علم الاجتماع القرآني (14)… ما الذي تقتضيه استراتيجية أخذ الحذر؟
10 أكتوبر، 2023
567
لعل السمع والقلب والعقل لا يجد جمالا يقترب حتى ولو قليلا من التعبير القرآني، فاللفظ نفسه محاط بالجمال والإعجاز السمعي والتأثيري والبياني ومن ذلك قوله تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ فَانْفِرُوا ثُبَاتٍ أَوِ انْفِرُوا جَمِيعًا} [النساء: 71]
إن الكلام عن استراتيجية أخذ الحذر متعدد الأوجه متنوع الفوائد سبق بعضه ويأتي الكلام عن البعض أيضا، ولكني ضمن سلسلة هذه الاستراتيجية أعرج على الكلام عن مقتضياتها، فهذه الاستراتيجية
تقتضي “الحَذَر” ثم “الحِذْر” وذلك يعني التأهب التام استعدادًا للطوارئ المستقبلية، ولذا قال الزمخشري في معناها:
«والمعنى: احذروا واحترزوا من العدوّ ولا تمكنوه من أنفسكم» [1]، ويعرف الطبري رحمه الله أخذ الحذر تعريفًا بديعًا فيقول: «خذوا جُنَّتكم وأسلحتكم التي تتقون بها من عدوكم لغزوهم، وحربهم» [2]،
وأخذ الحذر يكون من الجهات التي يتوقع منها الشر، فليس الأمر مقيدًا بالجنس ولا الجنسية ولا الدين ولا الهُوية الثقافية، فقد تأتي الشرور من بعض من ينتسبون إلى الإسلام إما لأنهم جهلة وإما لأنهم كذبة متكبرون، وإما لأنهم مغرر بهم، ولكن أخذ الحذر لا يعني أن تجري الأجهزة الأمنية في طلب عورات الناس أو الشك فيهم، وابتغاء الريبة في تصرفاتهم دون مبرر ظاهر. ويبدر تساؤل بشأن قوله جل ذكره: {خُذُوا حِذْرَكُمْ} [النساء: 71] من أي شيء من الأخطار الداخلية أم الخارجية؟ وفي أي مجال؟ وفي المجالات الأمنية أم الثقافية؟ والجواب: كل داخل في مفهوم هذا القانون الدستوري:
خذوا حذركم داخليًا من البطانة الفاسدة، أو الـمجموعات العميلة الخائنة، أو الفاسقين الفجرة الذين يزعزعون الأمن لمطامع ذاتية، أو تأويلات دينية فاسدة.
وخذوا حذركم من الاختراق الخارجي، فالآية تشمل أخذ الحذر الأمني، والعسكري من الـمنافقين في الـمدينة وأمثالهم، ومن كفار قريش في مكة وأمثالهم، وهذا يقتضي الاستعداد العسكري، والأمني على أوسع نطاق.
وأخذ الحذر يقتضي ابتكار وسائل للدفاع والحماية التي تُجِنُّ من يحتمي بها أي: تخفيه عن الأنظار فلا يهتدى إليه، أو لا يوصل إليه مثل الدروع سواء كانت من خلال المعاهدات ذات التوثيقات الدقيقة جدًا، والواضحة جدًا حتى لا يحصل الاختلاف ولا تتلاعب الأطراف بالثغرات القانونية من خلالها، فالطبري أخبرنا بأن نأخذ الجُنَّة والسلاح، فهل يعتبر من يشتري أسلحته من عدوه آخذًا حذره؟
قد يقال بأنه قد يشتري سلاحه من عدوه ويأخذ حذره منه، لكن عدوه قد يجعل المصيدة في هذا السلاح الذي يبيعه، فحقيقة خذوا حذركم تؤدي إلى أمرٍ آخر لا بد منه وهو لزوم صنع السلاح الذي يوفر الحماية أي: اصنعوا أسلحتكم بأنفسكم، واصنعوا كل ما يؤدي إلى استقلالكم وعدم ارتهانكم للخارج سواء أكان في مجال السلاح أم في مجال النُظُم والتشريعات، أم في مجال التكنولوجيا، أم في نظم المعلومات، أم كان في مجال الصناعات والأغذية، أم الاستقلال الغذائي، فكلمة {خُذُوا حِذْرَكُمْ} [النساء: 71] كلمة استراتيجية عجيبة شاملة، و كلما قرأتُ هذه الآية ما أزال أتعجب من حال مَنْ عندهم مثل هذا المبادئ ثم يعتمدون في صناعاتهم على الآخرين، فأين أخذ الحذر؟ أين تطبيق هذه الآية؟ لقد نزل هذا القانون قبل 1400 عام، وهنا نعرف لماذا يصر كثير من المناوئين والمتعصبين والجاهلين على عدم ظهور الخطاب القرآني في الواقع الإنساني؛ إذ القرآن هو الذي يبني استراتيجياتنا الأمنية والدفاعية، ويشيع السلام في العالم عندما تعلم جهات الشر أن هناك من يمكن له أن يردعها إن اختارت التصرفات العدوانية الخاطئة.
وما الذي تقتضيه أيضا استراتيجية أخذ الحذر غير ما سبق؟
إنها تقتضي إعداد المنظومات الأمنية والمخابراتية التي تكفل الأمن للمجتمع، وتكون متنبهة للثغرات المتوقعة التي سيحاول العدو النفاذ من خلالها، ولذا يخبر فرعون في بلاغ عاجل عن تبليغ الجهات الاستخباراتية له عن قيام موسى عليه السلام بقيادة بني إسرائيل للهرب من السجن الجماعي الذي كانوا يعيشون فيه، ويصف الله كيف لخص فرعون لجنده وقادة ملكه المشهد بقوله: {أَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ (53) إِنَّ هَؤُلَاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ (54) وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ (55) وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ} [الشعراء: 53 – 56].. أفيكون صاحب القوة الطاغية الغاشمة أكثر انتباهًا لما يزعمه أخطارًا ممن يعملون على تطبيق العدل في أنفسهم ومجتمعاتهم؟
كما أن استراتيجية أخذ الحذر تقتضي التنبه للقضايا اليسيرة التي قد يغفل عنها الإنسان لشدة المداخلة والمعايشة لغيره، واسمع إلى الله يبين ذلك فيقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ} [التغابن: 14]، وهذا لا يعني أن تشك في الأهل والأولاد، ولا يعني أن تقلب حياتك مع الأولاد والأزواج إلى أن تحول الحياة إلى جحيم، بل يعني ألا يستسلم الإنسان لدعوات الشيطان التي قد ترد على لسان الولد أو لسان الزوجة؛ لأن الإسلام ربانا على عاطفة عظيمة جداً تجاه الأهل والأولاد فالله يقول: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ} [يونس: 67] فبنى الحياة على عاطفة شديدة السيطرة على النفس الإنسانية، وينبهنا الله إلى ضرورة ألا تجرنا العاطفة إلى أن ننسى أخذ الحذر حماية لنا ولهم من التبعات لو وقعنا فيها كترك الواجبات، أو نسيان مساعدة الآخرين بسبب الاشتغال لزيادة الترف للأسرة، لكن الآية تعني ضمن ما تعني أن بعض الأولاد وبعض الأهل ربما ضغط على الإنسان لترك واجباته تجاه ربه أو تجاه مجتمعه، أو ربما ضحى بدينه أو مجتمعه لأجل ترفيه أسرته، وحقيقة الأمر أنه يقضي على أسرته لأنه إن لم يكن صادقًا أمينًا مع مجتمعه ظهر الفساد الذي يوشك أن يرتد على أسرته ومنجزاته الشخصية.
وبذا يجتمع لنا من هذا اللفظ الوجيز: ﴿ خُذُوا حِذْرَكُمْ ﴾ أن نعد الوسائل التي تكفل وتحقق لنا الأمن العام والخاص، ولم يبين لنا سبحانه ممن نأخذ الحذر، وذلك ليشمل كل الثغور الأمنية والعسكرية والتعليمية والإعلامية التي يمكن أن يدخل من خلالها أهل الشر من أولياء الشيطان، وقد خص الله بالذكر الحركة المنافقة التي تعيث فسادًا في جسد المجتمع الإسلامي فقال: {هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ} [المنافقون: 4].
وتأمل في التعبير القرآني العجيب هنا ﴿خُذُوا حِذْرَكُمْ﴾، والأخذ تناول الشيء البعيد المحسوس، والأصل فيه: «حَوْز الشيء وجبْيُه وجمعه» [3]، كأنها شيء مأخوذ، لم يقل: يا أيها الذين آمنوا احذروا، كأنه شيء ملموس دلالة على شدة الاستعداد، وجمع كل تلك الاستراتيجيات الممكنة وحوزها، وعدم الغفلة عنها وليس النوم والاستنامة وزعم الفأل والأمل، والأماني الخيالية، وبذلك يضع الله لنا صورة محسوسة مدهشة تتمثل في ضرورة وضع أعلى الاستراتيجيات الأمنية المحققة للحذر.
وهذه الاستراتيجية تقتضي أن ننشط أعلى برامج الاستعداد لاتقاء شر العدو، كما يقتضي ذلك إعدادًا داخليًا خاصًا في جميع المجالات التعليمية والإعلامية والعسكرية فإنه يقتضي دراسات تفصيلية ترصد واقع العدو، ومدى قوته، وأماكن ضعفه، وكيفية التواصل معه، لأنه قد نصل معه إلى اتفاق أو هدنه ندرسه عن قرب، والواقع الجغرافي والاجتماعي والتاريخي لأرضه وقومه مما يسمى بالجغرافيا الجيوسياسية، وقد قالت العرب:» قَتَلَتْ أَرْضٌ جَاهِلَهَا»[4]، وينبغي تسليط الأضواء على مقدار خطوط التعاون بينه وبين غيره من الأعداء الآخرين، وكيفية الوصول إلى التفريق بينهم وتسليط بعضهم على بعض، ومن أهم معالم أخذ الحذر الوصول إلى الاكتفاء الذاتي في السلع الأساسية الغذائية، وكيفية التخلي عن الاعتماد على الآخرين في الاحتياجات الحياتية الأساسية، ويدخل في أخذ الحذر: صناعة الأسلحة المختلفة، وعدم الاعتماد على الآخرين في اختراعها وتوفيرها.
#المجيدي
مفصل تفسير سورة النساء
[1] تفسير الزمخشري (1/ 532).
[2] الطبري (8/ 536).
[3] معجم مقاييس اللغة، اتحاد الكتاب العرب (1/ 86).
[4] مجمع الأمثال، لأبي الفضل أحمد بن محمد النيسابوري، تحقيق: محمد محيى الدين عبد الحميد، دار المعرفة – بيروت، لبنان (2/108.).