المقالات

كيف تفنن القرآن في تقرير مكانة السنة النبوية؟

ما ثلاثية التعبير القرآني عن طاعة الرسول؟
من أعظم الردود على من يسمون أنفسهم “قرآنين”
القرآن في القضايا الاستراتيجية الهامة في حياة الأمة، يتفنن في التعبير عن أهميتها وبناء المعرفة فيها ومن ذلك التعبير القرآني عن طاعة الرسول فقد أتى على ثلاثة أنحاء:
النحو الأول:
أن يتم التعبير عن طاعة الله ورسوله بتوحيد فعل الطاعة مثل قوله -تعالى مجدُه-: {قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ} [آل عمران: 32]، وقوله: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [آل عمران: 132]، وقوله: {وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ } [الأنفال: 1]، وقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ } [الأنفال: 20]، وقوله: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ } [الأنفال: 46]، وهنا يكون الأمر كله من الله إجمالًا وتفصيلًا، والرسول مبلغ عن ربه في ذلك.. كذا قيل، وأظن للسياق أثرًا في بيان سر هذه الصياغة.
النحو الثاني:
تكرار الأمر بالطاعة مثل قوله تعالى ذكره: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ} [النساء: 59]، وقوله: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا} [المائدة: 92]، وقوله: {قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ} [النور: 54]، وقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} [محمد: 33]، وقوله: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَإِنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ} [التغابن: 12].
وهنا يكون الأمر مجملًا من الله كالصلاة، ويفصله النبي صلى الله عليه وسلم.
النحو الثالث:
أن يفرد الرسول بذكر وجوب طاعته مثل قوله تعالى ذكره: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} [النساء: 80]، ومثل: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر: 7]، وهنا يكون الأمر مجملًا ومفصلًا من النبي صلى الله عليه وسلم إما بتوقيف من الله، والنبي صلى الله عليه وسلم عبر عن ذلك بكلامه، وإما بتوفيقٍ منه، فقد فوض الله رسوله صلى الله عليه وسلم ليجتهد في الصياغة أو ليجتهد في المعنى والصياغة،
ومثال ذلك: النصوص الدستورية حاكمة على كل القوانين، ولكنك تجد نصًا دستوريًا يعطي تفويضًا بتشكيل لجان لوضع قوانين تفصيلية، أو تكتب المذكرات التفسيرية لهذه القوانين، وهذا حال النبي صلى الله عليه وسلم المبلغ عن الله جل جلاله، وهذا كله يدفعك إلى أن تبحث في كل جزئية في حياة النبي صلى الله عليه وسلم، وتبذل الجهود العظيمة للتأكد من صدورها عنه أي التأكد من صحتها، ولا تقنع بمجرد هوى عارض منك أو من غيرك في قبولها أو ردها.
ثم إنك ترى قومًا من قومنا يصرون على الرد للسنة بمحض الرأي والصد عن الرسول لعارض هوى يزعمون بذلك إن أرادوا إلا إحسانًا إلى الأمة والإسلام وتوفيقًا للقرآن مع معترك الأيام فما أرادوا بذلك على المدى البعيد إلا العبث بالقرآن، وإثبات آرائهم وأهوائهم ونسبتها إلى كتاب ربهم، وهنا يأتي التحذير النبوي الذي أرسله النبي صلى الله عليه وسلم معجزة خبرية تتجاوز الدهور، وتعبر العصور، وهو الذي رواه المِقْدَامِ بْنِ مَعْدِ يكَرِبَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: «أَلاَ إِنِّي أُوتِيتُ الكِتَابَ وَمِثْلَهُ مَعَهُ أَلاَ يُوشِكُ رَجُلٌ شَبْعَانُ عَلَى أَرِيكَتِهِ يَقُولُ عَلَيْكُمْ بِهَذَا القُرْآنِ فَمَا وَجَدْتُمْ فِيهِ مِنْ حَلاَلٍ فَأَحِلُّوهُ وَمَا وَجَدْتُمْ فِيهِ مِنْ حَرَامٍ فَحَرِّمُوهُ أَلاَ لاَ يَحِلُّ لَكُمْ لَحْمُ الحِمَارِ الأَهْلِىِّ وَلاَ كُلُّ ذِي نَابٍ مِنَ السَّبُعِ وَلاَ لُقَطَةُ مُعَاهِدٍ إِلاَّ أَنْ يَسْتَغْنِىَ عَنْهَا صَاحِبُهَا وَمَنْ نَزَلَ بِقَوْمٍ فَعَلَيْهِمْ أَنْ يَقْرُوهُ فَإِنْ لَمْ يَقْرُوهُ فَلَهُ أَنْ يُعْقِبَهُمْ بِمِثْلِ قِرَاهُ» .
وهذه الآية تبين أهم أسس الأمن القومي بعد كتاب الله تعالى ذكره، وذلك يعني أن تجعل الأمة للسنة النبوية المكانة الأسمى، وتحذر أشد الحذر ممن يطعن فيها أو في حملتها ونقلتها وهم الصحابة الكرام.. قد يقول قائل: هل الصحابة معصومون من الخطأ؟ نقول: لا ولكن الله قال في القرآن عنهم {وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} [التوبة: 100]، فالله سبحانه وتعالى لم يبين عصمة تتعلق بهم، ولكنه بين رضاه عنهم من خلال غلبة حسناتهم الزاخرة الكثيرة على أخطائهم إن وقعوا فيها، ويكفي أن نفهم من الآية أن طاعة الرسول تعني أن السنة هي المفسرة للقرآن..
وهنا ترى الاتصال القرآني في أوج صوره، وترى تكامل المفاهيم في الشريعة الإسلامية في أبهى أشكالها، فهذه الآية «كَالتَّكْمِلَةِ لِقَوْلِهِ: {وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولًا} [النساء: 79] بِاعْتِبَارِ مَا تَضَمَّنَهُ مِنْ رَدِّ اعْتِقَادِهِمْ أَنَّ الرَّسُولَ مَصْدَرُ السَّيِّئَاتِ الَّتِي تُصِيبُهُمْ، ثُمَّ مِنْ قَوْلِهِ: {مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ } [النساء: 79] إِلَخْ، المُؤْذِنُ بِأَنَّ بَيْنَ الخَالِقِ وَبَيْنَ المَخْلُوقِ فَرْقًا فِي التَّأْثِيرِ وَأَنَّ الرِّسَالَةَ مَعْنًى آخَرَ فَاحْتَرَسَ بِقَوْلِهِ: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} [النساء: 80] عَنْ تَوَهُّمِ السَّامِعِينَ التَّفْرِقَةَ بَيْنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ فِي أُمُورِ التَّشْرِيعِ، فَأَثْبَتَ أَنَّ الرَّسُولَ فِي تَبْلِيغِهِ إِنَّمَا يُبَلِّغُ عَنِ اللَّهِ، فَأَمْرُهُ أَمْرُ اللَّهِ، وَنَهْيُهُ نَهْيُ اللَّهِ، وَطَاعَتُهُ طَاعَةُ اللَّهِ» .
والمراد أنه لا بد من اتباع سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم في جميع الأمور التعبدية والعقدية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية، وقد لخص السيوطي معنى السنة بقوله:
قَوْلُ النَّبِي وَالفِعْلُ وَالتَّقْرِيْرُ
سُنَّـتُهُ وَهَمُّهُ المَـذْكُوْرُ
ومن فوائد مجيء هذه الآية بعد السابق: الرد على من يكتفي في الاستدلال بالقرآن دون البحث في تفسير النبي صلى الله عليه وسلم القولي والعملي له.
وينقل النبي صلى الله عليه وسلم هذه الحقيقية القرآنية وهو يربي أمته فيقول: «مَنْ أَطَاعَنِي فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ، وَمَنْ عَصَانِي فَقَدْ عَصَى اللَّهَ، وَمَنْ أَطَاعَ أَمِيرِي فَقَدْ أَطَاعَنِي، وَمَنْ عَصَى أَمِيرِي فَقَدْ عَصَانِي» . والتقييد بالأمير الذي أمره النبي صلى الله عليه وسلم واضح، فقوله (أميري) يراد به من أمره النبي صلى الله عليه وسلم أو من نال الإمرة وفق المبادئ النبوية حيازة للمنصب، وقيامًا بمقتضياته، فليس كل عابث فاسق اغتصب الإمرة ينزل عليه هذا الحديث، فالأمير المشار إليه أي على مختلف الزمان والمكان الذي التزم بالإمرة من خلال ما شرعته في كيفية التأمر والتزم بما أمره به النبي صلى الله عليه وسلم، وليس في كل أمير أمر نفسه، وقَوْلُهُ: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} [النساء: 80] مِنْ أَقْوَى الدَّلَائِلِ عَلَى أَنَّهُ مَعْصُومٌ فِي جَمِيعِ الأَوَامِرِ وَالنَّوَاهِي وَفِي كُلِّ مَا يُبَلِّغُهُ عَنِ اللَّه، لِأَنَّهُ لَوْ أَخْطَأَ فِي شَيْءٍ مِنْهَا لَمْ تَكُنْ طَاعَتُهُ طَاعَةَ اللَّه وَأَيْضًا وَجَبَ أَنْ يَكُونَ مَعْصُومًا فِي جَمِيعِ أَفْعَالِهِ، لِأَنَّهُ تَعَالَى أَمَرَ بِمُتَابَعَتِهِ فِي قوله: {وَاتَّبِعُوهُ } [الأعراف: 158]، وَالمُتَابَعَةُ عِبَارَةٌ عَنِ الإِتْيَانِ بِمِثْلِ فِعْلِ الغَيْرِ لِأَجْلِ أَنَّهُ فِعْلُ ذَلِكَ الغَيْرِ، ففعل النبي صلى الله عليه وسلم إما أن يكون توقيفيًا أو توفيقيًا فَكَانَ الآتِي بِمِثْلِ ذَلِكَ الفِعْلِ مُطِيعًا للَّه فِي قَوْلِهِ: ﴿ وَاتَّبِعُوهُ ﴾ فَثَبَتَ أَنَّ الِانْقِيَادَ لَهُ فِي جَمِيعِ أَقْوَالِهِ وَفِي جَمِيعِ أَفْعَالِهِ، إِلَّا مَا خَصَّهُ الدَّلِيلُ، طَاعَةٌ للَّه وَانْقِيَادٌ لِحُكْمِ اللَّه»

المجيدي


الكلمات المفتاحية: الرد على القرآنيين ما ثلاثية التعبير القرآني عن طاعة الرسول