ما سر التعبير بقوله {حَفِيظًا} إذ لم يقل (رقيبا)؟ وما علاقة ذلك بالتعامل النبوي مع المؤمنين وغيرهم؟
14 ديسمبر، 2023
424
{وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا} [النساء: 80]
للإنسان حرية الاختيار لطاعة الرسول صلى الله عليه وسلم إن كان كافرًا، وأما إن كان مسلمًا فإن عدم طاعة الرسول يناقض الإيمان، فليتذكر التبعات الأخروية الرهيبة إن اختار عدم طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم، ويُبَصِّرُنا بذلك قوله تعالى ذكره: {وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا} [النساء: 80]، ﴿ وَمَنْ تَوَلَّى ﴾ يعني: انصرف-، ولم يستقم على الطاعة النبوية، فلا يصيبك الحزن منه، أو عليه؛ فلست عليهم بمسيطر، ولا إكراه في الدين؛ إذ لم ترسل حفيظًا عليهم، أي: فلست مسؤولًا عن توليهم، ولا مطالبًا بمحاسبتهم.
التولي يعني الانصراف والإدبار، ويطلق على النقض وعدم الاستقامة، وهذه الجملة تبصرنا بأن قانون طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم قانون أساسي في استراتيجية أخذ الحذر فمن تولى عنه فلا يصيبك الحزن منه أو عليه؛ فلست عليهم بمسيطر، ولا إكراه في الدين، إذ لم ترسل حفيظًا عليهم، وهذه البصيرة محكمة، فلم تُنسخ بآيات الجهاد ولا غيرها، ومعناها متكرر في القرآن الكريم.
والآن لاحظ أن الله جل شأنه نفى عن نبيه صلى الله عليه وسلم بأنه (حفيظ) على الناس، ولم يقل (رقيبا) مثلا فما سبب ذلك؟
﴿ حَفِيظ﴾ على وزن فعيل، بمعنى فاعل، أي: حافظ، وهو الحارس الأمين الحافظ، وإذا كان كذلك فهو سيمنعهم من الوقوع في الخطأ قهرًا؛ إذ هو حارس عليهم، وحفيظ أبلغ من رقيب، فالحفيظ عنده سلطة التدخل والمنع والوصاية مثلا، ولكن الله منحهم حرية الإرادة، ومشيئة الاختيار، ويترتب على ذلك أنك لست الذي تحفظهم أو تحفظ عليهم خواطرهم ومشاعرهم وأحاسيسهم وأفكارهم، ولست عليهم حفيظًا في إجبارهم على الإسلام، {أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} [يونس: 99] فمهمتك البلاغ وليس الإلزام بالدخول في الطاعة والإسلام، وقال تعالى ذكره {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا} [النساء: 80] فما أرسلناك للناس جبارًا ولا عليهم مسيطرًا، فلست تجبر الناس على الإسلام، {نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ} [ق: 45]، وفي حال أسلم أحدهم، فلست حفيظًا عليهم، أي: في مشاعرهم وخواطرهم، وإنما أنت مذكر لهم، {فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ (21) لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ} [الغاشية: 21، 22] فأنت تذكرهم ولست عليهم حفيظًا ولكنك تراقب أعمالهم وتصرفاتهم الظاهرة العلنية ليتم التواصي بالحق والتواصي بالصبر، فالرقابة تؤدي إلى التذكير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [آل عمران: 104].
ونجمع بين هذا وبين قوله: {فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ } [المائدة: 48] وأمثالها من الآيات بأن الواجب على الرسول البلاغ، ثم الحكم بين المؤمنين بمقتضى إيمانهم، أما مع العالمين، فيجب عليه البلاغ فقط، فالـمراد عدم الإلزام بأصل الإيمان، بينما يجب الحكم بين الـمؤمنين وفق مقتضيات الإيمان.
أما حديث الدنيا فالمراد ما قاله النبي صلى الله عليه وسلم على سبيل الظن مما يخضع للمنهج التجريبي، ولم يأت على سبيل الأمر الشرعي؛ إذ مرده إلى الخبرة والتجرِبة الإنسانية؛ ألا ترى أن النووي في شرحه على صحيح مسلم بوب لهذا الحديث، فقال: «باب وجوب امتثال ما قاله شرعا دون ما ذكره صلى الله عليه وسلم من معايش الدنيا على سبيل الرأي» .
وأما ما ذكرناه من أن قوله تعالى {وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا } [النساء: 80] يجمع تخييرًا وتهديدًا رهيبًا من التبعات الدنيوية سواء للمؤمنين أو للعالمين.. هذا لا يعني إلزام العالم بطاعة الرسول بل يكفي أن تنظر إلى بؤس العالم عندما لم يسمع كلام الرسالة في الربا والخمر.. وهذان مثلان فقط، وإلا فكل ما جاء في الرسالة الإلهية فيه مصلحة للإنسانية أدركت ذلك أو لم تدركه، «وأقصى ما يتطلب من الإدراك البشري أن يتحرى إدراك دلالة النص وانطباقه لا أن يتحرى المصلحة أو عدم المصلحة فيه!»
وأما المؤمنون فإنه لا يمكنهم تحصيل المجد الدنيوي دون طاعة الرسول مهما قلبوا وجوههم في اتباع أهواء أهل الكتاب.. وأما تبعات الآخرة فهي الهول العظيم الذي ينتظر المعرضين عن الحق.. فلا ينافي إلزام الناس بحكم الله؛ إذ المراد عدم الإلزام بأصل الإيمان، بينما يجب الحكم بين المؤمنين وفق مقتضيات الإيمان، وتبقى تربيتهم على المراقبة الذاتية، واستشعار معية الله في الأمور الخفية التي لا يطلع عليها الرسول صلى الله عليه وسلم ولا غيره من البشر، وبذا فإن ولاة الأمر في الأمة المسلمة ينبغي أن يسيروا في اتجاهين: تطبيق الشرع في الواقع، وغرس التربية الذاتية في نفوس الناس فيما لا سبيل إلى السيطرة الظاهرية عليه كما يقول ابن خلدون: «فقد تبين أن الأحكام السلطانية والتعليمية مفسدة للبأس لأن الوازع فيها أجنبي، وأما الشرعية فغير مفسدة لأن الوازع فيها ذاتي. ولهذا كانت هذه الأحكام السلطانية والتعليمية مما تؤثر في أهل الحواضر في ضعف نفوسهم وخضد الشوكة منهم بمعاناتهم في وليدهم وكهولهم، والبدو بمعزل عن هذه المنزلة لبعدهم عن أحكام السلطان والتعليم والآداب» .