جنايات بحق البشرية (6)
4 يونيو، 2023
340
من أعظم جنايات أهل الضلالة والإضلال في التعدي على حقوق أنفسهم وعلى سائر البشرية
بعد أن عرَّف الله جل جلاله البشرية بالجنس القيادي الذي يمنع الحقوق الإنسانية، وجعل أهم أهدافه في الحياة أن يشتري الضلالة ويعمل على إضلال العالم، فضح هنا بعض جناياتهم الكبرى التي اقترفتها قياداتهم العلمية والسياسية في حق أنفسهم والعالـم (في الآيات:47-57، من سورة النساء)، ومنها:
الجناية السادسة: استخدام الكتب المقدسة لتسويق الأفكار الشيطانية، فيؤمنون بالجبت والطاغوت ويُبَصِّرُنا بذلك قوله: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ} [النساء: 51].
تعجب منهم كيف يؤتون نصيبًا من الكتاب، ثم يؤمنون بالجبت والطاغوت!
هؤلاء القوم تعجب من عوج تفكيرهم، فقد أوتوا نصيبًا من الكتاب، وبدلًا من العمل بمقتضاه نفذوا أكبر جريمتين مضادتين لمقتضى الكتاب، لذا قال الله عنهم:
﴿ألَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ﴾ ألم تر إلى الذين.. انظر إليهم، ولم يقل “ألم تر: إليهم”، بل أعاد ذكر أنهم أوتوا نصيبًا من الكتاب؛ لزيادة التقريع والتوبيخ، وليوقظ الإنسانية الغافلة عن حقيقة نفسياتهم العفنة، ويدخل فيهم:
كل من عبد الجبت والطاغوت ممن ينتسب إلى اليهود، والنصارى، والـمسلمين وغيرهم.
لقد سوقوا الأفكار الباطلة باسم التوراة مثلا حتى أن بعضهم اليوم يريدون حماية أهل الفاحشة ممن يسمون المثليين باسم الكتاب المقدس.
ألا يستحقون أن يتعجب الخلق من إجرامهم وهم الذئاب المفترسة التي تظهر نفسها في زي الحملان البيضاء الوديعة..
ماذا يفعلون؟ يؤمنون بالجبت والطاغوت.. ما الجبت؟ وما الطاغوت؟
إن «الجِبْت» هو الرَّدِيءُ الَّذِي لَا خَيْرَ فِيهِ، فيدخل فيه السِّحْر، والسَّاحِرِ، وَالشَّيْطَانِ، وأعماله حتى قَالَ الحَسَن:
رَنَّة الشَّيْطَان، والجَبُوبَةُ: الـمَدَرةُ الغَلِيظَةُ تُقْلَعُ مِنْ وَجْهِ الأَرْضِ، والـمَجَبَّةُ: الـمَحَجَّةُ، وجَادّةُ الطَّريق، فكأن الجبت: هو الشيء الرديء الغليظ الذي يحجه الناس ويقصدونه رغبًا ورهبًا مما لا خير فيه،
وَ«الطَّاغُوتُ»: مِنْ الطُّغْيَانِ، والطُّغْوانُ لغةٌ فيه، والطَّغْوَى مثلُه، وطاغُوتٌ، وإِن جاء على وزن لاهُوتٍ فهو مَقْلُوبٌ لأَنه من طَغَى، ولاهُوت غير مَقْلوبٍ لأَنه من لاه بمَنْزِلة الرَّغَبُوت والرَّهَبُوتِ، وأَصل وَزْن طاغُوتٍ طَغَيُوت على فَعَلُوتٍ، ثم قُدِّمَتِ الياءُ قبل الغينِ مُحافَظَة على بَقائِها فَصار طَيَغُوت، ووَزْنُه فَلَعُوت، ثم قُلِبت الياء أَلفًا لتَحَرُّكها وانفتاح ما قبلها فصار طاغُوت، ويطلق على المفرد كما قال تعالى ذكره:
{يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ} [النساء: 60]، وقد يكون جَمْعًا كما قال تعالى جده: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ} [البقرة: 257] وهو مثل الفُلْكِ يُذَكَّرُ ويؤنَّث كما قال جل ثناؤه: {وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوهَا} [الزمر: 17]، والفِعْل طَغَوْت وطَغَيْت، طَغَى يَطْغى طَغْيًا ويَطْغُو طُغْيانًا، وما فعله صادر عن طغيان:
۞ فيدخل فيهما: الشيطان،
والكاهِنُ وكلُّ رأْسٍ في الضَّلال،
والمخلوقات التي تعبد،
والشركاء الذي يشرعون الجرائم مما يضاد الشريعة، ويهدم الطبيعة،
ويدخل فيهما الهوى الذي جعله صاحبه إلهًا له،
ويدخل في الطغيان الإِسْرَافُ فِي العصيان،
فَكُلُّ مَنْ دَعَا إِلَى المَعَاصِي الكِبَارِ لَزِمَهُ هَذَا الِاسْمُ،
والجَبَّارُ العَنيدُ، والطاغِيةُ الأَحْمَقُ المسْتَكْبِرُ الظالِمُ الذي لا يُبالي ما أَتى يأْكلُ الناسَ ويَقْهَرُهم، لا يَثْنِيه تَحَرُّجٌ ولا فَرَقٌ، وقد ذكر الطبري هذا المعنى الجامع للطاغوت فقال:
«والصواب من القول عندي في «الطاغوت»، أنه كل ذي طغيان على الله، فعبد من دونه، إما بقهر منه لمن عبده، وإما بطاعة ممن عبده له، وإنسانًا كان ذلك المعبود، أو شيطانًا، أو وثنًا، أو صنمًا، أو كائنًا ما كان من شيء» [1].
فمرجع كلمة (الجبت) إلى الشيطان والسحر إلا أنها تعم كل ما يتعلق به، ولها تعلق خاص بالشيطان، ومرجع الطاغوت إلى كل ما يتم التحاكم إليه من البشر والقوانين من دون الله،
ولذا جاء عن مجاهد في قوله: {يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ} [النساء: 51]، قال: «الجبت» السحر، و«الطاغوت»، الشيطان في صورة إنسان يتحاكمون إليه، وهو صاحب أمرهم [2].
والظاهر أن الجبت هو الشيء الرديء الغليظ الذي يحجه الناس ويقصدونه رغبًا ورهبًا مما لا خير فيه مثل:
أوثان الحجر والبشر، أو أوثان التشريعات الظالمة،
كما يدخل فيه السحر وأوهام الأساطير الإلحادية والكهانة المفترية مثل أوهام هرمجدون،
ومن الجبت ما يتعلق بمحاولة معرفة الغيب رجمًا بالظنون، وافتراء على الناس، ولذا روى قَطَن بْن قَبِيصَةَ عَنْ أَبِيهِ -بسند فيه نظر- قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ:
«العِيَافَةُ وَالطِّيَرَةُ وَالطَّرْقُ مِنَ الجِبْتِ» [3].
والطرق الثلاث ملتويةٌ لمحاولة معرفة الغيب،
فالعِيَافَة بِالخَطِّ، وَهُوَ ضَرْبُ الرَّمْلِ، وَتُطْلَقُ العِيَافَةُ عَلَى التَّفَاؤُلِ وَالتَّشَاؤُمِ بِمَا يُؤْخَذُ مِنَ الأَلْفَاظِ بِطَرِيقِ الِاشْتِقَاقِ كَقَوْلِ الشَّاعِرِ:
تَفَاءَلْتُ فِـي أَنْ تَبْـذُلِي طَارِفَ الوَفَا
بِأَنْ عَنَّ لِي مِنْكِ البَنَانُ المُطَرَّفُ
فَأَوْصَـلَتَا مَـا قُـلْـتُـهُ فَتَبَسَّمَـتْ
وَقَالَتْ أَحَـادِيثُ العِيَافَةِ زُخْـرُفُ
وَالطِّيَرَةُ: التَّشَاؤُمُ، وَأَصْلُهُ مِنْ زَجْرِ الطَّيْرِ،
وَالطَّرْقُ: هُوَ الضَّرْبُ بِالحَصَا أَوِ الوَدَعِ، أَوْ حَبِّ الفُولِ، أَوِ الرَّمْلِ لمعرفة الحظ والمستقبل، وما هو إلا الدَّجَلُ وَالأَوْهَامُ وَالخُرَافَاتُ، ويتصدر ذلك السحر والتعلق بالشيطان.
والطاغوت من طَغَى يَطْغى طُغْيانًا جاوَزَ القَدْرَ وغَلا في استكباره وإصراره على الصفة الرديئة، كأن يطغى بماله أو ملكه فيخضع له الظالمون.
وتجد عددًا لا يستهان به من أهل الكتاب المعاصرين يبجلون الشيطان الذي يسمونه إله النور، وهذا الإنكار الشديد عليهم في إيمانهم بالجبت والطاغوت يكشف لنا حقيقة تلاعبهم بدينهم..
أليست الوصية الأولى من الوصايا العشر العظيمة هي ألا يشركوا بالله شيئًا.
أ.د/ عبد السلام المجيدي
مفصل تفسير سورة النساء
[1] تفسير الطبري ت شاكر (5/ 419).
[2] تفسير الطبري ت شاكر (8/ 462).
[3] أبو داود (4 / 23).