لماذا ختم الله تعالى آية الشفاعة بقوله {وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتًا} [النساء: 85]؟
25 يناير، 2024
439
وإنما كان هذا الختم المحكم لبيان خطورة موضوع الشفاعة وإسهامها في صنع النجاحات أو تراكم الإخفاقات فقد ختم الله بالتذكير بأخذ الحذر من رب البشر، الذي يحصي الأوقات والأعمال، فقال تعالى ذكره: {وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتًا} [النساء: 85].
فالمقيت القدير الذي يقوت الناس أي يمنحهم ما يقوتهم، ويقيم أقواتهم ويمسكها لهم على قدر حاجتهم محصيًا لها، من (قوت) التي تدُلُّ عَلَى إِمْسَاكٍ، وَحِفْظٍ، وَقُدْرَةٍ عَلَى الشَّيْءِ، ومنه: {وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا} [فصلت: 10]، وَأَنا أقُوتُه، أَي: أَعُولُه برِزْق قَلِيل، وحَلَفَ العُقَيْلِيّ يَوْمًا فَقَالَ: (لَا وقائتِ نَفَسِي القَصير) ومِنه قَوْله: يَقْتاتُ فضْلَ سَنامها الرَّحْلُ أي يأخذُ الرَّحْلُ شَحْمَ سَنامِ هَذِه الناقةَ قَلِيلا قَلِيلا حَتَّى لَا يَبقَى مِنْهُ شيءٌ؛ لِأَنَّهُ يُنْضِيها، فمعنى المقِيت: الحَفيظ الَّذِي يُعطِي الشيءَ قَدْرَ الحَاجة مِن الحِفْظ[1]، وهذا يقتضي أن يكون شاهدًا على كل شيء يحفظه بما يعطيه من قوت فيقيته به، ويقال ما له قوت ليلة وقيت ليلة، كما يقتضي أن يكون حسيبًا على مقدار هذا القوت، ورجح الطبري أن يكون معنى «المقيت»، المقتدر، واعتضد بقول للزبير بن عبد المطلب عمّ رسول الله صلى الله عليه وسلم:
وَذِي ضِغْنٍ كَفَفْتُ النَّفْسَ عَنْهُ
وَكُنْتُ عَلَى مَسَاءتِهِ مُقِيتَا[2]
أي: قادرًا. والمختار عندي أن قول الإمام الطبري لا يتناول كل معاني الاسم، فالمقيت أيضا الشاهد على كل شيء، يحفظه بما يعطيه في كل نفس يقتات فيه، ومن ذلك إحصاؤه لما يبيت، وما يظهر من تعضيد الناس في الخير، والدفاع عن حقوق المستضعفين، أو التعاون على الشر. وبناء على أوضحناه يكون معنى وكنت على مساءته مقيتا أي حفيظا شاهدا حسيبا أحسب أنفاسه لقوتي وبأسي كما يحسب المقيت حساب من يقوته، ومن ذلك قول السموأل بن عاديا فيما صحح روايته أبو سعيد السِّيرَافِيِّ:
رُبَّ شَتْمٍ سَمِعْتُهُ وَتَصَامَمْـ
تُ وَغَـيٍّ تَـرَكْتُـهُ فَكُفِيـتُ
لَيْـتَ شِـعْرِي وَأَشْـعُرَنَّ إِذَا مَا
قَرَّبُـوهَا مَنْـشُـورَةً وَدُعِـيتُ
أَلِيَ الفَـضْلُ أَمْ عَـلَيَّ إِذَا حُـو
سِبْـتُ. رَبِّي عَلَى الحِـسَابِ مُقِيتُ[3]
أَيْ: أنني سأوقف على الحساب فيحصى ربي علي كما تحصى حاجة المرء لما يقتاته. وذكر القفال في مناسبة ختم الآية بهذا الاسم المبارك من أسماء الله عزَّ وجلَّ أنه تَعَالَى قَادِرٌ عَلَى إِيصَالِ النَّصِيبِ وَالكِفْلِ مِنَ الجَزَاءِ إِلَى الشَّافِعِ مِثْلَ مَا يُوصِلُهُ إِلَى المَشْفُوعِ فِيهِ، إِنْ خَيْرًا فَخَيْرٌ، وَإِنْ شَرًّا فَشَرٌّ، وَلَا يَنْتَقِصُ بِسَبَبِ مَا يَصِلُ إِلَى الشَّافِعِ شَيْءٌ مِنْ جَزَاءِ المَشْفُوعِ، أو هو تَعَالَى حَافِظُ الأَشْيَاءِ شَاهِدٌ عَلَيْهَا لَا يَخْفَى عَلَيْهِ[4].
والذي يظهر -مع هذا المعنى- أنه تعالى أراد أن يبين أنه يحصي الأشياء بدقة متناهية كما يحصى القوت الذي يأتي على مقدار الحاجة، ومن ذلك إحصاؤه لما يُبَيت وما يظهر من تعضيد الناس في الخير والدفاع عن حقوق المستضعفين، أو من مساعدة الناس في الشر.
[1] تهذيب اللغة (9/ 197).
[2] تفسير الطبري ت شاكر (8/ 584).
[3] ديوان السموأل (ص / 6).
[4] تفسير الرازي (10/ 160).