فلسفة الإسلام في النظر إلى أسيرات الحرب
6 ديسمبر، 2022
6171
ما الحكمة التشريعية المدهشة من وجود فكرة ملك اليمين؟
الإسلام له نظامه الحاص ونظرته العميقة في معالجة القضايا العالمية المهمة، فإن الحروب لا بد أن تستعر بين الأمم والحضارات بسبب سنة التدافع التي تجري بلا محاباة ولا مجاملة، وسنة الصراع المستمر بين الحق والباطل، وكذلك بالنظر إلى وجوب تحرير الإنسان من سيطرة الظلم والطغيان، ومن المسائل الواقعية كيفية التعامل مع أسيرات الحرب فقد بين الله تعالى أنه يجوز نكاح أسيرات الحروب لتكريمهن وصيناتهن من الضياع والسجن
ويُبَصِّرُنا بذلك قول الله عز وجل عنهن: {إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} [النساء: 24] فبدلًا من أسرهن وسجنهن يتم تكريمهن باتخاذهن في مرتبةٍ تقترب من الزوجية جمعًا بين تكريمهن وإعادة تأهيلهن والضرورة الأمنية:
فاستثنى من المتزوجات {إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} [النساء: 24] يَعْنِي: إِلَّا مَا مَلَكْتُمُوهُنَّ بسبب أنهن تحولن إلى ضحايا نظرًا للحروب التي سعرها أزواجهن، ثم لما وضعت الحرب أوزارها بقيت هؤلاء النساء خلف أزواجهن، فبدلًا من التعامل العسكري معهن يتم تكريمهن بجواز نكاحهن، فعن ابن عباس في قوله: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ } [النساء: 24]، يقول: كل امرأة لها زوجٌ فهي عليك حرام، إلا أمةٌ ملكتها ولها زوجٌ بأرض الحربِ، فهي لك حلال إذا استبرأتَها ، والصحابة بعقلية الرحمة ونفسية السلام كفوا عن النساء اللواتي يخلفن في الحروب، وشعروا بالحرج من التعامل معهن، فأحل الله نكاحهن بعد استبراء الرحم، وذلك للتأكد من خلوه من ولد رجلٍ آخر، فعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ؛ أَنَّ أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَصَابُوا سَبَايَا يَوْمَ أَوَطَاسَ، لَهُنَّ أَزْوَاجٌ مِنْ أَهْلِ الشِّرْكِ، فَكَأَنَّ أُنَاسًا مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ كَفُّوا وَتَأَثَّمُوا مِنْ غَشَيَانِهِنَّ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ فِي ذَلِكَ: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ }.
وهنا يأتي السؤال الذي يلح عليك: ما الحكمة التشريعية من وجود فكرة ملك اليمين في ذلك الوقت؟
اسمع للحكمة التكريمية المدهشة وراء استبقاء هذا النظام ضمن شروط إسلامية صارمة:
هذا النظام مثل أعظم أوجه التكريم الكامل للنساء في الحروب، حيث تتم صيانتهن من التعامل العسكري الذي قد يفضي بهن إلى السجن، كما يحافظ عليهن من أن يتحولن إلى متسولات بين المعسكرين، ففعلت بهن الشريعة الأصلح معهن والأرفق بهن، فبدلًا من أسرهن وسجنهن يتم تكريمهن باتخاذهن في مرتبةٍ زوجية تتعدى مرحلة (الجيرل فرند) وتقترب من الزوجية الكاملة؛ وتتوافق مع حفظ الأسرار العسكرية في الحروب؛ إذ الغالب في الحروب أن يقتل أزواج السبايا، أو أن يفروا فتبقى المرأة في أرض المعركة، وهنا يجب على المسلمين أن تكفل، ويحرم عليهم أسرها أو وضعها في السجن، جمعًا بين تكريمهن وإعادة تأهيلهن والضرورة الأمنية، وأكرم أنواع الكفالة أن تكون بمنزلة الزوجة التي في البيت، ولكن الزوجة تبقى لها مكانتها، ولا يمكن أن نكلف الزوج فوق طاقته بأن يعامل هذه المسبية معاملة الزوجة بصورة كاملة، فيكون في ذلك حيفًا على الزوج، بل وربما تسبب ذلك في أن تقوم النساء بتحريض أزواجهن على ترك القيام بالتبعات الأمنية والعسكرية التي يحتاج لها المجتمع، كما أنه يشق على المسبية وعلى الأسرة أن تصبح مجرد موظفة تعمل خادمة في البيت، فكان ملك اليمين وفق الآداب الإسلامية أشرف أنواع التعامل مع أسرى النساء حيث تتوفر الكفالة التامة لهن، وتتم حمايتهن من الفسوق في الوقت ذاته، وتدمج ضمن الوضع العام في المجتمع، ولا تكره على ترك دينها، فسل دول العالم المتحضر كيف جعلن النساء سلعة للتلاعب المهين في العالم، وقارن ذلك بحال الجواري في العصر الإسلامي.
وقد تعترض بأنه كان يمكن منع هذا المبدأ (ملك اليمين) حينها.. ففكر وقدر، وانظر آلام الحرب وأوزارها التي كانت حينها لترى أن إبقاء هذا المبدأ مع الحث الشديد على العتق كان لحماية النساء من الضياع من جهة، ولحماية المجتمع من الإجرام الشنيع الذي يرتكبه أعداؤه إن لم يلوحوا بالمعاملة بالمثل، فقد قال الله تعالى: {الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} [البقرة: 194] فلو منع المسلمون من سبي أعدائهم لاجترأوا على المسلمين. فكر بقريش وكيف كان مكرها بالمسلمين حينها مثلًا.. فإذا كان الإسلام قد منع المسلمين من التعامل بالمثل في موضوع التمثيل بالأعداء، أو قتل من لا يقاتل، فإنه قد أباح بالتعامل على المثل في أمور مثل هذه، ومبدأ المعاملة بالمثل في هذا الموضوع ضرورة حربية، كَمَا قَالَ النَّابِغَةُ:
حِذَارًا عَلَى أَنْ لَا تُنَالَ مَقَادَتِي
وَلَا نِسْوَتِي حَتَّى يَمُتْنَ حَرَائِرَا
وملك اليمين كان موجودًا في المجتمع الإسلامي في ذلك الوقت؛ كما أن القوانين العالمية حينها كانت تشرعه، إلا أن القرآن المجيد جعل حقوق النساء هنا أكرم وأبعد في التكريم مما كان في الكتاب المقدس في عهده القديم، حيث تعددت نصوص ملك اليمين، فمنها:
في سفر الخروج20: 17: لا تَشْتَه بيت قريبك. لا تَشْتَه امرأة قريبك ولا عبده ولا أمته ولا ثوره ولا حماره ولا شيئًا مما لقريبك.
وفي سفر التثنية الإصحاح 20: (10) حين تقرب من مدينة لكي تحاربها استدعها إلى الصلح (11) فإن أجابتك إلى الصلح وفتحت لك فكل الشعب الموجود فيها يكون لك للتسخير ويستعبد لك (12) وإن لم تسالمك بل عملت معك حربًا فحاصرها (13) وإذا دفعها الرب إلهك إلى يدك فاضرب جميع ذكورها بحد السيف (14) وأما النساء والأطفال والبهائم وكل ما في المدينة كل غنيمتها، فتغتنمها لنفسك وتأكل غنيمة أعدائك التي أعطاك الرب إلهك.
وفي سفر التثنية21 10: إذا خرجت لمحاربة أعدائك ودفعهم الرب إلهك إلى يدك وسبيت منهم سبيًا (11) ورأيت في السبي امرأة جميلة الصورة والتصقت بها واتخذتها لك زوجة (12) فحين تدخلها إلى بيتك تحلق رأسها وتقلم أظفارها (13) وتنزع ثياب سبيها عنها وتقعد في بيتك وتبكي أباها وأمها شهرًا من الزمان ثم بعد ذلك تدخل عليها وتتزوج بها فتكون لك زوجة (14) وإن لم تسرّ بها فأطلقها لنفسها. لا تبعها بيعا بفضة ولا تسترقها من أجل أنك قد أذللتها.
ولسنا نذكر ملك اليمين؛ لأن القوانين العالمية كانت هي الأصل، وليس لأن ذلك ذُكر في العهد القديم إنما أردنا أن نعطي خلفية عن ذلك عن الواقع العالمي في ذلك، فكانت القوانين العالمية تشرع ذلك بينما ترى الإسلام ارتقى بالإنسانية ارتقاء رائعًا، وارتفع بهم ليتساموا على غيظ الحروب، فَكَرَّم المرأة لئلا تصبح أسيرة، ومنع أن تصبح مرمية في السجن، كما حافظ على ضرورات الأمن العسكري، فقد تكون هذه المرأة جاسوسة، وحرس الأسرة من أن تتفكك بمجيء زوجة أخرى.. فكيف جمع بين هذه المصالح الثلاث؟
جعل أسيرة الحرب جزءًا من بيت من بيوت المسلمين تأوي إليها بما أنها قد فقدت أهلها وزوجها ويكون لها حقوق زوجية قريبة من حقوق الزوجية الكاملة.
وبذا يتضح أن التعامل مع ضحايا الحروب من النساء لا يخلو من ثلاثة أمور:
إما ترك المرأة لتضيع بعد ذهاب من يقوم عليها ويرعاها، وربما تحولت إلى التسول والأعمال السيئة طلبًا للمعيشة، وإما سجنها فتذهب كرامتها، وإما جعلها بمنزلة الزوجة، فربما ثقل هذا على الزوج والزوجة الأولى، فكانت هذه المرتبة وفق الآداب الإسلامية الصارمة أفضل المراتب تكريمًا لهن، وهنا يتم حمايتها من المجتمع كما يتم حماية المجتمع منها إذا كانت ممن يثير الفسق أو يعمل في التجسس، فعندما تكون في مرتبة قريبة من مرتبة الزوجية الكاملة تتعود على التطبيع الثقافي والاقتصادي كما تتأهل إلى نيل مرتبة الزوجية أو التفكير في اختيارٍ آخر تريده.
والإنسان إذا نظر بعين الإنصاف في التعامل مع هذه الواقعة التاريخية سيجد أن الإسلام كان أفضل للمرأة حتى مما تقوم به هذه الحضارة المعاصرة التي تدعي إلغاء نظام الرق وفي المقابل تفتح باب المتاجرة بالنساء في عصابات التجارة الجنسية بهن أو التجارة ببيع الأعضاء، مع عدم حمايتهن من الاغتصاب الذي يقوم به المنتصر، وشواهد هذا واضحة أمام كل الناس.
أ.د/ عبد السلام المجيدي
مفصل تفسير سورة النساء