة الـمعادين، فقد حُكِيَ: إِنَّ فُلَانًا يَشْفَعُ (لِي) بِالعَدَاوَةِ، فالشَّفَاعَةُ: الوَسَاطَةُ فِي إِيصَالِ خَيْرٍ، أَوْ دَفْعِ شَرٍّ، سَوَاءٌ كَانَتْ بِطَلَبٍ مِنَ الـمنْتَفِعِ أَمْ لَا[1]، فإما أن تكون الشفاعة لتنمية المجتمع، إن كانت في مكانها، وإما أن تكون لتدمير الإنجازات، إذا كانت فاسدة، والشَّفَاعَةُ بذلك أن تصير غيرك شفعًا بعد أن كان وترًا فردًا لا أنيس له مع احتياجه، فيشمل ذلك أن تنصره بنفسك، أو أن تشفع له أي تكون واسطة في إِيصَالِ خَيْرٍ له أَوْ دَفْعِ شَرٍّ عنه ليستطيع إنجاز أهدافه، سَوَاءٌ كَانَتْ بِطَلَبٍ مِنَ المُنْتَفِعِ أَمْ لَا، وسواء أكانت بحقٍّ أم بباطل.
والشفاعة تدل على القيام بكل ما يستطاع؛ لإنجاح الأعمال بدعم القيادات الراشدة، وشفعها بالعاملين، أو الشفاعة للمحتاجين لإيصالهم إلى المكان المناسب لهم، فهذه تدخل في التحريض، فالله -تعالى مجدُه- كما أمرك أن تستقيم بما قمت بالتحريض عليه {فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ} [النساء: 84] يحض الله جل عزه المستمعين أن يقوم بعضهم ليؤيدك، فإن قام بعضهم لتأييدك فشفعك في عملك فيتحمس الآخرون لفعل الأمر ذاته، وهذا ما حصل عندما حرض النبي صلى الله عليه وسلم على الصدقة، فلم يتقدم أحدٌ حتى تغير وجه النبي صلى الله عليه وسلم، فعزز الله نبيه بواحد من الأنصار شفع بتحركه حيث جاء بصرة من ذهب، فانثال الناس من كل حدب وصوب؛ لأجل التقديم والإعانة بالصدقات حتى تهلل وجه النبي صلى الله عليه وسلم فعن جرِيرٍ -رضي الله عنه- قَالَ: كُنَّا عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي صَدْرِ النَّهَارِ، قال: فَجَاءَهُ قَوْمٌ حُفَاةٌ عُرَاةٌ مُجْتَابِى النِّمَارِ -يلبسون النمار: جمع نمرة وهى كساء فيه خطوط بيض وسود تلبسه الأعراب- أَوِ العَبَاءِ مُتَقَلِّدِي السُّيُوفِ، عَامَّتُهُمْ مِنْ مُضَرَ بَلْ كُلُّهُمْ مِنْ مُضَرَ فَتَمَعَّرَ وَجْهُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِمَا رَأَى بِهِمْ مِنَ الفَاقَةِ فَدَخَلَ، ثُمَّ خَرَجَ، فَأَمَرَ بِلاَلًا فَأَذَّنَ وَأَقَامَ فَصَلَّى ثُمَّ خَطَبَ فَقَالَ:
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء: 1]، وَالآيَةَ الَّتِي فِي الحَشْرِ {وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ} [الحشر: 18]. تَصَدَّقَ رَجُلٌ مِنْ دِينَارِهِ، مِنْ دِرْهَمِهِ، مِنْ ثَوْبِهِ مِنْ صَاعِ بُرِّهِ مِنْ صَاعِ تَمْرِهِ، – حَتَّى قَالَ – وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ». قَالَ: فَجَاءَ رَجُلٌ مِنَ الأَنْصَارِ بِصُرَّةٍ كَادَتْ كَفُّهُ تَعْجِزُ عَنْهَا، بَلْ قَدْ عَجَزَتْ – قَالَ: ثُمَّ تَتَابَعَ النَّاسُ، حَتَّى رَأَيْتُ كَوْمَيْنِ مِنْ طَعَامٍ وَثِيَابٍ، حَتَّى رَأَيْتُ وَجْهَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَتَهَلَّلُ كَأَنَّهُ مُذْهَبَةٌ (وهو الشيء المموه بالذهب) ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم «مَنْ سَنَّ فِي الإِسْلاَمِ سُنَّةً حَسَنَةً، فَلَهُ أَجْرُهَا وَأَجْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا بَعْدَهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ أُجُورِهِمْ شَىْءٌ، وَمَنْ سَنَّ فِي الإِسْلاَمِ سُنَّةً سَيِّئَةً، كَانَ عَلَيْهِ وِزْرُهَا وَوِزْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا مِنْ بَعْدِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ أَوْزَارِهِمْ شَىْءٌ»[2].
وذكر الشَّفَاعَةَ في هَذَا السِّيَاقِ؛ لِأَنَّ الشفاعة قد تؤثر إيجابًا وسلبًا في نجاح القيادة النبوية وكل قيادة في التعبئة العامة التي قال الله عنها من قبل: {وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ} [النساء: 84]، فإن كانت الشفاعة حسنة أدَّت إلى النجاح وإذا كانت شفاعةً سيئةً، فقد تبعد الناس عن واجباتهم، وتزين السوء وتؤدي إلى الفشل في الإدارات إذا كانت شفاعة سيئة، إذ قد تتم الشفاعة للإعانة على القيام بالواجبات سواء أكان ذلك في القتال كما في سياق الآيات، أم في غيره، وقد تؤثر بالعكس فيشفع الشافع لإبعاد الناس عن واجباتهم، وتزيين السوء والفشل في الإدارات.
ما الفرق بين الشفاعتين؟
أن الشفاعة الحسنة أَنْ يَشْفَعَ الشَّافِعُ ليصنع النجاح في الخير، ويزيل الضرر عن الغير كِإِزَالَةِ ضَرَرٍ أوَ رَفْعِ مَظْلَمَةٍ أو تنمية مصلحة إنسانية، أو القيام بمَنْفَعَةٍ إِلَى مُسْتَحِقٍّ لا يترتب عليها ضَرَرٌ وَلَا ضِرَارٌ، أو نصرة الجدير بالنصر، ومن ذلك نصرة القائد الذي يحرض المؤمنين ولم يجد مستجيبًا له، وَالشفاعة السَّيِّئَةُ الشفع فيما يؤدي إلى تكريس الفشل، وإيقاع الضرر على الآخرين، كأَنْ يَشْفَعَ في إِسْقَاطِ حَدٍّ، أَوْ هَضْمِ حَقٍّ، أَوْ إِعْطَائِهِ لِغَيْرِ مُسْتَحَقٍّ، أَوْ مُحَابَاةٍ فِي عَمَلٍ، بِمَا يَجُرُّ إِلَى الخَلَلِ وَالزَّلَلِ[3]، ويحث الله على التشفيع للآخرين في الأمور الحسنة فيقول: {مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا} [النساء: 85] فوعد الله بنصيبٍ من الأجر مماثل لكل واحدٍ شفع فيه، بل روى الطبري عن الحسن قال: ﴿ مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً ﴾ كتب له أجرها ما جَرَت منفعتها[4].
والآية تصنع وعيك لتكون في أعلى درجة من الإيجابية، بأن تشفع غيرك شفاعة حسنة لتكون النتائج الإيجابية مبهرة، وذلك يتحقق بأن ينضم إلى هذا الذي لا يكلفه الله إلا نفسه، أو يدعو إلى انضمام الناس أثناء التحريض على الخير، فيشفعه بنفسه وبغيره كما فعل صاحبا موسى عليه السلام {قَالَ رَجُلَانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ } [المائدة: 23] فعن أَبِي مُوسَى ، قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا جَاءَهُ السَّائِلُ، أَوْ طُلِبَتْ إِلَيْهِ حَاجَةٌ قَالَ: «اشْفَعُوا تُؤْجَرُوا وَيَقْضِي اللَّهُ عَلَى لِسَانِ نَبِيِّهِ صلى الله عليه وسلم مَا شَاءَ» [5].
وهذه الشفاعة الحسنة قد تسبب نتائج رائعة، فتؤدي إلى تقديم الشخصيات المؤهلة لأمكنتها اللائقة في الصف المسلم بشفاعةٍ حسنةٍ من المقربين من أولي الأمر، مع أن الشافع قد لا يمتلك مؤهلات المشفوع له بقوته واقتداره؛ لكنه ينبغي أن يذكر أن وصول المشفوع له إلى ما وصل إليه إنما كان بسببه، فكل خيرٍ يجري على يديه يكون له نصيب منه، ومثل أجره.
وفي المقابل {وَمَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتًا} [النساء: 85] فمن ينهزم أو يرتكب ما يزيد الأمر سوءًا، فيقوم بالتخذيل والتبطئة عن الصالحات، يكون قد شفع نفسه أو شفع غيره فانضموا لصفوف الخاذلين المخذلين؛ فيكون له كفل من هذه الشفاعة السيئة، و«الكِفْلُ» هو النصيب والحظ من الجريمة والوزر والإثم، وأصل الكلمة تدل عَلَى تَضَمُّنِ الشَّيْءِ لِلشَّيْءِ، ومِنْ ذَلِكَ الكِفْلُ كِسَاءٌ يُدَارُ حَوْلَ سَنَامِ البَعِيرِ، وَيُقَالُ هُوَ كِسَاءٌ يُعْقَدُ طَرَفَاهُ عَلَى عَجُزِ البَعِيرِ لِيَرْكَبَهُ الرَّدِيفُ، وَإِنَّمَا سُمِّيَ بِذَلِكَ لِمَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ أَنَّهُ يَدُورُ عَلَى السَّنَامِ أَوِ العَجُزِ، فَكَأَنَّهُ قَدْ ضُمِّنَهُ، ومن ذلك الكَفِيلُ، وَهُوَ الضَّامِنُ، تَقُولُ: كَفَلَ بِهِ يَكْفُلُ كَفَالَةً. وَالكَافِلُ: الَّذِي يَكْفُلُ إِنْسَانًا يَعُولُهُ. قَالَ اللَّهُ جَلَّ جَلَالُهُ: {وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا } [آل عمران: 37]، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ} [الحديد: 28] [6]، فالكفل هو الحظ المضمون، والنصيب الثابت المكفول الذي يكون ذخرًا للإنسان يكفله، فبئس كفالة السوء يدخرها الإنسان لنفسه، وذلك لأن «الشَّفَاعَةَ المُؤَدِّيَةَ إِلَى سُقُوطِ الحَقِّ وَقُوَّةِ البَاطِلِ تَكُونُ عَظِيمَةَ العِقَابِ عِنْدَ اللَّه تَعَالَى»[7]، كما أن كلمة {كِفْلٌ} تدل على أنه متكفلٌ بجرائرها -كما يقول سيد قطب: [8]«فالآية تشير إلى الشفاعة في القتال أو إلى الشفاعة في التخذيل وتبييت غير الذي تقتضيه الأوامر النبوية، وتعم كل شافع بخير أو شر»[9].
ما سبب ذكر كلمة {نَصِيبٌ} للشفاعة الحسنة وكلمة ﴿كِفْلٌ﴾ للشفاعة السيئة؟
النصيب القدر المحدد من نَصب الشيءِ: أقامه ووَضعُهُ وضعاً ناتئاً كنَصْبِ الرُّمْحِ والبِنَاء والحَجَرِ، قال النابغة الذُّبيانى:
ظَلَّت أَقاطِيع أَنْعامٍ مُؤبَّلة
لَدَى صليبٍ على الزَوْراءِ مَنْصُوب[10]
فكلمة (نصب) تدُلُّ عَلَى إِقَامَةِ شَيْءٍ وَإِهْدَافٍ فِي اسْتِوَاءٍ، ولأن الشيء المنصوب يظل على حاله لا يتغير في إقامته يتخيل المرء معه لو كان الإنسان مكانه التعب والعناء، ولذا قالوا: النُّصْبُ والنَّصَبُ: التَّعَبُ: العَنَاءُ، وَمَعْنَاهُ أَنَّ الإِنْسَانَ لَا يَزَالُ مُنْتَصِبًا حَتَّى يعْيا، وقرئ: {بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ} [ص: 41]، والنَّصِيبُ: الحَظُّ المَنْصُوبُ أي: المُعَيَّنُ المحدد الذي صار في حكم المرصود لشخص فلا يمنع منه، ولا يحوزه غيره[11]، ومن ذلك قوله تعالى: { أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ} [النساء: 53]، {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ} [آل عمران: 23]، وهذَا نَصِيبِي، أَيْ حَظِّي. وَهُوَ مِنْ هَذَا، كَأَنَّهُ الشَّيْءُ الَّذِي رُفِعَ لَكَ وَأَهْدَفَ. فاختيار التعبير بالنصيب هنا:
أولًا: يتناسب مع الأنصبة التي قسمها الله في الحقوق التي جعلها للرجال والنساء من الإرث وغيره بداية من قوله جل ذكره: {لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ} [النساء: 7].
ثانيًا: يدل على أن الخير والأجور المترتبة على الشفاعة الحسنة ستكون كالشيء المنصوب الظاهر الذي يعود للشافع؛ إذ قد يترتب على شفاعته الأضعاف المضاعفة من الخير بسبب المشفوع له.
ثالثًا: يدل على أن الشفاعة الحسنة قد يقترن بها النصب أي: التعب والإعياء؛ لتحقق أهدافها، فلا يحجزه النصب عن رؤية الفجر في النصيب الذي سيحصل له من الخير ورفعة المكانة عند الله جل في علاه.
وأما التعبير بكلمة ﴿كِفْلٌ﴾ في الشفاعة السيئة: فالكفل أَصْلٌ يَدُلُّ عَلَى تَضَمُّنِ الشَّيْءِ لِلشَّيْءِ، والكَفَالَةُ: الضّمان، تقول: تَكَفَّلَتْ بكذا، وكَفَّلْتُهُ فلاناً، والكَفَل -محركة- العَجُز، ومِنْ ذَلِكَ الكِفْلُ: كِسَاءٌ يُدَارُ حَوْلَ سَنَامِ البَعِيرِ، وَيُقَالُ هُوَ كِسَاءٌ يُعْقَدُ طَرَفَاهُ عَلَى عَجُزِ البَعِيرِ لِيَرْكَبَهُ الرَّدِيفُ كأنه يضمن للراكب الثبات، وللبعير الإمكانية المريحة لحمل راكبه، ونتج من إطلاق الكفل على الكساء أو على عجز الدابة أن يقولوا لِلرَّجُلِ الجَبَانِ كِفْلٌ، فهُوَ الَّذِي يَكُونُ فِي آخِرِ الحَرْبِ إِنَّمَا هِمَّتُهُ الإِحْجَامُ فيكون في مؤخّر الحرب بغية التأخر والفرار فَهَذَا إِنَّمَا شَبَّهَ بِالكِفْلِ؛ لأنَّهُ مَحْمُولٌ لَا يَقْدِرُ عَلَى مَشْيٍ وَلَا حَرَكَةٍ، شَبَّهُوهُ بِالكِفْلِ[12]، كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ:
أَعْيَا فَنُطْنَاهُ مَنَاطَ الجَرِّ
ثُمَّ شَدَدْنَا فَوْقَهُ بِمَرِّ[13]
وكأنه يحتاج إلى من يقوم به، ويهتم به كما يحتاج الكفل الذي على البعير إلى من يربطه، ويقيمه ليعين الآخرين. وبذا يكون اختيار التعبير بالكفل في الشفاعة السيئة هنا في قوله: {يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْهَا}:
أولًا: يتناسب مع حجم الضمان الذي سيتحمله الشافع، فالفساد الذي أوقعته شفاعته بتقديم المشفوع له على غيره يتفاوت من شخص إلى آخر، فهناك الفساد الذي سيحدثه المشفوع له، وهناك الفساد الذي سيحدثه سيطرة المشفوع له على مكانٍ لا يستحقه بدلًا من الصلاح الذي كان سيحدثه من يستحق الشفاعة الحسنة.. الشافع ضامن في ذلك كله.
فالكفل هو النصيب المحدد من الوزر الذي سيكتسبه، وهو مكفول مضمون لا يظن أنه يفوته، ولذلك قالوا: إن الشفاعة السوء تبدأ من طلب الشيء لمن لا يستحق وتصل إلى إعانة الجماعة المخذولة المخذلة المبطئة التي تبيت غير ما جاء في التوجيهات النبوية، وتشمل أداء الأمانات إلى غير أهلها، وتولية المسؤوليات لمن لا يقوم بحقها، والشفاعة التي يبطل به حق، ويحق بها باطل من أعظم مدمرات المجتمع.
ثانيًا: يتناسب التعبير بالكِفْلِ مع المعنى السيء للكفل، فهو العجز أو الشيء الرّديء، بسبب أنّ الكفل لـمـّا كان مركبا ينبو براكبه صار متعارفا في كلّ شدّة، كالسّيساء، وهو العظم النّاتئ من ظهر الحمار، ويقال: لأحملنّك على الكفل، وعلى السّيساء، فيكون معنى الآية: من ينضمّ إلى غيره معينا له في فعلة حسنة يكون له منها نصيب، ومن ينضمّ إلى غيره معينا له في فعلة سيئة يناله منها شدّة[14].
ثالثًا: وقيل: الكِفْلُ الكَفِيلُ، ونبّه أنّ من تحرّى شرّا فله من فعله كفيل يسأله، كما قيل: من ظلم فقد أقام كفيلا بظلمه، تنبيهًا أنه لا يمكنه التّخلّص من عقوبته[15].
رابعًا: أما قوله في سورة الحديد: {يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ} [الحديد: 28] أي: كفيلين من نعمته في الدّنيا والآخرة، وهما المرغوب إلى الله تعالى فيهما بقوله: {رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً} [البقرة: 201] وقيل: لم يعن بقوله: ﴿ كِفْلَيْنِ ﴾ أي: نعمتين اثنتين بل أراد النّعمة المتوالية المتكفّلة بكفايته، ويكون تثنيته على حدّ ما ذكرنا في قولهم: (لبّيك وسعديك)[16].
ويرى الدكتور حسن جبل أن المعنى المحوري يدور حول الادّعام على الشطر الخلفي من الشيء كالعَجُز للدابة والإنسان، ولُحِظ في الكساء المذكور أنه يدعَم الراكبَ على مؤخَّر ظهر البعير، أي يثبتِّه[17].
والظاهر عندي أنه لوحظ في التعبير عن الأجور في آية الحديد أن الله يحبو المؤمنين بكفلين من رحمته تثبتهم من الأمام والخلف أو عن أيمانهم وبين أيديهم كما في نور الصراط يوم القيامة، والتعبير بالكفل هنا أقوى من التعبير بالنصيب، حيث يتصور المرء أنه أمر خارجي حيث تتضمن الشفاعة السيئة عون من لا يستحق لينال ما لا يحق، وذلك دعم له فكوفئ الشافع من جنس فعله؛ إذ يحمل وزره وأوزارًا متراكمة بسبب فساده، وإيصاله فاسدًا إلى مكان يفسد فيه بسبب شفاعته.
خامسًا: وكلمة نصيب في سورة النساء بنيت على الفرحة، وتنبئ عن عطاء، أما كلمة كفل فقد تدل على فرحة كما في سورة الحديد: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ} [الحديد: 28] أو على الحزن كما هنا، فكلمة ﴿كِفْلٌ﴾ تدل على ثقل شديد مضمون وعلى مسؤولية حقيقية، كما أن الكفل هو الكساء الذي يغطي سنام البعير، والكفيل يضمن غيره، فهو تنبيهٌ إلى مدى مسؤوليته عن نتائج هذه الشفاعة السيئة التي بها بطَّأ عن الخير، أو أسهم في زيادة الشر والأشرار.
و «الحُكُومَةَ الَّتِي تَرُوجُ فِيهَا الشَّفَاعَاتُ يَعْتَمِدُ التَّابِعُونَ لَهَا عَلَى الشَّفَاعَةِ فِي كُلِّ مَا يَطْلُبُونَ مِنْهَا لَا عَلَى الحَقِّ وَالعَدْلِ، فَتَضِيعُ فِيهَا الحُقُوقُ، وَيَحُلُّ الظُّلْمُ مَحَلَّ العَدْلِ، وَيَسْرِي ذَلِكَ مِنَ الدَّوْلَةِ إِلَى الأُمَّةِ فَيَكُونُ الفَسَادُ عَامًّا» [18].
والآية تحذر من الفساد الكبير الذي يحل بالمؤسسات والمجموعات الإسلامية من جراء الشفاعات السيئة التي يتم بها تولية المناصب، وتوزيع الأدوار على غير المتأهلين، مما ينتج عنها البوار والخسار والدمار، وهنا يبتعد من الصف المسلم المستنبطون الحقيقيون عندما توجد الشفاعة السيئة؛ إذ يصل بها من لا يستحق إلى منصب أولي الأمر المستنبطين فيدمرون الصف المسلم؛ إذ لا يستطيع أولئك اتخاذ القرارات المناسبة في اللحظات المناسبة. وبذا فإن الشفاعة قد تسبب أحسن النتائج إذا كانت حسنة، وتسبب أسوأ النتائج إذا كانت سيئة.
ولخطورة موضوع الشفاعة وإسهامها في صنع النجاحات أو تراكم الإخفاقات ختم الله بالتذكير بأخذ الحذر من رب البشر، الذي يحصي الأوقات والأعمال، فقال تعالى ذكره: {وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتًا} [النساء: 85].
فالمقيت القدير الذي يقوت الناس أي يمنحهم ما يقوتهم، ويقيم قواتهم ويمسكها لهم على قدر حاجتهم محصيًا لها، من (قوت) التي تدُلُّ عَلَى إِمْسَاكٍ، وَحِفْظٍ، وَقُدْرَةٍ عَلَى الشَّيْءِ، ومنه: {وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا} [فصلت: 10]، وَأَنا أقُوتُه، أَي: أَعُولُه برِزْق قَلِيل، وحَلَفَ العُقَيْلِيّ يَوْمًا فَقَالَ: (لَا وقائتِ نَفَسِي القَصير) ومِنه قَوْله: يَقْتاتُ فضْلَ سَنامها الرَّحْلُ أي يأخذُ الرَّحْلُ شَحْمَ سَنامِ هَذِه الناقةَ قَلِيلا قَلِيلا حَتَّى لَا يَبقَى مِنْهُ شيءٌ؛ لِأَنَّهُ يُنْضِيها، فمعنى المقِيت: الحَفيظ الَّذِي يُعطِي الشيءَ قَدْرَ الحَاجة مِن الحِفْظ[19]، وهذا يقتضي أن يكون شاهدًا على كل شيء يحفظه بما يعطيه من قوت فيقيته به، ويقال ما له قوت ليلة وقيت ليلة، كما يقتضي أن يكون حسيبًا على مقدار هذا القوت، ورجح الطبري أن يكون معنى «المقيت»، القدير، واعتضد بقول للزبير بن عبد المطلب عمّ رسول الله صلى الله عليه وسلم:
وَذِي ضِغْنٍ كَفَفْتُ النَّفْسَ عَنْهُ
وَكُنْتُ عَلَى مَسَاءتِهِ مُقِيتَا[20]
أي: قادرًا. والمختار عندي أن قول الإمام الطبري لا يتناول كل معاني الاسم، فالمقيت أيضا الشاهد على كل شيء، يحفظه بما يعطيه في كل نفس يقتات فيه، ومن ذلك إحصاؤه لما يبيت، وما يظهر من تعضيد الناس في الخير، والدفاع عن حقوق المستضعفين، أو التعاون على الشر. وبناء على أوضحناه يكون معنى وكنت على مساءته مقيتا أي حفيظا شاهدا حسيبا أحسب أنفاسه لقوتي وبأسي كما يحسب المقيت حساب من يقوته، ومن ذلك قول السموأل بن عاديا فيما صحح روايته أبو سعيد السِّيرَافِيِّ:
رُبَّ شَتْمٍ سَمِعْتُهُ وَتَصَامَمْـ
تُ وَغَـيٍّ تَـرَكْتُـهُ فَكُفِيـتُ
لَيْـتَ شِـعْرِي وَأَشْـعُرَنَّ إِذَا مَا
قَرَّبُـوهَا مَنْـشُـورَةً وَدُعِـيتُ
أَلِيَ الفَـضْلُ أَمْ عَـلَيَّ إِذَا حُـو
سِبْـتُ. رَبِّي عَلَى الحِـسَابِ مُقِيتُ[21]
أَيْ: أنني سأوقف على الحساب فيحصى ربي علي كما تحصى حاجة المرء لما يقتاته. وذكر القفال في مناسبة ختم الآية بهذا الاسم المبارك من أسماء الله عزَّ وجلَّ أنه تَعَالَى قَادِرٌ عَلَى إِيصَالِ النَّصِيبِ وَالكِفْلِ مِنَ الجَزَاءِ إِلَى الشَّافِعِ مِثْلَ مَا يُوصِلُهُ إِلَى المَشْفُوعِ فِيهِ، إِنْ خَيْرًا فَخَيْرٌ، وَإِنْ شَرًّا فَشَرٌّ، وَلَا يَنْتَقِصُ بِسَبَبِ مَا يَصِلُ إِلَى الشَّافِعِ شَيْءٌ مِنْ جَزَاءِ المَشْفُوعِ، أو هو تَعَالَى حَافِظُ الأَشْيَاءِ شَاهِدٌ عَلَيْهَا لَا يَخْفَى عَلَيْهِ[22].
والذي يظهر -مع هذا المعنى- أنه تعالى أراد أن يبين أنه يحصي الأشياء بدقة متناهية كما يحصى القوت الذي يأتي على مقدار الحاجة، ومن ذلك إحصاؤه لما يُبَيت وما يظهر من تعضيد الناس في الخير والدفاع عن حقوق المستضعفين، أو من مساعدة الناس في الشر.
[1] التحرير والتنوير (5/ 143) .
[2] أخرجه مسلم (3 / 87) برقم (2398) .
[3] انظر: تفسير المنار (5/ 251).
[4] تفسير الطبري ت شاكر (8/ 582).
[5] صحيح البخاري – ترقيم فتح الباري (2 / 140) برقم (1432).
[6] مقاييس اللغة (5/ 187).
[7] تفسير الرازي (10/ 160).
[8] في ظلال القرآن (2/725).
[9] تفسير الطبري ت شاكر (8/ 581).
[10] ديوان النابغة الذبياني (ص: 4)92).
[11] انظر: تفسير المنار (5/ 249).
[12] انظر: المفردات في غريب القرآن، للراغب الأصفهاني (ص: 718).
[13] انظر: لسان العرب ط دار المعارف (6/4176).
[14] انظر: المفردات في غريب القرآن، للراغب الأصفهاني (ص: 718).
[15] السابق(ص: 718).
[16] السابق (ص: 717).
[17] المعجم الاشتقاقي المؤصل، دمحمد حسن جبل (4/909).
[18] تفسير المنار (5/ 251).
[19] تهذيب اللغة (9/ 197).
[20] تفسير الطبري ت شاكر (8/ 584).
[21] ديوان السموأل (ص / 6).
[22] تفسير الرازي (10/ 160).