جمال الكلمة القرآنية (5)
17 نوفمبر، 2022
528
{إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا} [النساء: 17]
ما أسرار التعبير القرآني الرائع ﴿مِنْ قَرِيبٍ﴾؟
لا تنقضي عجائب القرآن التي تدهش الإنسان، وهذا التعبير الرائع ﴿مِنْ قَرِيبٍ﴾ يفتح الباب للتوبة من الذنب لتكون في زمانها على مرتبتين:
الـمرتبة الأولى: الزمن القريب من الذنب، حيث يذنب العبد فما هو إلا أن يفرغ منه حتى يشعر بآلامه، ف ذكر الله هذا القيد هنا ليبين حال العبد الذي ضعف أمام الذنب فقارفه، وما إن قضى منه وطره حتى أصابه وخز الضمير، ورجَّه ألم العصيان، وأضناه موافقة الشيطان، فرجعَ يبحث عن سبيلٍ لإرضاء الرحمن، فالله يصف حاله إذ ندم فرجع وتاب من قريب، أي من بعض زمان ﴿قَرِيبٍ﴾ من زمن المعصية، فهو في صراعٍ دائمٍ يوقعه الشيطان والضعف المتأصل في الإنسان في الذنب، فيوقع العبد نفسه في الندم والألم من خلال (التوبة القريبة)، والألم يدل على أنه لم يطبع على قلبه، وقد فتح النبي صلى الله عليه وسلم الآمال واسعةً في قبول التوبة القريبة مهما تكررت، فعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم : «إِنَّ لِكُلِّ مُؤْمِنٍ ذَنْبًا قَدِ اعْتَادَهُ الفَيْنَةَ بَعْدَ الفَيْنَةِ، أَوْ ذَنْبًا لَيْسَ بِتَارِكِهِ حَتَّى يَمُوتَ، أَوْ تَقُومَ عَلَيْهِ السَّاعَةُ، إِنَّ المُؤْمِنَ خُلِقَ مُذْنِبًا مُفَتَّنًا خَطَّاءً نَسَّاءً فَإِذَا ذُكِّرَ ذَكَرَ» [1].
فقوله: ﴿مِنْ قَرِيبٍ﴾ تشير إلى إمكانية حدوث صراعٍ حقيقيٍ داخل الإنسان إذا ضعف ووقع في العصيان؛ إذ ينبغي له أن يسارع فيغالب ضعفه ويرجع إلى الرحمن، فمهما عاد الشيطان ليغريه بالعصيان عاد مستغفرًا إلى الرحمن، دون أبطاء أو تأخير أو توانٍ، فكلمة ﴿ قَرِيبٍ ﴾ تفتح باب الأمل مهما تكرر الذنب.
وتدل على ضمير المؤمن بالله ومراقبته لله وشعوره بالحساب وخوفه من الوقوف بين يدي الملك الوهاب.
والآن تعال بنا ننظر في بلاغة هذه الكلمة «ثم» في الجملة وموقعها..
إنها تبين شدة إمساك هذا الذنب بنفس المذنب.. تشير إلى سوء واقع هذا المذنب بوقوعه في شَرَك هذه المعصية التي لا يخلص منها إلا بعسر، فقال: ﴿ثُمَّ﴾ فهي تشير إلى التراخي في الإقدام على التوبة.. وكيف يكون هناك تراخٍ، ونحن نقول: إذا قضى المؤمن وطره من الذنب سارع إلى التوبة؟ التراخي هنا تعبيرٌ عن الإنسان إذا وقع في شباك المعصية وأفخاخها؛ إذ لا يخلص منها غالبًا إلا بعد عسر، فلابد له من المكابدة حتى لو تأخر، حتى لو أمسكه الذنب واستهواه واستحلاه؛ لأن طبيعة الهوى لا ينزع عنه إلا وهو يميل إليه.. لذلك يسمى الذنب (هوى)، فالذنب يمسك بتلابيب الإنسان، وربما يكون الإنسان قد استمرأه، واستلذه لكنه ينازعه ما في قلبه من خوف ربه، فينزع عنه، وذا قد يستغرق وقتا فعبر عنه بكلمة ﴿ ثُمَّ﴾، وتجد النبي يحث على هذه التوبة القريبة التي ترغم الشيطان فيقول: «إن الشيطان قال وعزتك يا رب لا أبرح أغوي عبادك ما دامت أرواحهم في أجسادهم قال الرب وعزتي وجلالي لا أزال أغفر لهم ما استغفروني» [2]، ويوضح النبي صلى الله عليه وسلم أنموذجًا لهذا الصراع بين العبد والشيطان والتوبة القريبة فيقول: «إِنَّ عَبْدًا أَصَابَ ذَنْبًا، وَرُبَّمَا قَالَ أَذْنَبَ ذَنْبًا – فَقَالَ رَبِّ أَذْنَبْتُ، وَرُبَّمَا قَالَ أَصَبْتُ – فَاغْفِرْ لِي فَقَالَ رَبُّهُ أَعَلِمَ عَبْدِي أَنَّ لَهُ رَبًّا يَغْفِرُ الذَّنْبَ وَيَأْخُذُ بِهِ غَفَرْتُ لِعَبْدِي ثُمَّ مَكَثَ مَا شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ أَصَابَ ذَنْبًا، أَوْ أَذْنَبَ ذَنْبًا فَقَالَ رَبِّ أَذْنَبْتُ، أَوْ أَصَبْتُ – آخَرَ فَاغْفِرْهُ فَقَالَ أَعَلِمَ عَبْدِي أَنَّ لَهُ رَبًّا يَغْفِرُ الذَّنْبَ وَيَأْخُذُ بِهِ غَفَرْتُ لِعَبْدِي ثُمَّ مَكَثَ مَا شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ أَذْنَبَ ذَنْبًا، وَرُبَّمَا قَالَ أَصَابَ ذَنْبًا- قَالَ: قَالَ رَبِّ أَصَبْتُ، أَوْ أَذْنَبْتُ – آخَرَ فَاغْفِرْهُ لِي فَقَالَ أَعَلِمَ عَبْدِي أَنَّ لَهُ رَبًّا يَغْفِرُ الذَّنْبَ وَيَأْخُذُ بِهِ غَفَرْتُ لِعَبْدِي – ثَلاَثًا – فَلْيَعْمَلْ مَا شَاءَ» [3].
المرتبة الثانية: زمن الحياة الدنيوية كاملًا، فمهما أذنب وتأخر في التوبة، فما زال الوقت قريبًا ما دام حيًا، فهذا التعبير يفتح الباب للتوبة ما دام العبد لم يغرغر، فإنه يظل في حيز (القرب)، وهو تعبيرٌ رقيق يستحث الله فيه العبد المذنب البعيد عن ربه ومولاه ليرجع إليه ويراجعه مهما طال الزمان وتباعدت عن الرحمن خطاه إذا لم تبدأ روحه بمفارقة جسده، فالقرب هنا كنايةٌ عن عدم الإصرار إلى الموت وَسَمَّى تَعَالَى هَذِهِ المُدَّةَ قَرِيبَةً لأَنَّ الأَجَلَ آتٍ وَكُلُّ مَا هُوَ آتٍ قَرِيبٌ. ولِلتَّنْبِيهِ عَلَى أَنَّ مُدَّةَ عُمْرِ الإِنْسَانِ وَإِنْ طَالَتْ فَهِيَ قَلِيلَةٌ قَرِيبَةٌ مَحْفُوفَةٌ بِطَرَفَيِ الأَزَلِ وَالأَبَدِ-كما يقول الرازي-وليتوقع الإِنْسَانَ فِي كُلِّ لَحْظَةٍ نُزُولَ المَوْتِ بِهِ، فعَنْ عِكْرِمَةَ فِي قوله تعالى: ﴿إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ﴾ قَالَ: الدُّنْيَا كُلُّهَا قَرِيبٌ، كُلُّهَا جَهَالَةٌ [4].
وعن عَبْد اللَّهِ بْنَ عُمَرَ: مَنْ تَابَ قَبْلَ مَوْتِهِ بِعَامٍ تِيبَ عَلَيْهِ، وَمَنْ تَابَ قَبْلَ مَوْتِهِ بِشَهْرٍ تِيب عَلَيْهِ، وَمَنْ تَابَ قَبْلَ مَوْتِهِ بِجُمُعَةٍ تِيبَ عَلَيْهِ، وَمَنْ تَابَ قَبْلَ مَوْتِهِ بِيَوْمٍ تِيبَ عَلَيْهِ، وَمَنْ تَابَ قَبْلَ مَوْتِهِ بِسَاعَةٍ تِيبَ عَلَيْهِ. فقيل لَهُ: إِنَّمَا قَالَ اللَّهُ: ﴿إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ﴾ فَقَالَ: إِنَّمَا أُحدِّثك مَا سَمِعْتُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ [5]، أي فهذه تفسيره لمعنى كلمة ﴿قَرِيبٍ﴾.
فإذا خلص العبد من الذنوب فتاب عظم الله مكانته، وأشاد به فقال: ﴿فَأُولَئِكَ﴾ فأتى باسم الإشارة الدال على بعد المكانة والمنزلة ليبين عظيم رتبة التائبين، وبعد مكانة المستغفرين، وقبوله لهم فقال ﴿يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ﴾.
ذلك البيان القرآني الذي يتغلل في القلوب ليأتي بالإخبات المنيب، ويستوطن العقول ليفيض على الدنيا بصائر تبث الحياة وتحمي المستضعفين وتهدي الضالين وتوقظ الغافلين.
[1] المنتخب من مسند عبد بن حميد – (1 / 225).
[2] أحمد(3 / 29)، وقال الأرناؤوط: حسن
[3] صحيح البخاري – ترقيم فتح الباري (9 / 178).
[4] مصنف ابن أبي شيبة (13 / 570) برقم3661.
[5] مسند أبي داود الطيالسي (4/ 41) برقم 2398.