ثلاث كلمات قرآنية تثري الحياة الإنسانية
27 يونيو، 2022
1047
إن خاصية الإعجاز بالإيجاز في القرآن مدهشة جدا، فعند التدبر تنثال المعاني للمتبصر، فقول الله تعالى {وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ} [النساء: 2] يبصرنا بخمسة حقوق بالنظر إلى هذه الكلمات، مع صور تتضمنها بعض تلك الحقوق الواجبات، وبيان الجهة التنفيذية لهذا الخطاب أفرادا وجماعات، فتعال معي في تطبيقات عملية مدهشة.
الحق الأول: يجب أن تُدفَع أموال اليتامى لأصحابها في وقتها الشرعي
ويُبَصِّرُنا بذلك المعنى الأول لقوله جل ذكره: {وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ} [النساء: 2]:
يوجه الله الخطاب للإنسانية مباشرة لبيان مسؤوليتهم في حراسة أموال اليتامى، فيقول: {وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ} فانظر لجوانب القوة والتأكيد على تسليم حقوق اليتامى في هذه الجملة لتسبي لُبَّك، وتنيرَ نفسَك:
فكلمة {آتوا} بمعنى أعطوا فالإيتاء هو الإعطاء إلا أن الذي يظهر لي أن الإيتاء إعطاء مع تهيئة المعطى على الوجه الأمثل ليتناول الشيء الذي سيعطاه مثل قوله -تعالى مجدُه-: {وَإِذْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَالْفُرْقَانَ} [البقرة: 53] ونحوها تجدها بلفظ الإيتاء غالبًا لا بلفظ الإعطاء، ومن ذلك إعطاء المستحقين حقوقهم يُعبر عنها بلفظ الإيتاء {وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ} [الإسراء: 26]، ولعله لذلك يقال: تأتى له الشيء، أي تهيأ، وتأتى له، أي ترفق وأتاه من وجهه، فالإيتاء إعطاء خاص، وذكر بعضهم أن في الإعطاء دليل التملك بخلاف الإيتاء كما في الفروق، ولا يظهر لي ذلك.
وكلمة ﴿أَمْوَالَهُمْ﴾ تذكر بالحقيقة التي ربما طال الزمان فطويت عن المخاطبين في عالم النسيان.. إنها أموالهم وليست أموالَكم، ونسبها إليهم مباشرة؛ لأن الـمقام مقام التشريع التقنيني، ويظهر جمال العطف في بيان الـمعنى؛ فكأن الله قال: واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام وآتوا اليتامى أموالهم، فإن ذلك من التقوى.
وإيتاء اليَتَامَى أموالهم يجب أن يكون في وقته الشرعي أي بعد أن يتحقق شرط قدرتهم على إدارة أموالهم مما سيرد في الآية السادسة، ومن ذلك أن يتجاوزوا مرحلة اليتم بأن يبلغوا النكاح.. وهنا لا بد أن تسأل: فكيف سماهم يتامى؟ مع أن النبي صلى الله عليه وسلم نفى عنهم صفة اليتم، فعن عَلِيّ بْن أَبِي طَالِبٍ: حَفِظْتُ عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «لاَ يُتْمَ بَعْدَ احْتِلاَمٍ، وَلاَ صُمَاتَ يَوْمٍ إِلَى اللَّيْلِ»، فهو يبين أن المحتلم لا تجري عليه أحكام اليتيم، فقد خرج من حيز اليتم، فكيف سمي في الآية يتيمًا؟
إنك خبيرٌ بأن اليتامى جمع يتيمٍ، وهو من مَاتَ أبوه فِي حَالِ صِغَرِهِ، كَأَنَّهُ بَقِيَ مُنْفَرِدًا، لَا يَجِدُ مَنْ يَدْفَعُ عَنْهُ، فالَيُتْمُ الِانْفِرَادُ، وَمِنْهُ الرَّمْلَةُ اليَتِيمَةُ وَالدُّرَّةُ اليَتِيمَةُ، وهي التي كمل حسنها فلا شبه لها، وَقِيلَ: اليُتْمُ فِي الأَنَاسِيِّ مِنْ قِبَلِ الآبَاءِ، وَفِي البَهَائِمِ مِنْ قِبَلِ الأُمَّهَاتِ، وفي الطير من فقد أبويه، فاليتيم ينفرد عن عائله وحاميه من الأخطار الحيوية الخارجية وهو أبوه، ولذا لم يطلقوا على من فقد أمه يتيمًا لأن كافله موجودٌ،
وإنما وصفهم بأنهم يتامى في الآية ليظهر لنا أكثر من معنى وأكثر من حق في هذه البينات المباركات، فمن ذلك:
أن تكون كلمة (اليتامى) مجازًا باعتبار ما كان، فيمكنك أَنْ تَقُولَ المراد من اليتامى الذين بلغوا أو كبروا، وإنما وصفهم باليتم باعتبار ما كان لِقُرْبِ عَهْدِهِمْ بِاليُتْمِ، وَإِنْ كَانَ قَدْ زَالَ فِي هَذَا الوَقْتِ كَقَوْلِهِ تعالى جده: {فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ } [الشعراء: 46] أَيِ الَّذِينَ كَانُوا سَحَرَةً قَبْلَ السُّجُودِ، وَأَيْضًا سَمَّى اللَّهُ تَعَالَى مُقَارَبَةَ انْقِضَاءِ العِدَّةِ، بُلُوغَ الأَجَلِ فِي قَوْلِهِ: {فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ} [الطلاق: 2] وَالمَعْنَى مُقَارَبَةُ البُلُوغِ.
وعندها تقول: وهل لوصفهم باليتم فائدة ثانية؟ لعلك ترى معي أن وصفهم باليتم -وإن بلغوا- يجعل المجتمع باقيًا على أهبته في حراسة حقوقهم وحمايتهم؛ إذ هم حديثو عهد بعالم البالغين وما فيه من مخاطر وربما ابتلعهم المستغلون، فكان هذا الوصف مرققًا للقلوب عند النظر إلى هؤلاء الذين دخلوا مرحلة الرشد في إدارة الأموال حديثًا، وليحدث الإسراع في تسليمهم أموالهم، ففور بلوغ اليتامى وقت الإذن الشرعي وجب أن تُسَلَّم إليهم الأموال.
ولكن مَن المخاطب؟ مَن المكلف بإيتاء اليتامى أموالهم؟ واضحٌ أن الآية لم تحدد جهة الخطاب، وذلك حتى يشمل كل من له علاقة:
فالمخاطب أولًا: هم الأوصياء على اليتامى، وثانيًا: المجتمع رعاة ورعايا، والإنسانية التي تعرف لمبادئ المحافظة على الحقوق الإنسانية معناها، فكلهم ينبغي أن يشرف على عملية تسلم اليتامى أموالهم حَالَ كَوْنِهِمْ يَتَامَى ممَا يَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ لِنَفَقَتِهِمْ، وَكُسْوَتِهِمْ، وينبغي أن يشرفوا على تسليم اليتامى أموالهم بعد أن يصلوا إلى سنة التسلم، وينبغي أن ينتزعوها لهم حال تلاعب الأوصياء بها، فالمجتمع بحكومته وأمته يدخل في الخطاب، فإن ظلمهم الأوصياء تولى المجتمع إنصافهم.
فإن خطر عليك أن تسأل: ما المال المعطى؟
فهو المال الذي يستحقه الأيتام للإنفاق عليهم حال يُتْمهم، والمال الذي يملكونه فيُدفَعُ إليهم حال بلوغهم عندما يصيرون في وضعية الأهلية لإدارته وتملكه.
الحق الثاني: يجب توريث الصغار الذين أشار إليهم باسم اليتامى مع وجود الكبار، ويُبَصِّرُنا بذلك الـمعنى الثاني لقوله تعالى: {وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ} [النساء: 2]:
ما دليل هذا المعنى؟
روى الطبري عَنْ جَابِرِ بْنِ زَيْدٍ أَنَّهُ قَالَ: «نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ فِي الَّذِينَ لَا يُوَرِّثُونَ الصِّغَارَ مَعَ وُجُودِ الكِبَارِ فِي الجَاهِلِيَّةِ»
ما المعنى الثاني؟
ويكون معنى: ﴿وَآتُوا﴾ عينوا لهم حقوقهم الإرثية التي سيستلمونها بعد البلوغ وإيناس الرشد.
الحق الثالث: يجب حفظ أموال اليتامى من قبل الجهات الـمختلفة في الـمجتمع وحمايتها من الأيدي الخاطفة
كيف يتم الحفظ؟
ويمكن أن يتم ذلك بتعيين هيئات مختصة بهذا الـموضوع، ويُبَصِّرُنا بذلك المعنى الثالث لقوله {وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ} [النساء: 2]:
إذ قال الزمخشري: «يُرَادُ بِإِيتَائِهِمْ أَمْوَالَهُمْ أَنْ لَا يَطْمَعَ فِيهَا الأَوْلِيَاءُ وَالأَوْصِيَاءُ وَوُلَاةُ السُّوءِ وَقُضَاته، وَيَكُفُّوا عَنْهَا أَيْدِيَهُمُ الخَاطِفَةَ حَتَّى تَأْتِيَ اليَتَامَى إِذَا بَلَغُوا سَالـمةً»
كيف يفهم هذا المعنى؟
أطلق اللَّازِم وهو الإيتاء وأراد الملزوم وهو الحفظ، أَو هو مجَازٌ بالمآل؛ إِذِ الحِفْظُ ينتجُ عنه الإِيتَاء
هل معنى الحفظ مقتصر على ما قاله الزمخشري؟
ولعلك -أيدك الله- ترى معي أن المعنى أوسع مما ذكره الزمخشري إذ يجب حفظها من الأيدي الخاطفة، وكذلك من أن تنقص قيمتها بأن تبحث الهيئات المعنية في الكيفية الآمنة لاستثمارها لليتامى.
الحق الرابع: النفقة على اليتامى من أموالهم تكريمًا وتأديبًا وتعليمًا وتربية وتزكية
ومعنى آتوا أي أنفقوا.
ويدخل في ذلك الحاجات الأساسية من المطعم والمشرب والسكن.
هل كلمتا (اليتامى، أموالهم) حقيقتان حسب هذا المعنى أم مجاز؟
فكلمتا (اليتامى، أموالهم) هنا حقيقة لا مجاز كما ترى، وهذا هو المعنى الرابع،
ويكون المعنى {وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ} [النساء: 2] حَالَ كَوْنِهِمْ يَتَامَى ممَا يَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ من نفقة وكسوة للمطعم والمشرب والكسوة والسكن والتعليم، فاليتامى هنا حقيقة لا مجاز.
الحق الخامس: {وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ} أي أنفقوا عليهم من أموالكم حال عدم وجود مالٍ عندهم؛ لأنه يجب على كل إنسان عنده فضل مال أن ينفق على الضعيف الذي لا مال عنده ولو كان مكلفًا، فكيف باليتيم؟
فاليتامى هنا حقيقة، وكلمة ﴿أَمْوَالَهُمْ﴾ مجاز، فهي أموالكم لكن لهم حق فيها؛ إذ أنتم مستخلفون في هذه الأموال، فهذا هو المعنى الخامس لقوله جل ذكره {وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ} [النساء: 2]:
فقد صرَّح الله جل ذكره بأن ما في أيديكم من الأموال ليست لكم على الحقيقة، وذلك في قوله جل مجده {وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ} [الحديد: 7]، وتكاثرت النصوص في هذا المعنى، ومنها ما جاء عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ اللَّهَ عزَّ وجلَّ يَقُولُ يَوْمَ القِيَامَةِ: يَا ابْنَ آدَمَ مَرِضْتُ فَلَمْ تَعُدْنِي. قَالَ: يَا رَبِّ كَيْفَ أَعُودُكَ وَأَنْتَ رَبُّ العَالَمِينَ؟ قَالَ: أَمَا عَلِمْتَ أَنَّ عَبْدِي فُلاَنًا مَرِضَ فَلَمْ تَعُدْهُ؟ أَمَا عَلِمْتَ أَنَّكَ لَوْ عُدْتَهُ لَوَجَدْتَنِي عِنْدَهُ؟ يَا ابْنَ آدَمَ اسْتَطْعَمْتُكَ فَلَمْ تُطْعِمْنِي. قَالَ: يَا رَبِّ وَكَيْفَ أُطْعِمُكَ وَأَنْتَ رَبُّ العَالَمِينَ؟ قَالَ: أَمَا عَلِمْتَ أَنَّهُ اسْتَطْعَمَكَ عَبْدِي فُلاَنٌ فَلَمْ تُطْعِمْهُ؟ أَمَا عَلِمْتَ أَنَّكَ لَوْ أَطْعَمْتَهُ لَوَجَدْتَ ذَلِكَ عِنْدِي؟ يَا ابْنَ آدَمَ اسْتَسْقَيْتُكَ فَلَمْ تَسْقِنِى. قَالَ: يَا رَبِّ كَيْفَ أَسْقِيكَ وَأَنْتَ رَبُّ العَالَمِينَ؟ قَالَ: اسْتَسْقَاكَ عَبْدِى فُلاَنٌ، فَلَمْ تَسْقِهِ. أَمَا إِنَّكَ لَوْ سَقَيْتَهُ وَجَدْتَ ذَلِكَ عِنْدِي؟» [1].
تصور ذلك!
فلو عمل المسلمون بذلك لما بقي محتاج ولا يتيم مضيع، وحسبك أن تبكي ألـمًا وقهرًا عندما تسمع عن ضياع أكثر من عشرة آلاف طفلٍ من المهاجرين الذين وصلوا إلى أوروبا ممن تم تسجيلُهم رسميًا، والشرطة تتحدث عن احتمال ذهابهم لعصابات الإفساد من تجار الجنس والأعضاء.. فما بال المسلمين قطعوا أوصال الإنسانية بالحدود الوهمية التي وضعوها بينهم وبين بقية أعضاء الجسد الواحد.. ألا ساء ما يأفكون!
فهذه خمسة حقوق لليتامى تبصرنا بها الجملة الأولى من هذه الآية المباركة، وانظر للثراء البياني فيها، وذاك يعجز عنه كلام البشر {إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ (13) وَمَا هُوَ بِالْهَزْلِ} [الطارق: 13، 14].
[1] صحيح مسلم (8 / 13) برقم 6721.