جنايات بحق البشرية (1)
9 مايو، 2023
458
من أعظم جنايات أهل الضلالة والإضلال في التعدي على حقوق أنفسهم وعلى سائر البشرية
بعد أن عرَّف الله جل جلاله البشرية بالجنس القيادي الذي يمنع الحقوق الإنسانية، وجعل أهم أهدافه في الحياة أن يشتري الضلالة ويعمل على إضلال العالم، فضح هنا بعض جناياتهم الكبرى التي اقترفتها قياداتهم العلمية والسياسية في حق أنفسهم والعالـم (في الآيات:47-57، من سورة النساء)، ومنها:
الجناية الأولى: حرمان العالم من معرفة الهدى الحقيقي بعدم الإيمان بما أنزل الله من البيانات الإلهية المتأخرة ، وهذا يقتضي كفرهم بالبيانات الإلهية المتقدمة كما أن ذلك يعني أنهم يريدون أن يفرضوا على ربهم الإيمان بالطريقة التي يريدونها، ويُبَصِّرُنا الله بذلك في قوله جل ذكره: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ آمِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهًا فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا أَصْحَابَ السَّبْتِ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا} [النساء: 47]:
فالخطاب ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ ﴾ يبصرك دائمًا بالتفاعل معهم، والتحاور مع قياداتهم والرأي العام عندهم مهما رأينا عنادهم، وينبغي مناداتهم بأحسن الألفاظ، وهو نسبتهم إلى الكتاب، وهنا ينبغي أن نخاطب الـمتلاعبين منهم بأنهم يجب أن يؤمنوا بما أنزل الله من البيانات الإلهية المتأخرة؛ لأن ذلك مقتضى الكتب الإلهية الـمتقدمة، وإن لم يفعلوا فعليهم مواجهة التهديد الإلهي.. لقد عاد إلى مخاطبة الذين أوتوا الكتاب على العموم ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ ﴾، وربما تساءلت: لماذا خاطبهم بقوله: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ ﴾ مع أنه وصفهم سابقًا بأنه أوتوا نصيبًا؟
هنا تلمح أمرين في البيان القرآني:
أما الأول فيتم على القول بأن الآية الرابعة والأربعين كلام عام في أهل الكتابين ثم خصص في السادسة والأربعين اليهود بالذكر ثم عاد ليكلمهم على العموم وليس القيادات فقال لهم: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ آمِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ ﴾ أي آمنوا بالقرآن المجيد وما نزل على النبي صلى الله عليه وسلم من السنة المطهرة؛ فالإيمان بالتوراة يقتضي الإيمان بالقرآن، ولماذا لم يقل آمنوا بالقرآن مباشرة؟ لعل ذلك لأنه أراد أن يذكر القرآن بالخاصية المشتركة له مع الكتب الإلهية وهي النزول أي المصدرية الإلهية ليضمن هذا الوصف البرهان على ضرورة أن يؤمنوا بالقرآن إن كانوا حقًا يؤمنون بالتوراة، وليعم الإيمان للقرآن والسنة المقبولة.
وأما الثاني فيتم على القول بأن الخطاب هنا لليهود كما كان الكلام عنهم في الآية السابقة إلا أنه لما قال عنهم في الآية الرابعة والأربعين: {أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ} [النساء: 44] أراد أن يوبخهم على مَا أَضَاعُوا وَحَرَّفُوا، فناسبه أن يهون من شأن عِلْمِهِمْ بِمَا أُوتُوهُ مِنَ الكِتَابِ، بينما هنا أراد أن يلزمهم بمقتضى مَا حَفِظُوا وَعَرَفُوا، ولأن المقصود بالخطاب في المقام الأول أحبار بني إسرائيل، فناسبه أن يرغبهم بِأَنَّهُمْ شُرِّفُوا بِإِيتَاءِ التَّوْرَاةِ لِتُثِيرَ هِمَمَهُمْ للقيام بمقتضيات ذلك فيؤمنوا، ولو آمن فريق معتبر من القيادات لآمن اليهود جميعًا، فقد قال أبو هريرة رضي الله عنه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لو آمن بي عشرة من أحبار اليهود لآمن بي كل يهودي على وجه الأرض» [1].
العقوبة التهديدية المرعبة:
يهدد الله كلَّ من عرف الحقيقة أو قارب أن يعرفها من أهل الكتاب إن لم يؤمنوا بما أنزل الله مصدقًا لما معهم أصابهم بالعقوبات، وأشار إلى حوادث بعينها يعرفونها كقصة أصحاب السبت {مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهًا فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا أَصْحَابَ السَّبْتِ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا} [النساء: 47]:
وهذه عقوبة مرعبة تزلزل الأقدام، وتقشعر منها الجلود، وترجف منها القلوب، وترتعد منها الأنفس الصادقة، وهي ليست عقوبة خاصة بأهل الكتاب بل تشمل كل من يسمعها ممن يتعالى على الإيمان ومقتضياته جزئيًا أو كليًا حيث سيحدث له الطمس الحسي أو المعنوي.. أفلا يحذر من تباطئه عن إجابة نداء ربه؟ وما للمنتسبين إلى أمة الإسلام يقترفون الإجرام الذي يناقض إيمانهم وهم يمرون على هذا التهديد الرهيب ثم لا يخافون أن يصيبهم؟
فمعنى نطمس: نمحوها فنسويها، فلا يرى فيها عين ولا أنف ولا فم ولا شيء مما يرى في الوجه، والطَّمْسُ إِزَالَةُ الأَثَرِ بِمَحْوِهِ، أَوْ خَفَائِهِ كَمَا تُطْمَسُ آثَارُ الدَّارِ، وَأَعْلَامُ الطُّرُقِ بِنَقْلِ حِجَارَتِهَا أَوْ بِالرِّمَالِ تَسْفُوهَا الرِّيَاحُ عَلَيْهَا، وَمِنْهُ: { رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ} [يونس: 88] ، أَيْ: أَزِلْهَا وَأَهْلِكْهَا، وَالطَّمْسُ عَلَى الأَعْيُنِ فِي قَوْلِهِ: {وَلَوْ نَشَاءُ لَطَمَسْنَا عَلَى أَعْيُنِهِمْ} [يس: 66] ، يَصْدُقُ بِإِزَالَةِ نُورِهَا وَبِغُؤُورِهَا وَمَحْوِ حَدَقَتِهَا، ومن ذلك قوله تعالى: {فَطَمَسْنَا أَعْيُنَهُمْ} [القمر: 37]، والمطموس العين: الذي ليس بين جفنيه شق، ويقال: طمست الكتاب والأثر فلا يرى منه شيء.
وَالأَدْبَارُ: جَمْعُ دُبُرٍ، وَهُوَ الخَلْفُ وَالقَفَا، وقوله: {فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا} [النساء: 47] إما أن يراد به انقلاب ما في الوجه ليكون في الخلف، وإما أن يراد أن تفر أصحاب هذه الوجوه فزعًا وهلعًا، فترجع إلى الضلالة التي فرت منها ابتداء، ومن الارتداد على الأدبار أن يقصد المرء الهدى المشرق المبين، ثم يهرب فزعًا منه جزعًا من رؤيته حاقدًا عليه، وهو الذي قال الله فيه: {إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ } [محمد: 25].
هل هذه العقوبة معنوية أم حسية؟
فبعض أهل العلم جعل الطمس معنويًا، والمعنى: آمِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهَ مَقَاصِدِكُمُ الَّتِي تَوَجَّهْتُمْ إِلَيْهَا فِي كَيْدِ الإِسْلَامِ، وَنَرُدَّهَا خَاسِئَةً حَاسِرَةً إِلَى الوَرَاءِ بِإِظْهَارِ الإِسْلَامِ وَنَصْرِهِ عَلَيْكُمْ وَفَضِيحَتِكُمْ فِيمَا تَأْتُونَهُ بِاسْمِ الدِّينِ وَالعِلْمِ الَّذِي جَاءَ بِهِ الأَنْبِيَاءُ.
وبعضهم جعله حسيًا لكنه معنى مجازيٌّ، والمقصود به الجلاء، فرجعوا من حيث جاءوا إلى بلاد الشام كما حدث لبني النضير وقريظة، فنقل عن عَبْد الرَّحْمَنِ بْن زَيْدٍ قال: هَذَا الوَعِيدُ قَدْ لَحِقَ اليَهُودَ وَمَضَى، وَتَأَوَّلَ ذَلِكَ فِي إِجْلَاءِ قُرَيْظَةَ وَالنَّضِيرِ إِلَى الشَّامِ، فَرَدَّ اللَّه وُجُوهَهُمْ عَلَى أَدْبَارِهِمْ حِينَ عَادُوا إِلَى أَذْرِعَاتَ وَأَرِيحَاءَ مِنْ أَرْضِ الشَّامِ، كَمَا جَاءُوا مِنْهَا بَدْءًا، وَطَمْسُ الوُجُوهِ عَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ يَحْتَمِلُ مَعْنَيَيْنِ: أَحَدُهُمَا: تَقْبِيحُ صُورَتِهِمْ يُقَالُ: طَمَسَ اللَّه صُورَتَهُ كَقَوْلِهِ: قَبَّحَ اللَّه وَجْهَهُ، وَالثَّانِي: إِزَالَةُ آثَارِهِمْ عَنْ بِلَادِ العَرَبِ وَمَحْوُ أَحْوَالِهِمْ عَنْهَا.
وبعضهم جعل اللفظ حقيقيًا، وأبقى التهديد قائمًا، وقد يكون في الدنيا وقد يكون في الآخرة، والعقوبة الحسية هي الأصل؛ فإن الطمس المعنوي واقع عليهم من خلال أفعالهم المجرمة، وتحركاتهم الآثمة، وقلوبهم القاسية المظلمة.
والجمع بين دعوة أهل الكتاب إلى اتباع الحق البين وبين تذكيرهم بالتهديد الإلهي الذي يحذرهم من العقوبة الأخروية له أثرٌ حقيقيٌ على من كان عنده بقية تقوى منهم، وقد حدث ذلك لكعب بن ماتع الحميري حيث أقبل وهو يريد بيت المقدس، فمرّ على المدينة، فخرج إليه عمر فقال: يا كعب، أسلم! قال: ألستم تقرأون في كتابكم: {مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا} [الجمعة: 5] ؟ وأنا قد حملت التوراة! قال: فتركه. ثم خرج حتى انتهى إلى حمص، قال: فسمع رجلا من أهلها حزينًا وهو يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ آمِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهًا فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا أَصْحَابَ السَّبْتِ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا} [النساء: 47]. فقال كعب: يا رب آمنت، يا رب أسلمت! مخافة أن تصيبه الآية، ثم رجع فأتى أهله باليمن، ثم جاء بهم مسلمين[2].
وهذا يجعلنا نؤكد على الحقيقة العظيمة وهي أن يكون الخطاب الدعوي جزءًا من الخطاب السياسي في تعاملنا العالمي وخاصة مع أهل الكتاب.
أ.د/ عبد السلام المجيدي
مفصل تفسير سورة النساء
[1] أحمد (2 / 346).
[2] تفسير الطبري ت شاكر (8/ 446).