حماية كرامة المرأة. ما القراءتان الواردتان في كلمة (كرها) في قوله تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا} [النساء: 19]؟
7 نوفمبر، 2022
1456
وكيف أشارتا إلى تكريم المرأة بصورة بليغة وإحكام مدهش؟
عندما يبث الله تعالى الحياة الإنسانية في سورة النساء، فقد جعل المرأة أساس بث الحياة وذلك لن يكون على وجهه القويم إلا ببيان حقوقها والإشادة بمكانتها، ومن ذلك أن الله تعالى
أعطاها حق الكرامة البشرية الكاملة، فهي ذات أهليةٍ كاملةٍ في التصرف، فلا تُـملَك، ولا تُورَث، ولا يتم إكراهها على أي نوعٍ من أنواع التصرفات
فقد قال تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا} [النساء: 19] على الفتح لكلمة ﴿كَرْهًا﴾.
قراءتان وتحقيق
كلمــــــــــة {كرهًا} فيها قراءتان:
فـ«حمزة والكسائي وخلف» قرأوا بضم الكاف في كلمة ﴿كَرْهًا﴾ هنا، والباقون قرأوا بفتحها، فذهب بعضهم إلى أنهما مصدران للإجبار، والمشقة ، ولعلي أميل إلى ترجيح الفرق تبعًا لبعض المحققين:
فالفتح: الإجبار والإكراه؛ أي ما أُكرِه عليه الإنسانُ، والضم: المشقة، ويدل على التفريق اتفاق القراء على قراءة هذه الكلمة بالضم في مواضع وبالفتح في أخرى،
فمما اتفق القراء على فتحه قوله جلَّ في علاه: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ} [فصلت: 11]، فكرهًا هنا بمعنى مكرهة مجبرة، ونحوه قوله جل مجده: {وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ} [آل عمران: 83]؛ أي طائعين ومُكْرَهين مجبرين.
ومما اتفق القراء على ضمه قوله تعالى ذكره: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ} [البقرة: 216]؛ أي مشقةٌ لكم.
فيكون معنى الآية: يا أيها الذين آمنوا لا يحل لكم أن تجعلوا النساء متاعًا ترثونه كما ترثون الأموال الأخرى على كرهٍ منهن (على قراءة الفتح)، وعلى مشقةٍ وعنتٍ تصيب نفوسهن (على قراءة الضم)، فتجبرونهن على أن يتم التصرف بهن بدلًا من أن يتصرفن بمحض إرادتهن.
والكلام على إرث النساء كرها قائم على فكرة جاهلية إذ أراد الله -جلَّ مجدُه- إزالتها، وخلاصتها أن الرجل إذا مات عن زوجة له أولاد من غيرها، فإن أولاده يرثونها، أي يجعلونها ضمن المتاع الذي يورث، وكأنها دابة من الدواب أو قطعة من التراب، وهذا الحق تفصيلي قائم على الحق المذكور في أول آية من هذه السورة المباركة التي أعطت الكرامة الإنسانية المطلقة للمرأة.
والإِرْث حَقِيقَتُهُ انتقال للملكية من شخص إِلَى شَخْصٍ بعده، وَقد يُطْلَقُ الإِرْثُ مَجَازًا عَلَى تَمَحُّضِ المِلْكِ لِأَحَدٍ بَعْدَ ادِّعَاءِ الشركة فِيهِ، وَمِنْهُ {إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا وَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ} [مريم: 40] ، فقال: {أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا} [النساء: 19] فعدى فعل (يرث) إلى النساء لأنهم جعلوهن بمثابة المال الموروث.
وبين ابْن عَبَّاسٍ ذلك فقَالَ: كَانُوا إِذَا مَاتَ الرَّجُلُ كَانَ أَوْلِيَاؤُهُ أَحَقّ بِامْرَأَتِهِ، إِنْ شَاءَ بعضُهم تزوجها، وإن شاءوا زَوَّجُوها، وإن شاؤوا لَمْ يُزَوِّجوها، فَهُمْ أَحَقُّ بِهَا مِنْ أَهْلِهَا، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ فِي ذَلِكَ.
وعن عطاء بن أبي رباح:
أن أهل الجاهلية كانوا إذا هلك الرجلُ فترك امرأة، حبسها أهلُهُ على الصبيِّ يكون فيهم -أي منعوها من أن تتصرف في نفسها بل يجبرونها على أن تنتظر صبيًا من صبيانهم حتى يبلغ فيتزوجها أو يتصرف فيها- فنزلت: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا} [النساء: 19] ، وكان رجالٌ من أهل المدينة إذا مات حميم أحدهم ألقى ثوبه على امرأته، فورث نكاحها، فلم ينكحها أحد غيره، وحبسها عنده حتى تفتدي منه بفدية، فأنزل الله عزَّ وجلَّ: {لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا} .
وقال عكرمة:
نزلت في كبيشة بنت معن بن عاصم، من الأوس، توفّي عنها أبو قيس بن الأسلت، فجنح عليها ابنه، فجاءت النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقالت: يا نبي الله، لا أنا ورثت زوجي، ولا أنا تُركت فأنكح! فنزلت هذه الآية.
وَمِنْ أَشْهَرِ حوادث أن يرث الرجال زوجات آبائهم فِي الجَاهِلِيَّةِ
أَنَّهُ لَمَّا مَاتَ أُمَيَّةُ بْنُ عَبْدِ شَمْسٍ وَتَرَكَ امْرَأَتَهُ وَلَهَا أَوْلَادٌ مِنْهُ: العِيصُ، وَأَبُو العِيصِ، وَالعاصُ، وَأَبُو العَاصِ، وَلَهُ أَوْلَادٌ مِنْ غَيْرِهَا مِنْهُمْ أَبُو عَمْرِو بْنُ أُمَيَّةَ، فَخَلَفَ أَبُو عَمْرٍو عَلَى امْرَأَةِ أَبِيهِ، فَوَلَدَتْ لَهُ: مُسَافِرًا، وَأَبَا مُعَيْطٍ، فَكَانَ الأَعْيَاصُ أَعْمَامًا لِمُسَافِرٍ وَأَبِي مُعَيْطٍ وَإخْوَتَهُمَا مِنَ الأُمِّ .
يا لرزية الجاهلية الأولى.. ويا لمصيبة الجاهلية الحديثة.. تتلاعب الجاهليتان بالنساء تلاعبًا.. كان الجاهليون إذا مات زوج المرأة صار ولده أو قريبه أولى بها من نفسها يتصرف بها تصرفه بالمتاع والأثاث والشياه..
ثم إن شاء تزوجها وإن شاء أعضلها وإن شاء زوجها من شاء، وكأن الزوج ملك بضعها حيًا وميتًا فورَّث ما ملك لأقربائه، وكأنها ليست من البشر بل من البضائع والبهائم..
بماذا يذكرك هذا؟
نعم إنه يذكرك كيف تتصرف الجاهلية الحديثة المعاصرة التي باسم حقوق المرأة جعلت المرأة سلعة للبيع والشراء في سوق نخاسة الإعلانات ومحلات دور الأزياء وصالونات الإغراء.
أ.د/ عبد السلام المجيدي
مفصل تفسير سورة النساء