كيف تستمتع بالصلاة؟ حقوق الصلاة الأساسية حسب سورة النساء
24 يناير، 2023
310
حثنا الله تعالى على الاستمتاع الحقيقي بالصلاة؛ لأنها تمنع حالة السكر العقلي المدمر، وتحمي من الوقوع في خطيئة منع الحقوق الإنسانية، وذلك بتعظيم الصلاة وأماكنها، فالصلاة المعظمة من أقوى أسس بث الحياة الإنسانية (النساء:43)
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلَا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا غَفُورًا} [النساء: 43]
للتمكن من الاستمتاع بالصلاة ذكر الله حقوقها الأساسية هنا، وهي:
الحق الرابع: تعظيم الصلاة وأماكنها الـمخصصة، وهي الـمساجد، بعدم قربانها حال الجنابة، فلا تقرب إلا على طهارة كاملة، ويُبَصِّرُنا بهذا قوله: ﴿وَلَا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا﴾ (النساء: 43):
فعن ابن عباس: «لا تقربوا الصلاة وأنتم جُنب، إذا وجدتم الـماء، فإن لم تجدوا الـماء، فقد أحللتُ لكم أن تمسَّحوا بالأرض» [1]، ويستثنى من قربان الصلاة وأماكنها حال الجنابة، أن يكون الـمرء عابر سبيل، وله معنيان:
المعنى الأول: إن جعلنا النهي عن قربان الصلاة ذاتها فيكون عابر السبيل هو المسافر، فيجوز له الصلاة حال الجنابة إن فقد الماء، ويتيمم مكان ذلك، ويكون وصف عابر السبيل وصف واقع، فيلحق به الحضري كذلك إن وجدت علة فقدان الماء أو تعسره، وقد ذكر هذا المعنى الإمام مجاهد وغيره فقالوا: مسافرين لا يجدون ماء [2].
المعنى الثاني: إن جعلنا النهي عن قربان أماكن الصلاة حال الجنابة يكون عابر السبيل هو المجتاز للمسجد الذي لا ينوي الإقامة فيه، وإنما أراد الانتقال من مكان إلى مكان ولا سبيل لهذا الانتقال إلا عبور المسجد، فجاز له عبور المسجد حال الجنابة تخفيفًا له من الحكم العام؛ ليسر الدين ومعرفة الله بحال العالمين، واحتياجاتهم المتجددة لعبور المساجد.. فعلامَ يدل ذلك؟ إنه يدل على شدة ارتباط الأمة بمساجدها، ودوران أوضاعها حولها.
ونقل الطبري هذا المعنى فقال: لا تقربوا المصَلَّى للصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون، ولا تقربوه جنبًا حتى تغتسلوا إلا عابري سبيل يعني: إلا مجتازين فيه للخروج منه، فأقيمت «الصلاة» مقام «المصلَّى» و»المسجد»، وأسند هذا التفسير إلى ابن عباس [3].
وتقييد قربان المسجد بالاغتسال دَلِيلٌ لِمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الأَئِمَّةُ الثَّلَاثَةُ: أَبُو حَنِيفَةَ وَمَالُكٌ وَالشَّافِعِيُّ: أَنَّهُ يَحْرُمُ عَلَى الجُنُبِ المُكْثُ فِي المسجدِ حَتَّى يَغْتَسِلَ أَوْ يَتَيَمَّمَ إِنْ عَدِمَ المَاءَ، أَوْ تعسر استعماله عليه، وَخصه الإِمَامُ أَحْمَدُ بالوضوء، فمَتَى تَوَضَّأَ الجُنُبُ جَازَ لَهُ المُكْثُ فِي المسجدِ، لِمَا رَوَى هُوَ وَسَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ فِي سُنَنِهِ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ: أَنَّ الصَّحَابَةَ كَانُوا يَفْعَلُونَ ذَلِكَ؛ فعَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَار قَالَ: رَأَيْتُ رِجَالًا مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ يَجْلِسُونَ فِي المَسْجِدِ وَهُمْ مُجْنِبُونَ إِذَا تَوَضَؤُوا وُضُوءَ الصَّلَاةِ [4].
وقد ذهب بعض المفسرين إلى معنى ثالث هنا، وهو أنه يجوز للمسافر قربان الصلاة حتى لو كان جنبًا دون اغتسال، ويكون المعنى: لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون ولا تقربوها وأنتم جنب حتى تغتسلوا إلا إن كنتم عابري سبيل، فعابر السبيل استثني من الاغتسال، فمفهوم ذلك أنه يجوز له أن يقربها وهو جنب. وكانت الجنابة معروفة عند العرب، ولعل ذلك من بقايا الملة الحنيفية، وَذَكَرَ ابْنُ إِسْحَاقَ- فِي «السِّيرَةِ» – أَنَّ أَبَا سُفْيَانَ، لَمَّا رَجَعَ مَهْزُومًا مِنْ بَدْرٍ، حَلَفَ أَنْ لَا يَمَسَّ رَأْسَهُ غُسْلٌ مِنْ جَنَابَةٍ حَتَّى يَغْزُوَ مُحَمَّدًا.
وللجنابة أحكام شديدة معروفة في الشرعة اليهودية، ففي سفر اللاويين:
15: 1 وكلم الرب موسى وهرون قائلًا: 15: 2 كلما بني إسرائيل، وقولا لهم: كل رجل يكون له سيل من لحمه، فسيله نجس. 15: 4 كل فراش يضطجع عليه الذي له السيل، يكون نجسًا، وكل متاع يجلس عليه، يكون نجسًا.
15: 5 ومن مس فراشه، يغسل ثيابه، ويستحم بماء، ويكون نجسًا إلى الـمساء.
بينما جاءت الشريعة الإسلامية تضع عن العالم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم، فعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ: «نَاوِلِينِي الخُمْرَةَ مِنَ المَسْجِدِ». فَقُلْتُ: إِنِّي حَائِضٌ. فَقَالَ: «إِنَّ حَيْضَتَكِ لَيْسَتْ فِي يَدِكِ» [5].
وبذا تتكلم هذه الجملة المباركة عن حقٍ من حقوق الصلاة، وهي ألا تقرب إلا على طهارة كاملة إلا أنه يستثنى من ذلك أن يكون المرء مسافرًا لم يجد ماء، فالاستثناء مقيد بعدم وجود الماء للمشقة التي يجدها المسافرون عند نزول الآية في حمل الماء، وفهم هذا التقييد من السياق التاريخي الذي نزلت فيه الآية، ومما يأتي في الجملة التي بعدها، ولكن ينبغي أن ندرك أن معنى ﴿حَتَّى تَغْتَسِلُوا﴾ لا يعني أن لا يصلي الإنسان حتى يغتسل جاعلًا وقت اغتساله اختيارًا مفتوحًا، بل يدل على إيجاب الغسل من الجنابة متى حضر وقت الصلاة؛ لأن الصلاة لا تسقط عنه بحال، حاله في ذلك حال المسلمين يوم نزل عليهم أول الآية ﴿لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ﴾ فهي تعني أن الأولية للاستعداد للصلاة، وليس ليمدد الإنسان وقت لهوه كما يشاء.
الطهارة المتكررة علامة الأمة المسلمة المستقيمة النشطة التي تجدد للبدن طاقته، وللنفس حيويتها .
إذ تتعجب من ربط الصلاة بالوضوء أو الاغتسال أي بالطهارة التي تنشط البدن، وتقوي الحركة والتفكير، فهو ربط يومي دقيق، ولم يجعل مناط التطهر وجود الوسخ بل القيام إلى الصلاة، وجعل مناط الاغتسال -وهي الطهارة الكبرى- «حَالَةُ دَفْعِ فَوَاضِلِ القُوَّةِ البَشَرِيَّةِ، وَحَيْثُ كَانَ بَيْنَ تِلْكَ الحَالَةِ وَبَيْنَ شِدَّةِ القُوَّةِ تَنَاسُبٌ تَامٌّ، إِذْ بِمِقْدَارِ القُوَّةِ تَنْدَفِعُ فَضَلَاتُهَا، وَكَانَ أَيْضًا بَيْنَ شِدَّةِ القُوَّةِ وَبَيْنَ ظُهُورِ الفَضَلَاتِ عَلَى ظَاهِرِ البَدَنِ المُعَبَّرِ عَنْهَا بِالوَسَخِ تَنَاسُبٌ تَامٌّ، كَانَ نَوْطُ الِاغْتِسَالِ بِالجَنَابَةِ إِنَاطَةً بِوَصْفٍ ظَاهِرٍ مُنْضَبِطٍ فَجُعِلَ هُوَ العِلَّةَ أَوِ السَّبَبَ.. عَلَى أَنَّ فِي الِاغْتِسَالِ مِنَ الجَنَابَةِ حِكْمَةً أُخْرَى، وَهِيَ تَجْدِيدُ نَشَاطِ المَجْمُوعِ العَصَبِيِّ الَّذِي يَعْتَرِيهِ فُتُورٌ بِاسْتِفْرَاغِ القُوَّةِ المَأْخُوذَةِ مِنْ زَبَدِ الدَّمِ» [6].
أ.د/ عبد السلام المجيدي
مفصل تفسير سورة النساء
[1] الطبري (8/ 379).
[2] تفسير الطبري ت شاكر (8/ 381).
[3] تفسير الطبري ت شاكر (8/ 382).
[4] وقال ابن كثير: «هَذَا إِسْنَادٌ صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ مُسْلِم».
[5] صحيح مسلم (1 / 168).
[6] التحرير والتنوير (5/ 65).