المقالات

ما المؤسسة المقدسة في الإسلام؟

أ.د/ عبد السلام المجيدي

{وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا} [النساء: 21]

تقديس رابطة الزواج…

ينظر الإسلام إلى الزواج كعلاقة ورابطة عظيمة بل يوجب تقديس رابطة الزواج فلا يتعامل معها إلا وفق مقتضيات الـميثاق الغليظ الذي جمع الله به بين الزوجين، والتحذير الإيماني والقضائي من تعسف الزوج في استعمال حقوقه الشرعية، ويُبَصِّرُنا بذلك قوله: {وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا} [النساء: 21]:

فالاستفهام في قوله تعالى ﴿وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ﴾

تعجبيٌّ من جهة، وإنكاريٌّ تغليظيٌّ من جهة أخرى على من يأخذ شيئًا من مالهن، فهن قد بذلن أنفسهن لكم، فكيف تقدر نفوسكم على استباحة مالهن بعد ذلك الاتحاد والامتزاج؟، وانظر هنا لشدة المنافحة عن حقوق المرأة، بل تأمل في الدفاع عنها وعن واقعها مهما استضعفها المستكبرون.

وهنا هَيَّج حنان الرجال وشجاعتهم ورجولتهم لئلا يقعوا في ظلم المرأة بأخذ شيءٍ من مالها من خلال أمرين:

الأمر الأول: ذكر لفظ الإفضاء دون قيد:

والإفضاء المباشرة، والمراد هنا وصول بشرة الرجل إلى المرأة بالجماع، والعرب تستخدم الكنايات للدلالة على الأغراض التي لا تريد التصريح بها كقول الشاعر:

(بَلِينَ) بِلًى أَفْضَى إلَى (كُلِّ) كُتْبَةٍ

 بَدَا سَيْرُهَا مِنْ بَاطِنٍ بَعْدَ ظَاهِرِ

فالكُتبة الخرزة التي يوصل بها بين جانبي القربة، والمراد أن الفساد والبلى وصل إلى الخُرَز، وكذلك هنا؛ فإن من أجمل الكنايات المستخدمة في القرآن الكنايات الواردة في موضوع العلاقة الجنسية؛ إذ يصورها للإنسان تصويرًا مدهشًا يجمع بين إفهام الإنسان لجمال تلك العلاقة وبين الأدب الراقي في الذكر، وذلك من خلال كنايات تعكس مقدار الجمال الذي في التعبيرات القرآنية، فكنَّى هنا عن الجماع بالإفضاء، فقال: {وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ} [النساء: 21]، وبين ابن عباس أن معنى الإفضاء هو المباشرة وما بعدها فقال: الإفضاء المباشرة، ولكنّ الله كريم يَكْني عما يشاء، ويدل على أن الإفضاء هو الجماع ما ثبت فِي الصَّحِيحَيْنِ في مناسبة مشابهة لموضوع أخذ مال المرأة، حيث قال رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِلْمُتَلَاعِنَيْنِ بَعْدَ فَرَاغِهِمَا مِنْ تَلَاعُنِهِمَا: «اللَّهُ يَعْلَمُ أَنَّ أَحَدَكُمَا كَاذِبٌ. فَهَلْ مِنْكُمَا تَائِبٌ» ثَلَاثًا. فَقَالَ الرَّجُلُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَالِي -يَعْنِي: مَا أُصْدِقُهَا-قَالَ: «لَا مَالَ لَكَ إِنْ كُنْتَ صدَقْت عَلَيْهَا فَهُوَ بِمَا اسْتَحْلَلْتَ مِنْ فَرْجِهَا، وَإِنْ كُنْتَ كَذَبْتَ عَلَيْهَا فَهُوَ أَبْعَدُ لَكَ مِنْهَا».

ويبقى السؤال: لماذا لم يتعد الإفضاء بمفعول يناسبه؟

الجواب: لأن كلمة ﴿أَفْضَى﴾ تدل على الاتساع والانفساح، ومن ذلك الفضاء، وإنما لم يقل: وأفضى بعضكم إلى بعض بالجماع، لتبين الآية أن المراد الجماع، وكل جوانب العشرة التي لا تخفى، فجعل الله الفعل ﴿أَفْضَى﴾ بلا مفعول محدد لتشع كل معانيه أمام سامعيه، ولتنسكب كل إيحاءاته التي يشعرها المرء في دلالاته، فلا يقف عند حدود الجسد وإفضاءاته، بل يشمل العواطف والمشاعر، والوجدانات والتصورات، والأسرار والهموم، والتجاوب في كل صورة من صور التجاوب، والقرآن «يدع اللفظ يرسم عشرات الصور لتلك الحياة المشتركة آناء الليل وأطراف النهار، وعشرات الذكريات لتلك المؤسسة التي ضمتهما فترة من الزمان.. وفي كل اختلاجة حب إفضاء. وفي كل نظرة ود إفضاء. وفي كل لمسة جسم إفضاء، وفي كل اشتراك في ألم أو أمل إفضاء. وفي كل تفكر في حاضر أو مستقبل إفضاء. وفي كل شوق إلى خلف إفضاء. وفي كل التقاء في وليد إفضاء..

كل هذا الحشد من التصورات والظلال والأنداء والمشاعر والعواطف يرسمه ذلك التعبير الموحي العجيب:

{وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ} [النساء: 21].. فيتضاءل إلى جواره ذلك المعنى المادي الصغير، ويخجل الرجل أن يطلب بعض ما دفع، وهو يستعرض في خياله وفي وجدانه ذلك الحشد من صور الماضي، وذكريات العشرة في لحظة الفراق الأسيف» [1].

وها هنا بصيرة أخرى في العلاقة الرائعة التي يصفها القرآن بين الرجل والمرأة حيث جاء التعبير بقوله: {وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ} [النساء: 21] مع أنه كان يمكن أَنْ يَقُولَ: وَقَدْ أَفْضَيْتُمْ إِلَيْهِنَّ، أَوْ أَفْضَى أَحَدُكُمْ إِلَى الآخَرِ،

وذلك ليبين أن كُلّ وَاحِدٍ مِنَ الزَّوْجَيْنِ بِمَنْزِلَةِ جُزْءِ الآخَرِ وَبَعْضِهِ المُتَمِّمِ لِوُجُودِهِ، فَكَأَنَّ بَعْضَ الحَقِيقَةِ كَانَ مُنْفَصِلًا عَنْ بَعْضِهَا الآخَرِ، فَوَصَلَ إِلَيْهِ بِهَذَا الإِفْضَاءِ وَاتَّحَدَ بِهِ، ومَعْنَى الزَّوْجِيَّةِ هِيَ أَنَّهَا حَقِيقَةٌ وَاحِدَةٌ مُرَكَّبَةٌ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى كُلٌّ مِنْهُمَا نِصْفُهَا؛ وَلِذَلِكَ يُطْلَقُ عَلَى كُلٍّ مِنْهُمَا لَفْظُ «زَوْجٍ» لِاتِّحَادِهِ بِالآخَرِ وَإِنْ كَانَ فَرْدًا فِي ذَاتِهِ، وليظهر أن كلًا من الطرفين كان يجد لذته بعلاقته الجنسية ومعاشرته المعيشية من الطرف الآخر، وقد قالت إحداهن تعاتب زوجها:

وَبِتْـنَا وَمَا بَيْـنِي وَبَيْـنَكَ ثَالِثٌ

 كَزَوْجِ حَـمَامٍ أَوْ كَغُصْنَيْنِ هَكَذَا

فَمِنْ بَعْدِ هَذَا الوَصْلِ وَالوُدِّ كُلِّهِ

 أَكَانَ جَمِيلًا مِنْكَ تَهْجُرُ هَكَذَا؟

هل تعرف تعبيرا عظيما في أي كتاب يوازي هذا الجمال الذي يدخل النفس فيستوطن القلب ويسمو بالروح ويعلو بالفكر إلى مراتب النجاح والفلاح.

الأمر الثاني: ذكر الميثاق الغليظ حيث قال الله تعالى: {وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا } [النساء: 21]:

الميثاق مِفْعَالٌ وَهُوَ يَكُونُ لِلْآلَةِ كَثِيرًا كَمِرْقَاةٍ وَمِرْآةٍ وَمِحْرَاثٍ، ويكون للمصدر نَحْوَ المِيلَادِ وَالمِيعَادِ، وهو كلمة مشتقة من وَثِقْتُ بفلان أثق به ثِقةً، فهي كلمة تدل على عقد وإحكام، وبه سميت الوثيقة، وهي العهدة المكتوبة التي يوثق بما فيها، والوَثيقُ: المحكم، ومنه الوَثاقُ وهو الحبل، فالميثاق: العهد المحكم الشديد إحكامه حتى كأنه شدَّ بوثاق أي بحبلٍ يوثقه فلا يمكن فكه، كما قَالَ الكُمَيْتُ يمْدَحُ مَخْلَد بنَ يَزيد بن المهلَّب:

وخَلائِـق منْـه إليّ جميـلَة

 حسْبي، ونِعْمَ وَثيقَةُ المُسْتَوثِقِ

فانظر إلى هذا الوصف العميق للعلاقة الشرعية بين الرجل والمرأة: (الميثاق الغليظ).. يا له من وصفٍ شديد الوقع على سامعيه:

فالميثاق العقد المحكم المؤكد بمؤكدات مثل اليمين، ومنه قول يعقوب عليه السلام: {حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقًا مِنَ اللَّهِ} [يوسف: 66]، وإن كان الميثاق في ذاته عقدًا شديد الإحكام فإنك تندهش عندما تجد الله يصفه بأنه غليظ، فهذا إحكامٌ مضاعف؛ فالغليظ هنا صفةٌ مشبهةٌ من غَلْظ إذا كان صلبًا شديدًا، تصور عظمة العهد الذي يكون بين الرجل والمرأة في العقد الشرعي للعلاقة بينهما…

كل ذلك لبيان عظمة هذا اللقاء الزوجي بين الزوج والزوجة ليكونا الأسرة المركزية، فهذه الأسرة المركزية ستكون حجر الزاوية في بث الحياة الإنسانية، وتكون نواة أساسية مع الأسر الأخرى للاستقرار والتكاثر والإعمار والازدهار، وكأني بالزوج يذكر زوجته بهذا الميثاق الغليظ عند النزاع، فيقول لها:

أنت يا ساكنة القلب لماذا تهجرين؟؟ ولماذا تسرقين الأمل المشرق من قلبي وعني تهربين؟

ولماذا تسكتين؟ ولماذا تغمدين السيف في القلب الذي تمتلكين؟؟ ولماذا تطلقين السهم نحوي..

سهمك القاتل لا يقتلني وحدي.. فهل تنتحرين؟؟ مؤلم هذا السؤال المر.. نار في قلوب العاشقين.. فلماذا تهجرين؟؟

وأنا.. طفل على باب الأماني ينتظر.. شاعر يشرب كأس الحزن.. يدعو يصطبر

أنا نهر الأمل الجاري الذي لا ينحسر…لم أحرك مقلة اليأس، ولم انظر بطرف منكسر

أنا يا ساكنة القلب الذي لا تجهلين.. شاعر يمسح بالحب..دموع البائسين.. شاعر يفتح في الصحراء دربا..

للحيارى التائهين.. أنا يا ساكنة القلب الذي يفهم ما تعني الإشارة.. أنا من لا يجعل الحب تجارة

أنا من لا يعبد المال. ولا يرضى بأن يخلع للمال إزاره.. أنا من لا يبتني في موقع الذلة داره.. أنا من لا يلبس الثوب لكي يخفي انكساره.. أنا.. من لا ينكر الود ولا يحرق أوراق العهود.. ما لأشواقي حدود.. لهفتي تبدأ من أعماق قلبي.

وإلى قلبي تعود.. راكض.. والأمل الباسم يطوي صفحة الكون ويجتاز السدود.

ولم يسمِّ الله عهدًا بالميثاق الغليظ إلا ثلاثة عهود أو ثلاث اتفاقيات:

العهد الأول: هذا الرباط المقدس.

العهد الثاني: الميثاق الغليظ الذي أخذه الله جل جلاله على أنبيائه ليبلغوا رسالة الرحمة والإنقاذ للبشرية إلى العالم، وقال عن هذا الميثاق: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا (7) لِيَسْأَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ وَأَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا أَلِيمًا} [الأحزاب: 7، 8]

العهد الثالث: الميثاق الغليظ المشدد المأخوذ على بني إسرائيل في عموم دينهم، وفي خصوص السبت حيث قال ربنا سبحانه: {وَرَفَعْنَا فَوْقَهُمُ الطُّورَ بِمِيثَاقِهِمْ وَقُلْنَا لَهُمُ ادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُلْنَا لَهُمْ لَا تَعْدُوا فِي السَّبْتِ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا} [النساء: 154] فانظر كيف طابق وصف هذين العهدين مع العهد الثالث، في تسمية كل منهم ميثاقًا غليظًا.. إنه العقد الشرعي للعلاقة بين الزوج والزوجة.. وإنك لتشعر بهيبة هذا العهد، وضخامة تبعاته، فهل يعقل الزوجان ذلك؟

ويدخل ضمن الميثاق الغليظ ما التزمه الزوج من المعاشرة بالمعروف أو التسريح بإحسان، وبذلك فسره قتادة حيث قال: والميثاق الغليظ الذي أخذه للنساء على الرجال: إمساك بمعروف أو تسريح بإحسان، وقد كان في عقد المسلمين عند إنكاحهم: «آلله عليك لتمسكنَّ بمعروف أو لتسرحن بإحسان» [2]..

فقد جعل الله مستند الميثاق الغليظ كلمة الله.. إنها الكلمة التي ينبغي للمسلم أن يعظمها فوق كل كبيرٍ وشريف عنده، وقد ذكر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بها فِي خُطبة حِجة الوَدَاعِ، فقال:

«وَاسْتَوْصُوا بِالنِّسَاءِ خَيْرًا، فَإِنَّكُمْ أَخَذْتُمُوهُنَّ بِأَمَانِ اللَّهِ، وَاسْتَحْلَلْتُمْ فُروجهن بِكَلِمَة اللَّهِ».


[1] في ظلال القرآن (1/ 606).

[2] تفسير الطبري ت شاكر (8/ 127).


الكلمات المفتاحية: مؤسس الزواج المقدس مقدس