المقالات

ما أعظم صفة في المقاتل؟

أ.د/ عبد السلام المجيدي

ضوابطَ الحلِّ العسكري عند الاضطرار إليه (1)

{فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ} [النساء: 74]

ما سبب القتال؟

وما أعظم صفة في المقاتل؟

بعد ذكر استراتيجية أخذ الحذر وبيان قوانينها وكثير من إجراءاتها يفرض الله تعالى هنا   الاستعداد للحل العسكري، والإقدام عليه عند تحتمه.

 ويُبَصِّرُنا بذلك قوله جل ذكره: {فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ} [النساء: 74]، فحددت هذه البصيرة القرآنية: سبب القتال وهو أن يكون في سبيل الله لا في سبيل القتل أو الغرور أو الكبر أو السيطرة على الثروات أو الانتقام، وحددت الشخصيات التي يجب بناؤها لتقاتل بإخلاص، وهم الذين يبيعون الحياة الأولى الدنيا بالحياة الآخرة العليا.

هنا يحث الله جل شأنه عباده على الاستعداد للحل العسكري عند تحتمه، فيقول: ﴿فَلْيُقَاتِلْ﴾.

سؤال❔

 ويحق لك أن تسأل: ما الفرق بين قوله {فَانْفِرُوا} [النساء: 71] وقوله ﴿فَلْيُقَاتِلْ﴾ هنا؟

الجواب: هناك أمر بالنفر، والنفر لا يقتضي القتال، ولكنه يقتضي التأهب والحماية وقد يؤدي إلى الالتحام وقد لا يؤدي، أما هنا فقد أمر الله بالقتال بعد الكلام عن الفئات المخذِّلة المبطئة ليبين أن قتال المعتدين أهل الشرور في وقته وزمانه ومكانه مطلوب، ما دمنا اضطررنا إليه.

ما أهم ضابط للقتال؟

 وقوله {فِي سَبِيلِ اللَّهِ}، يبين لك أهم ضابط للقتال؛ إذ ينبغي أن يكون في سبيل الله، والسبيل هو الطريق الذى فيه سهولة وجمعه سبل كما قال تعالى ذكره: {وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهَارًا وَسُبُلًا} [النحل: 15]، وقال جل شأنه: {الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا} [طه: 53]، ويستعمل السبيل في الطريق السهل الواضح الذي يتوصل به إلى شيء خيرًا كان أو شرًا، كما قال جل مجده { ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ} [النحل: 125] ، وقال تعالى جده: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ} [يوسف: 108]، وكلاهما واحد لكن أضاف الاول إلى الآمر وهو الله سبحانه وتعالى، والثاني إلى السالك بهم وهو محمد صلى الله عليه وسلم  .

ما صفات المقاتلين؟

 و﴿يَشْرُونَ﴾ معناها يبيعون فشَرَى مُقَابِلُ اشْتَرَى، مِثْلَ بَاعَ وَابْتَاعَ وَأَكْرَى وَاكْتَرَى، قَالَ ابْنُ مُفَرِّغٍ :

وَشَرَيْتُ بُرْدًا لَيْتَنِي

مِنْ بَعْدِ بُرْدٍ كُنْتُ هَامَهْ

أي: بعت بردًا، وتحسر عليه.

والاستعمال القرآني قائم على أن شرى بمعنى باع كما قال تعالى: {وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ} [يوسف: 20]، أَيْ: بَاعُوهُ، وَقَالَ تَعَالَى: {وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} [البقرة: 102]، أَيْ: بَاعُوهَا وَقَالَ: { وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ} [البقرة: 207] أَيْ يَبِيعُهَا، وَالبَاءُ فِي صِيغَةِ البَيْعِ تَدْخُلُ عَلَى الثَّمَنِ المقبوض، فحددت هذه البصيرة القرآنية: سبب القتال وهو أن يكون في سبيل الله لا في سبيل القتل أو الغرور أو الكبر أو السيطرة على الثروات أو الانتقام، وحددت الشخصية التي يجب بناؤها لتقاتل بإخلاص، فوصفهم بأنهم: يبيعون الحياة الأولى الدنيا بالحياة الآخرة العليا، ومعنى هذه الجملة المباركة {فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ} [النساء: 74] فليقاتل في سبيل الله الذين يبيعون الدنيا، ويشترون الآخرة بدلًا منها، فالخطاب هنا للمؤمنين المخذلين الذين سبق الكلام عنهم وغير المخذلين: إن كنتم أيها المؤمنون حقًا تريدون بيع الدنيا وشراء الآخرة التي هي الحياة الحقيقية.. إن كنتم أيها المؤمنون تريدون شراء الحياة الخالدة وهي الآخرة فقاتلوا، ولكن لا تقاتلوا للعبث واللعب وتجارة الأسلحة والسيطرة على الثروات، وإنما ينبغي أن يكون قتالكم في سبيل الله

 الذي يعني إحلال العدل وحماية المستضعفين،

مثل قَوْلِهِ: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ} [التوبة: 111] إِلَى قَوْلِهِ: {فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [التوبة: 111].. فقال: {يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ} [النساء: 74] لماذا؟ تعظيمًا للمقاتلين في سبيله، وفضيحةً للمبطئين المخذلين.

💠بناء الفهم وقطع العلائق💠

حسبك أن يقابل البيان القرآني المدهش بين الحياتين مقابلة فيها غرابة ظاهرة تدعو للتأمل؛ إذ عبر عن الحياة الأولى بالحياة الدنيا، وعبر عما يقابلها بالآخرة، فيمكنك جعل ذلك على مبدأ (الاحتباك) الرائع، ويكون التقدير: يشرون الحياة الأولى الدنيا بالحياة الآخرة العليا، ويمكنك أن تقول أيضًا مع ذلك إنما كان التركيز على وصف الحياة الأولى بالدنيا لأنه لا يوجد وصفٌ يجعلها أقل ولا أذل في أعين بني الإنسان من هذا الوصف، وإنما وصف الحياة العليا بالآخرة لأنها الباقية، فلو لم يكن فيها إلا السلامة من النار لكان ذلك كافيًا في اشترائها، فكيف إذا ضم إلى ذلك ما فيها من النعيم لمن فاز في هذه الصفقة العظيمة؟

#المجيدي

مفصل تفسير سورة النساء


الكلمات المفتاحية: ضوابطَ الحلِّ العسكري عند الاضطرار إليه ما أعظم صفة في المقاتل؟