ماذا تمثل السنة النبوية في إدارة شؤون الحياة، وما موقفنا ممن يحاربها؟
19 سبتمبر، 2023
420
{وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ} [النساء: 64]
ماذا تمثل السنة النبوية في إدارة شؤون الحياة، وما موقفنا ممن يحاربها؟
بين الله تعالى أن من صفات المنافقين إنكار حجية السنة النبوية وأنهم يصدون عن النبي صلى الله عليه وسلم فقال {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا} [النساء: 61]
ثم بين أنّ التعامل معهم يجب أنْ يتسم بالحُسْن والحذر في الوقت ذاته لشدة الخبث الذي يتسم به قياداتهم، ولاستيعاب المغرر به من أتباعهم، ويُبَصِّرُنا بذلك قوله جل ذكره: {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغًا} [النساء: 63] ؛ إذ لا يمكن أن يعاملوا معاملة الأعداء الصرحاء ويصعب أن يعاملوا معاملة الأصدقاء الموالين.
ثم ذكر بعد ذلك أن السنة النبوية تمثل المرجعية المركزية لإدارة شؤون الحياة.
ويُبَصِّرُنا بذلك قوله تعالى ذكره: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ} [النساء: 64] ، فينبغي إحراج المنكرين للسنة من المنافقين وغيرهم أمام الرأي العام بأن يتم كشف مدى التزامهم بالإسلام بمقياس الرجوع إلى السنة النبوية المقبولة، وأن يُحثوا إذا أظهروا ما يُعكِرُ ذلك على أن يستغفروا الله، ويطلبوا استغفار الرسول صلى الله عليه وسلم في حياته، ويراجعوا سنته بعد وفاته، ويُبَصِّرُنا بذلك قوله: {وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا} [النساء: 64] ، ولاحظ أنه ينبغي أن نحثهم على أن يستغفروا الله لا أن نحرص على تفسيقهم أو تكفيرهم:
هذه الجملة المباركة ﴿ وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ ﴾ تبصرك بتوقعٍ مستقبليٍّ لردة فعل الناس بعد إرسال الرسل، فأي رسولٍ بُعِثَ فإنه يجب أن يطاع إذ يستمد طاعته من الله، وقوله ﴿ بِإِذْنِ اللَّهِ ﴾ يعني بتوفيق الله لمن أطاعه، وإعانته على لزوم تلك الطاعة، ومعنى ذلك أن غير الموفقين يكلهم الله إلى أنفسهم، فيأبون إلا المعصية «فَمِنَ الرُّسُلِ مَنْ أُطِيعَ، وَمِنْهُمْ مَنْ عُصِيَ تَارَةً أَوْ دَائِمًا، وَقَدْ عُصِيَ مُوسَى فِي مَوَاقِعَ، وَعُصِيَ عِيسَى فِي مُعْظَمِ أَمْرِهِ، وَلَمْ يُعْصَ مُحَمَّدٌ مِنَ المُؤْمِنِينَ بِهِ المُحِقِّينَ إِلَّا بِتَأَوُّلٍ، مِثْلِ مَا وَقَعَ فِي يَوْمِ أُحُدٍ إِذْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَعَصَيْتُمْ} [آل عمران: 152] »[1].
وكلمة ﴿بِإِذْنِ اللَّهِ﴾ تحمل معنى آخر، فهي تدل على أن شرعية طاعة هذا الرسول جاءت من الله جل جلاله، فكيف يطعن في سنته طاعنٌ يزعم أنه ينتسب إلى الإسلام؟
وكما يحمل هذا المعنى تسليةً للنبي صلى الله عليه وسلم عندما يوجد من يخالفون أمره، ويصرون على التحاكم إلى غيره فإنه يحمل معنى التثريب على هؤلاء المعرضين عن طاعة رسوله صلى الله عليه وسلم، إذ إن الله لم يشرع الشرائع ليتم الإعراض عنها وبناء شرائع قائمة على الأهواء.. تأمل الآية لتمدك ببصيرة واضحة:
كل رسول بعث ومعه شريعة ليتم طاعته في تلك الشريعة، فما فائدة الزعم باتباع دين مع عدم طاعة ذلك النبي؟. والآية تخيف من لم يطع النبي صلى الله عليه وسلم من المسلمين بأنه قد يكون منتميًا إلى هذه الفئة الخائنة التي تزعم الإيمان وتأبى التحاكم إلى الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، أو يتشبه بها وهو لا يشعر، فليستيقظ ولا تأخذه نشوة الغرور العلمي أو الواقعي ليُعرض، فالتمسك بالسنة والتحاكم إليها لأنها المبينة للقرآن في جميع الأمور السياسية والاقتصادية والاجتماعية.
والآية تبين سبب طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم لأن الله جعل له هذه الطاعة فهي بإذنه، وإنما ذكر إذن الله تعالى حتى لا يتوهم أن هذه الطاعة قد تؤدي إلى الطاغوت فيأتي من يزعم أنه لا يريد تقديس البشر، فلا يعطي النبي صلى الله عليه وسلم مكانته، ولا يوقر ما ثبت من سنته صلى الله عليه وسلم.
وبعد هذه القاعدة العامة في كل رسول يُبَصِّرُنا الله جل جلاله بألا نسارع إلى تكفير هؤلاء أو تفسيقهم بل أن نخبرهم حال ظلمهم لأنفسهم بإصرارهم على تحكيم الطاغوت أو ارتكابهم للمعصية بأن يسارعوا إلى استغفار الله جل جلاله، وأن يأتوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم ليستغفر لهم إن كان حيًّا، وأن يراجعوا سنته ويظهروا محبته إن كان ميتًا صلى الله عليه وسلم، وفي هذا بيانٌ لمكانة النبي صلى الله عليه وسلم، وإظهارٌ لمنزلة السنة النبوية؛ إذ يبين الله -عزَّ جاره- أن قبول التوبة لا يتم ممن أعرض عن أمر الرسول صلى الله عليه وسلم إلا أن يظهر صدق التوبة باستغفار الرسول له في حياته صلى الله عليه وسلم {وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا} [النساء: 64].
وقد بدأ الجملة بكلمة ﴿ﭹ﴾ ليبين أنه حرف شرطٍ غير جازم يفيد التعليق في الماضي أو المستقبل، يستعمل في الامتناع أو في غير الإمكان، أي: امتناع الجواب لامتناع الشرط فتقول: لو كنت غنيا لتصدقت بنصف مالي، وهنا قال: {وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا}، فامتنع أن يجدوا الله توابًا رحيمًا لما منعوا أنفسهم من المجيئ ليستغفروا الله ويستغفر لهم الرسول.. فما لهم لا يبادرون؟ ما لهم لا يفعلون؟
وانظر كيف جعل جرائمهم ظلمًا لأنفسهم.. إن حقيقة شرك التشريع عندهم ظلم لأنفسهم.. إن صدَّهم عن النبي صلى الله عليه وسلم أو عن سنته ظلمٌ لأنفسهم.. قد نفهم أن إنسانًا يظلم غيره؛ إذ يحاول أن ينقص حظوظ غيره ليأخذها.. لكن أن يظلم نفسه أي يصيب نفسه بالنقص.. فما هذا؟
نعم إن شرك التشريع ليس إلا ظلمًا للنفس.. إن الصد عن رسول الله ليس إلا ظلمًا للنفس؛ إذ يبتعد الإنسان إن اقترف هاتين السيئتين عن الحياة السعيدة التي توازن بين الروح والجسد، وتوازن بين الأولى والأخرى، ويرضى بعاجل من الطمع يوشك أن يفارقه.. ولكن الله لم يجعل هؤلاء في يأس من روحه ولا من رحمته، ففتح لهم الباب واسعًا للعودة من ظلمهم لأنفسهم، وشرط لذلك ثلاثة أمور: أن يأتوا النبي صلى الله عليه وسلم، وبعد وفاته أن يراجعوا سنته، ويثبتوا على ملته، ثم لا يكفي ذلك حتى يستغفروا الله جل جلاله، ثم لا يكفي ذلك فيضموا إلى هذين الأمرين أن يستغفر لهم النبي صلى الله عليه وسلم، وبعد وفاته يكون البديل عن استغفاره صلى الله عليه وسلم أن يحسن أخلاقه بعد الإكثار من الرجوع إلى سنته صلى الله عليه وسلم، وأن يكثر من الصلاة عليه، ولعله يدل على ذلك ما جاء عن عبد الله بن عمرو أنه قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في مجلس: «ألا أحدثكم بأحبكم إلي وأقربكم مني مجلسا يوم القيامة» ثلاث مرات يقولها. قلنا: بلى يا رسول الله. فقال: «أحسنكم أخلاقا» [2].
وكذلك كثرة الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم فإنها تعرض عليه فعَنْ أَوْسِ بْنِ أَوْسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ مِنْ أَفْضَلِ أَيَّامِكُمْ يَوْمَ الجُمُعَةِ فِيهِ خُلِقَ آدَمُ، وَفِيهِ قُبِضَ، وَفِيهِ النَّفْخَةُ، وَفِيهِ الصَّعْقَةُ، فَأَكْثِرُوا عَلَىَّ مِنَ الصَّلاَةِ فِيهِ فَإِنَّ صَلاَتَكُمْ مَعْرُوضَةٌ عَلَىَّ». قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَكَيْفَ تُعْرَضُ صَلاَتُنَا عَلَيْكَ وَقَدْ أَرِمْتَ؟ يَقُولُونَ بَلِيتَ. فَقَالَ: «إِنَّ اللَّهَ عزَّ وجلَّ حَرَّمَ عَلَى الأَرْضِ أَجْسَادَ الأَنْبِيَاءِ » [3].
فإن جاءوا فاستغفروا الله واستغفر لهم الرسول تكون النتيجة المجيدة: {لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا} [النساء: 64]، وجعل الله هذه الجملة جَوَابًا لـ ﴿َلَوْ﴾ ليدل على أنهم لم يجدوا الله توابًا رحيمًا لأنهم لم يسلكوا سبيل المغفرة فلم يستغفروا الله ولم يأتوا النبي صلى الله عليه وسلم ليستغفر لهم في حياته، ولم يراجعوا سنته ويطبقوها بعد موته، وانظر كيف أتى بصيغة المبالغة: توابًا رحيمًا، ليدل على تأصل توبته ورحمته، وعلى كثرة ذنوب عباده حيث تقابلهم التوبة مهما كثرت أعدادهم أو كثرت ذنوبهم.
[1] التحرير والتنوير (5/ 109).
[2] أحمد (2 / 217) برقم 7035، وحسنه الأرناؤوط، وراه الترمذي (4 / 370)، برقم 2018، وقال: حسن غريب، وصححه الألباني.
[3] أبو داود (1 / 405) برقم 1049، وصححه الألباني.