علم الاجتماع القرآني(16)… ما القوانين الأربعة لاستراتيجية أخذ الحذر؟
21 أكتوبر، 2023
524
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ فَانْفِرُوا ثُبَاتٍ أَوِ انْفِرُوا جَمِيعًا (71) وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ فَإِنْ أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَالَ قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَعَهُمْ شَهِيدًا (72) وَلَئِنْ أَصَابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ اللَّهِ لَيَقُولَنَّ كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزًا عَظِيمًا} [النساء: 71 – 73]
تبصرنا الآيات بضرورة (أخذ الحذر) لحماية المجتمع من الشرور والأخطار الخارجية، والداخلية من خلال القوانين الآتية:
القانون الأول: المؤمنون هم المعنيون بنشر الأمن والسلم في العالم ويُبَصِّرُنا الله بذلك بخطابه للمؤمنين في قوله جل ذكره: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ﴾ (النساء:71)؛ فالكتلة المؤمنة تحالفٌ دينيٌ متميزٌ يجب أن يُعْنَى بإحلال الأمن في أنفسهم والعالم، ومن أهم وسائل ذلك اعتماد استراتيجية أخذ الحِذْر من الشرور كلها، وهي استراتيجية قرآنيةٌ فريدة مدهشة بنت المجتمع المدني المكون من المسلمين وغيرهم على السلام العادل.
القانون الثاني: (أَخْذُ الحِذْر) يكون بعد (أَخْذِ الحَذَر)؛ فالحَذَرُ هو التيقظ الناتج عن الخوف المترقب، وهو يؤدي إلى البحث عن كيفيةِ الاحترازِ والحمايةِ من أمور مخيفة، وهذا ينقلنا إلى المرحلة الثانية، وهي أَخْذُ الحِذْر الذي يعني الاستعداد للأخطار المتوقعة، فأخذ الحَذَر يعني قبول الخوف الذي يجعل الإنسان متيقظًا للخطر، وأخذ الحِذْرِ يعني الانتقال من مرحلة الخوف المتيقظ إلى الاستعداد لمواجهة الأخطار المتوقعة.
القانون الثالث: من أهم مبادئ استراتيجية أخذ الحِذْر: بناء الجيش الذي يحمي المجتمع، ويمكنه أن يُعَدِّدَ أشكال النفير الأمني، والعسكري بين نفر الثُبات أي المجموعات الصغيرة (مثل الألوية)، ونفر الجميع، أي: النفير العام؛ ويُبَصِّرُنا بذلك قوله تعالى ذكره: {فَانْفِرُوا ثُبَاتٍ أَوِ انْفِرُوا جَمِيعًا} [النساء: 71].
القانون الرابع: من أهم مبادئ استراتيجية أخذ الحذر: الحذر الأمني الشديد من الـمجموعات (اللوبيات) الـمرجفة الـمخذلة. وبصرنا الله بهم في قوله: {وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ فَإِنْ أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَالَ قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَعَهُمْ شَهِيدًا (72) وَلَئِنْ أَصَابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ اللَّهِ لَيَقُولَنَّ كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزًا عَظِيمًا} [النساء: 72، 73] ، فهم يقومون بعملية التبطيء السيء؛ لتدمير جميع خطط الحماية الأمنية في الـمجتمع،
وأهم صفاتهم:
الصفة الأولى: ينتمون للمسلمين، ويُبَصِّرُنا بذلك قوله: ﴿مِنْكُمْ﴾، ولم يقل: «فيكم»، فدخل فيهم الـمنافقون، والذين في قلوبهم مرض، والغافلون، والمقصرون، وربما بعض صالحي المؤمنين
الصفة الثانية: لا يقومون بالـمهام الأمنية الحارسة للمجتمع، ويُبَصِّرُنا بذلك قوله: ﴿لَيُبَطِّئَنَّ﴾، فالبطء تأخر الانبعاث في السير.
وهذه الكلمة تدل بحروفها الثقيلة على العمل الثقيل الهائل الذي تسببه هذه العناصر عندما تصر على القعود وعدم القيام بالمهمات الحارسة للمجتمع المسلم، فيتثاقلون عن القيام بواجباتهم الأمنية.
الصفة الثالثة: ينشطون في زرع التثاقل عن القيام بالواجبات الأمنية عند الآخرين، وتكوين مجموعات مخذلة، ويُبَصِّرُنا بذلك قوله: ﴿ لَيُبَطِّئَنَّ ﴾؛ إذ تدل هذه الكلمة أصالة، أو تبعًا على هذا الصنف، فالتشديد للدلالة على تكرار الفعل في نفسه، وعلى محاولة صاحبه أن يؤثر على غيره؛ ليكون مثله في التخلف عن القيام بواجباته الأمنية، فيتأخر ويؤخر غيره.
الصفة الرابعة: الأنانية الـمفرطة، وعدم تحمل تبعات مواجهة تحديات الحياة، ويُبَصِّرُنا بها قوله: {فَإِنْ أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَالَ قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَعَهُمْ شَهِيدًا } [النساء: 72].
الصفة الخامسة: إيثار الدنيا على الآخرة من خلال كره معالي الأمور الحقيقية، ويُبَصِّرُنا بذلك الـمعنى الثاني لقوله: {قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَعَهُمْ شَهِيدًا} [النساء: 72] ، فالشهيد هو الذي قضى نحبه مواجهًا لتحديات إحلال السلام والأمان في الـمجتمع، وهذا هو المعنى الثاني للكلمة:
فيجوز أن يكون معنى ﴿شَهِيدًا﴾ الشهيد بالمعنى الشرعي، فيكون كلامه للاستهزاء والسخرية بطلب الصالحين الشهادة لإحلال السلام للآخرين، فكأنه لم يعرف الإيمان طرفة عين؛ إذ يجعل أجل الأهداف الحقيقية في الحياة شيئًا يسخر منه.. كذلك يقول المنافقون ومرضى القلوب دائمًا، واسمع إلى الله يحكي عنهم في سورة الأنفال: {إِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ غَرَّ هَؤُلَاءِ دِينُهُمْ} [الأنفال: 49].
وبهذا يكون ديدن هذه الفئة الفت في عضد المؤمنين، وتوهين قواهم، وتشكيكهم في جدوى المجاهدة والمناضلة عن الحقوق، وتقديم التضحيات في سبيل إعزاز دينهم ورفعة أمتهم وأمن مجتمعهم.
الصفة السادسة: التخفي وسط الـمؤمنين، فلا يفطن له إلا أولو الألباب منهم، ويُبَصِّرُنا بذلك قوله: {وَلَئِنْ أَصَابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ اللَّهِ لَيَقُولَنَّ} [النساء: 73]:
قد يتسلل الواحد منهم إلى إدارات التوجيه، وعندما يفوز الـمؤمنون في مواجهة التحديات، يشعر بأنه ليس منهم، فيتمنى أن لو كان معهم.
الصفة السابعة: نسيانه لكل صلة إيمانية أو محبة رحمية، أو وشيجة قربى، أو إحسان يد عندما تحدث الأحداث الفاصلة، ويُبَصِّرُنا بذلك قوله تعالى: {كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ } [النساء: 73]:
الصفة الثامنة: حب الـمناصب والمجد الدنيوي أو الأخروي ولكن عبر الدعاوى الفارغة، ويُبَصِّرُنا بذلك قول الواحد منهم: {يَا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزًا عَظِيمًا} [النساء: 73].
فهذا الإبطاء والتبطيء يجر لهؤلاء المنتكسين تارة السرور بالسلامة، وتارة الشعور بالغيظ والحسرة والندامة، فعندما يحصل الانتصار لا يكون همهم تصويب رؤيتهم وفق مبدأ الطاعة الشرعي بل يلومون أنفسهم أنهم لم يركبوا الموجة ليجدوا مغنمًا مع المنتصرين، ولشدة حسدهم للصف المتقدم المثابر لا يعدون انتصار المطيعين انتصارًا لهم، ولا فوزهم فوزًا لهم، بل يتلهفون على ما فاتهم من مكانةٍ وغنيمة.
إن هذا الصنف المبطئ يتربص بالصف المطيع المقدم التضحيات فإن حصلت المصيبة لهم فرحوا بقراراتهم الجبانة، وإن تحقق النجاح لمن يواجه تحديات الحياة، وحصل الانتصار للمطيعين تمنوا أنهم معهم: ليجدوا الفوز بمنصبٍ، أو شرفٍ أو مالٍ، أو أجرٍ أخرويٍّ.