تحليل دقيق لآية قرآنية كريمة: كشفٌ لنوعٍ آخر من الناس
28 أبريل، 2024
288
“الباحثون عن مصالحهم الذاتية دون مبالاة بالتزام السلام، فهم يترددون بين إلقاء السلام لكم وبين معاونة المعتدين عليكم”
[سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ كُلَّ مَا رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فِيهَا] (النساء: 91)
إشراقات التفسير البصائري على العالم
علم الاجتماع القرآني (27)
يُبَصِّرُنا الله بهم فيقول: {سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ كُلَّ مَا رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فِيهَا}، فلم يبح الاعتداء عليهم على الرغم من خيانتهم، بل قيد الاعتداء عليهم بمشاركتهم المباشرة في الاعتداء المسلح، فقال: {فَإِنْ لَمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَيُلْقُوا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ وَيَكُفُّوا أَيْدِيَهُمْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأُولَئِكُمْ جَعَلْنَا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا مُبِينًا}:
وتكمن دقة التحليل في النقاط التالية:
1. وصف دقيق للصنف:
- من هم؟ هم ناسٌ يظهرون للمسلمين رغبتهم في السلام، لكنهم عند عودتهم إلى قومهم المعتدين ينقلبون إلى خيانة المسلمين.
لاحظ كلمة ﴿آخَرِينَ﴾ هذا من التعبير القرآني البليغ؛ إذ تحتمل أن يكون المقصودون بها من المسلمين، وتحتمل أن يكونوا كفارًا، وهذا الذي درج عليه المفسرون، فـ﴿آخَرِينَ﴾ قد يراد بها المسلمون وقد يُراد بها الكفار الصرحاء لأدلة متعددة مثل قوله تعالى ذكره: {وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الْآخَرِينَ} [الشعراء: 64].
- ما دافعهم؟ مصالحهم الذاتية، دون مبالاة بالصدق أو الالتزام.
- ما سلوكهم؟ يتلاعبون بالمسلمين وقومهم، ويظهرون لكل طرف ما يريده.
- ما مثالهم التاريخي؟ قيل إنهم من قبيلتي أسد وغطفان، كانوا يسلمون ويُعاهدون المسلمين عند قدومهم إلى المدينة، ثم يكفرون وينقضون عهودهم عند عودتهم إلى قومهم.
- بم يختلفون عن الأصناف الثلاثة في الآية السابقة؟
يصف الله لك نقطة الاختلاف فيقول: {كُلَّ مَا رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فِيهَا}.
ما الفتنة التي يردون إليها؟
الفتن هي الاختبار الذي يفصل الطيب عن الخبيث، فيعرض الذهب والفضة والحديد على النار حتى يزيل خبث كل واحدٍ، وبذا فإن الفتنة هي الواقعة الظاهرة من وقائع الحياة التي يترتب عليها الظهور الواضح لحقيقة الإنسان سواء أكانت هذه الواقعة رخاء أو شدة، راحة أو عذابًا، غنى أو فقرًا..
فيظهرون للمسلمين الرغبة في السلام وكف اليد، ثم إذا جاءت وقائع الاختبار، فرجعوا إلى قومهم المعتدين فرأوا عندهم رهبًا أو رأوا رغبًا أركسوا أمام فتنة الواقع الذي يجدونه، أي: رجعوا إلى نجاساتهم من الخيانة والغدر فقالوا: نحن خدعنا المسلمين.. بل ذهبنا عينًا لكم عليهم فوجدنا من أسرارهم كذا وكذا.
2. بيان حكمهم:
- الأصل: عدم قتالهم، ما داموا ملتزمين بالاعتزال وعدم القتال وإلقاء السلم.
- الاستثناء: قتالهم إذا لم يلتزموا بشروط السلام الثلاثة:
الاعتزال: عدم الانحياز لأي طرف، فالاعتزال يقتضي أن يأخذوا جانب الحياد، فإن أبوا وأصروا على الانحياز لجانب المعتدين، فقد تحقق الشرط الأول لقتالهم، والانحياز يتحقق بأن ينضموا إلى المعسكر المعتدي أو بأن يوفروا لهم الدعم الخلفي (اللوجستي) أي: أن يدعموهم بالمعلومات وبالإمدادات الغذائية ونحو ذلك وهكذا.
إلقاء السلم: إظهار الرغبة الحقيقية في السلام، ألا يلقوا إليكم السلم، ولاحظ التعبير بإلقاء السلم، كأن السلم الذي هو السلام والصلح عبارة عن شيء محسوس بيدك، فحتى يتضح لك فعلًا أنك تريد السلام ألقه أي: ارمه من عندك أمام الآخرين حتى يتضح لي ذلك، فهذا تصويرٌ لضرورة أن يُظهروا السلم بصورةٍ لا تلاعب فيها.
كف اليد: عدم دعم أي طرف عسكريًا أو لوجستيًا، أن يكفوا أيديهم، وهذا تصويرٌ بليغٌ لإظهار أنفسهم بمظهر الحريص على عدم تأييد أحد الجانبين، فكف اليد يتحقق بمنعها من الحركة، وتقييدها من الفعل، وقد يتحقق بأن تمسك اليد الأولى باليد الأخرى لتكفها عن الحركة، فهذا التصوير {وَيَكُفُّوا أَيْدِيَهُمْ} تصويرٌ رائع يقتضي أن تبذل الجهات المختصة جهودًا كبيرة للتأكد الاستخباراتي من التزام هذا الطرف بما يزعمه من الاعتزال وإلقاء السلام وكف اليد.
3. تفسير دقيق لبعض الكلمات:
- آخَرِينَ: تحتمل أن تكون من المسلمين أو الكفار.
- يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ: يظهرون الإسلام نفاقًا أو يظهرون المعاهدة.
- كُلَّ مَا رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فِيهَا: يرجعون إلى خيانتهم وغدرهم عند الاختبار.
- يَكُفُّوا أَيْدِيَهُمْ: منع الأذى عن المسلمين.
4. تأكيد أهمية الالتزام الحقيقي بالسلام بحيث يظهر منه:
- إلقاء السلم: إظهاره بوضوحٍ دون تلاعب.
- كف اليد: عدم دعم أي طرف عسكريًا أو لوجستيًا.
5. استخلاص قاعدةٍ قرآنيةٍ عامة:
- المعيار الأساسي للعلاقات الدولية والداخلية: كف الأيدي عن الاعتداء، وإلقاء السلم، بغض النظر عن الدين.
6. الربط بين هذه الآية وآياتٍ أخرى:
[لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ] (الممتحنة: 8) عدم قتال من لم يعتدوا على المسلمين.
البقرة: [وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ] (البقرة: 190) قتال من يعتدي على المسلمين.
7. إبراز أهمية التفسير البصائري في العلاقات الدولية:
- أخذ الحذر: أساس السياسة الأمنية الإسلامية.
- تفصيل الأقسام: لبيان كيفية تطبيق السياسة الأمنية.
- يُساعد على فهم أنواع الناس وأحكامهم بدقة.
- يُسهم في إيجاد حلولٍ سلميةٍ للنزاعات.
8. الدعوة إلى تعليم طلاب الكليات العسكرية هذه الآيات:
- فهم استراتيجيات الأمن القائمة في القرآن الكريم.
- امتلاك أخلاقٍ عسكريةٍ حقيقيةٍ.
- إدارة المعارك العسكرية بكفاءةٍ عاليةٍ.
9. التنبيه على مخاطر التلاعب بالسلام:
يُحذر القرآن الكريم من التلاعب بالسلام لتحقيق مصالحٍ ذاتية.
يُؤكد على ضرورة الالتزام الحقيقي بالسلام لتحقيق الأمن.