علم الاجتماع القرآني (4)
24 يناير، 2023
320
ما آفاق التعبير القرآني (حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ) بالنسبة لبناء الأسرة؟
وما المشهدان اللذان تصورهما القراءتان في قوله تعالى (بِمَا حَفِظَ اللَّهُ)؟
{فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ} [النساء: 34]
انظر إلى جمال التعبير القرآني {حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ} فإنه يتعامل مع مؤسسة الزواج بالعبارات الرائعة والفخمة التي تبين المعاني العظيمة حتى يحصل الاستقرار الأسري الذي يكون قاعدة بناء الحياة، فيقرر القرآن أن من صفات الصالحات حفظ غيب الرجل والأسرة؛ وذلك عند غيبته،
وإنما ذكر حالة الغيب لبيان أن قيامها على مسؤولياتها بإخلاصٍ حال غيبة الرجل يدل على قيامها بذلك بصورةٍ أكثر إتقانًا حال حضوره، فحال الغياب مظنة للغفلة والنسيان والتساهل.. لنأخذ بعض الصور الداخلة في الحفظ:
الصورة الأولى: الحفظ لـمـَا يُسْتَحْيَا مِنْ إِظْهَارِهِ أمام الناس، أَيْ: حَافِظَاتٌ لِكُلِّ مَا هُوَ خَاصٌّ بِأُمُورِ الزَّوْجِيَّةِ الخَاصَّةِ
الصورة الثانية: حفظ ما يحدث بينهما من تبادل الأحاديث أو الأفعال العامة أو الخاصة مما يكره الرجال بلوغه إلى الآخرين.
الصورة الثالثة: المراقبة لنفسها لئلا تقع فيما يكره الزوج، والمراقبة لماله، ورغباته، وتركته، وأولاده، وانظر لفعل هاجر عليها السلام، وقول النبي صلى الله عليه وسلم : «فَجَاءَ إِبْرَاهِيمُ بَعْدَ مَا تَزَوَّجَ إِسْمَاعِيلُ يُطَالِعُ تَرِكَتَهُ» [1]، فينبغي أن تراقب غيب زوجها، فلا تتكلم إلا بخير ما يأمل منها، ولا تفعل إلا أفضل ما في وسعها له،
وهذه الصفة تبين أهم واجبات المرأة من رعاية الزوج إن غاب فكيف إن حضر؟
وهذه الصفة تستلزم أن تكون المرأة متيقظة منتبهة لمتطلبات أسرتها وزوجها، فلا تكثر من قول نسيت؛ لأن كلمة نسيت لا تدل على الحفظ بل تدل على الغفلة [2]..
وهذه الصفات الرائعة تجعل المرأة في المقام الأعلى من القيام بالحقوق الأسرية؛ فهي مكمن راحة الأسرة، وطمأنينتها، ومحل تخفيف آلامها، وبذهاب آلام الزوج تقل آلامها، وتذهب معاناتها؛ ولذا خففت عنها الواجبات العبادية الأخرى مقابل ذلك؛ واسمع إلى هذا التبجيل العظيم لها لو حققت تلك الصفات فيها، فعن عبد الرحمن بن عوف قال: قال رسول الله: «إذا صلت المرأة خمسها، وصامت شهرها، وحفظت فرجها، وأطاعت زوجها قيل لها: ادخلي الجنة من أي أبواب الجنة شئت».
تلك وظيفة المرأة الأساسية، ومن خلالها تقوم بالحقوق الأسرية التي بها يصلح المجتمع.. أين ما يُدعى ظلامًا إذن؟ أين المؤسسات العالمية لتتعلم من هذا المعين الصافي.. إنك لتعجب من هؤلاء الذين يبغون الحياة عوجًا يزعمون أن تحقق المرأة بهذه الصفات، وتخلقها بها يعني عبودية المرأة للرجل، ولا بد من تحريرها من ذلك!! إنه اللعب بالألفاظ لتدمير الحياة، لماذا إذا ذكر موضوع طاعة الزوجة لزوجها اشمأزت قلوب الذين لا يؤمنون بالآخرة، واشمأز معهم السماعون لهم؟ وهل الموظف عندما يطيع مديره نقول له: يجب أن يتمرد عليه لأن ذلك عبودية للمدير؟ انظر إلى تصور العوج التي يروج لها بعض من نبذ دينه وعبد الغرب.
وفي قوله تعالى: ﴿بِمَا حَفِظَ اللَّهُ﴾ قراءتان توضحان مشهدين مختلفين:
كما أنه يمكن أن نقدر (ما) أحد تقديرين: إما مصدرية وإما موصولة، فتنتج لنا المعاني الآتية:
المشهد الأول: تدل عليه قراءة الجمهور برفع اسم «الله»، و «مَا» يمكن أن تكون مَصْدَرِيَّةً، والمعنى: أَنَّهُنَّ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بحفظ الله إياهن؛ إذ صيَّرهن كذلك، ويمكن أن تكون موصولة على معنى بالذي حفظهن الله به أَيْ لَا يَتَيَسَّرُ لَهُنَّ حِفْظٌ للغيب إِلَّا بِتَوْفِيقِ اللَّه، فَيَكُونُ هَذَا مِنْ بَابِ إِضَافَةِ المَصْدَرِ إِلَى الفَاعِلِ، أو بالمنهج الذي حفظهن الله به، فالقراءة توضح أنهن اجتهدن في الرغبة فيما عند الله، فصدقن في تصرفاتهن ونياتهن ومجاهدتهن نوازع السوء في أنفسهن، فصدقهن الله بأن حفظهن، وأعانهن على القيام بمسؤولياتهن.
المشهد الثاني: تدل عليه قراءة أبي جعفر يَزيد بن القَعْقاع المدني ﴿ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ ﴾ بالنصب، فهي تصور مشهدًا آخر مقابلًا، وهو مشهد الرجل يحفظ الله في نفسه، ويراقبه في ذاته، فيحفظه الله بأن يوفق أهله لحفظه في غيبه، ويتآزر المشهدان في القراءتين على بيان ضرورة أن يحفظ الرجل الله، وأن تحفظه المرأة ليكافأ كلٌ منهما بأن يحفظه الله جل في علاه.
أ.د/ عبد السلام المجيدي
مفصل تفسير سورة النساء
[1] صحيح البخاري – ترقيم فتح الباري (4 / 174).
[2] في «مساوئ الأخلاق» لأبي بكر الخرائطي ص 190 عن ابن أبي عزرة الدؤلي، وكان في خلافة عمر يخلع النساء التي يتزوجها، فطار له في الناس من ذلك أحدوثة فكرهها، فلما علم بذلك قام بعبد الله بن الأرقم حتى أدخله بيته، فقال لامرأته، وابن الأرقم يسمع: أنشدك بالله، هل تبغضينني ؟ فقالت امرأته: لا تناشدني. قال: بلى. فقالت: اللهم نعم. فقال ابن أبي عزرة لعبد الله: أتسمع. ثم انطلق حتى أتى عمر، ثم قال: يا أمير المؤمنين، يحدثون أني أظلم النساء، وأخلعهن، فاسأل عبد الله بن الأرقم عما سمع من امرأتي، فسأل عمر عبد الله، فأخبره، فأرسل عمر إلى امرأته، فجاءت، فقال لها: «أنت التي تحدثين زوجك أنك تبغضينه ؟ »، قالت: يا أمير المؤمنين، إني أول من تاب، وراجع أمر الله، إنه يا أمير المؤمنين أنشدني بالله، فتحرجت أن أكذب، أفأكذب يا أمير المؤمنين؟ قال: «نعم، فاكذبي، فإن كانت إحداكن لا تحب أحدا، فلا تحدثه بذلك، فإن أقل البيوت الذي يبنى على الحب، ولكن الناس يتعاشرون بالإسلام، والإحسان ».