متى يحقق الجهاد أعظم المصالح؟… وما صور الجهاد في سبيل الله؟
18 نوفمبر، 2023
753
القتال في الإسلام جاء ليحقق أهدافا سامية عليا كثيرة، ولكن أهم أهداف القتال في سبيل الله تحقيق أعظم مصالح الإنسانية، وأقوى إنجازات البشرية بإنقاذ الـمستضعفين، وتحقيق العدل، والوقوف ضد الطغيان الظالـم الـمجرم، يُبَصِّرُنا به قوله تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ} [النساء: 76] فالذي يقاتل للطغيان الفردي أو الجماعي أو السيطرة على الآخرين أو المتعة فهو في سبيل الشيطان.
لاحظ أن هذه هي المرة الرابعة التي تكررت فيها جملة ﴿فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾ في ثلاث آيات متتابعات: {فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ وَمَنْ يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا} [النساء: 74]، {وَمَا لَكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [النساء: 75]، {الَّذِينَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [النساء: 76].
لماذا تتكرر هذه الجملة بهذه الصورة الواضحة؟
إن الله يريد أن ينقي هذا المفهوم من الأغراض الرديئة التي صورته على أنه محبة في القتال لذاته، فأراد الله سبحانه وتعالى أن يبين لنا أن القتال الحقيقي هو يكون في الطريق الواضح السهل الذي شرعه الله، وبذا نفهم بأن الأصل في القتال المنع في الإسلام، فمتى يباح؟ إذا كان في سبيل الله لا في سبيل الأهواء الشخصية، ليس في سبيل المجد الشخصي، ليس في سبيل السيطرة على خيرات الآخرين، ليس في سبيل الاستكبار وتكوين امبراطورية كبرى، القتال ليس مشروعًا من أجل إيذاء الآخرين، القتال ليس مشروعا من أجل بيان الاستكبار العالمي، فالقتال مشروع في حالة واحدة وهو أن يكون في سبيل الله فقط، والحل العسكري، لا يجوز أن يلجأ إليه للاستمتاع، ولا للأهواء الشخصية، ولا للانتقام، ولا للإجرام، ولا للاعتداء، ولا للسيطرة على خيرات الآخرين، ولا للعلو، ولا للاستكبار، بل ليكون في سبيل الله.. الإسلام لا يعرف القتال للغنيمة، ولا للسرقة، ولا لبناء الـمجد الشخصي، وطموحات الاستعلاء في الأرض، ولا لتمجيد جنس على جنسٍ، فـ «لَمَّا بَيَّنَ وُجُوبَ الجِهَادِ، بَيَّنَ أَنَّهُ لَا عِبْرَةَ بِصُورَةِ الجِهَادِ. بَلِ العِبْرَةُ بِالقَصْدِ، وَالدَّاعِي» .
ويمكن بيان القتال الذي يكون في سبيل الله بأنه إنما يكون لصالح بث الحياة الإنسانية؛ إذ له أربعة أهداف:
الهدف الأول: القتال لحماية الديار والأبناء، كما قال تعالى ذكره في قصة بني إسرائيل: {وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا} [البقرة: 246].
الهدف الثاني: إزالة الفتنة وحماية الكرامة الإنسانية أن تهان، وحماية حق الإنسان في الاختيار، وخاصة حماية المستضعفين، والدفاع عن حقوق الإنسان التي عبر عنها أداء الأمانات إلى أهلها، حيث تنال الأسرة الصغيرة والكبيرة في المجتمع حقوقها، والدفاع عن الحكم بالعدل، وبصرنا بهذا أن الله أمر بأخذ الحذر بعد أن قرر جميع المبادئ الفاضلة في سورة النساء، وبين الخطر الذي يتهدد هذا الرشد في إدارة الأمور الإنسانية عندما ذكر لنا التحاكم بالطاغوت، ثم قال بعد: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ فَانْفِرُوا ثُبَاتٍ أَوِ انْفِرُوا جَمِيعًا} [النساء: 71] -إلى أن قال جل مجده- {فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ ﴾ (النساء: 71 – 74).
فإنقاذ المستضعفين يعتبر في سبيل الله، سواء كانوا مسلمين أم كفارًا، ويُبَصِّرُنا بذلك قوله تعالى ذكره: {وَمَا لَكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا} [النساء: 75]، ويدخل ضمن معاني الفتنة: التعذيب الذي يؤدي إلى اختيار عقيدة محددة نتيجة للقهر والضغط الشديد، فبعض المفسرين فسروا كلمة (فتنة) بأنه الشرك، وهذا تفسيرٌ بالنتيجة التي تنتج عن التعذيب، فالتعذيب الـموجه للشعوب الـمستضعفة يجبرهم على اعتناق عقيدة محددة، وهنا لا بد من الحرب الهجومية الوقائية لإزالة قلاع الظلم، ودك معاقل التعذيب والإجرام التي تسوم المستضعفين سوء العذاب، وبذلك يتحقق أن يكون الدين لله، ما معنى ذلك؟
معناه أن يكون الدين بين الإنسان وربه، فلا يُكره أحدٌ على أن يدخل في هذا الدين أو ذاك، فلا يكره على الشرك كما لا يكره على الإيمان، فيختار المرء بينه وبين ربه الدين الذي يظنه صوابًا، ويُبَصِّرُنا بهذا الهدف قوله تعالى ذكره: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (39) وَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَوْلَاكُمْ نِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ} [الأنفال: 39، 40].
الهدف الثالث: رد الاعتداء، وردع قوى البغي والعدوان، ويُبَصِّرُنا بذلك قول الله جل شأنه: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ} [الحج: 39]، وذكر الله في سورة البقرة ذلك في قوله جل شأنه: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ} [البقرة: 190]، ولكن اعتداءهم عليكم لا يحملنكم على الاعتداء عليهم بغير وجه حق، لذلك قال بعدها مباشرة ﴿وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ﴾ (البقرة: 190).
الهدف الرابع: القتال الرادع ضد الأهداف الـمظنون فيها الاعتداء، وهي التي تسميها الدول المعاصرة اليوم: (الحرب الوقائية، أو حرب الردع)، إلا أن للمعارك العسكرية آدابها العظيمة في الـمنظور الإسلامي، وأشار الله إلى هذا الهدف في قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ} [التوبة: 123].
فالإسلام لا يشرع القتال لتحقيق الأطماع العاجلة والمكاسب المادية الزائلة .. بل إن من أهم أهداف القتال في الإسلام تمكين البشر من نيل حقوقهم الفردية والمادية بعدالة وإنصاف.. ولذا يجب أن ينصر الـمسلـمون الـمستضعفين في الأرض، ولو كانوا كفارًا.. إنه القتال لتمكين البشرية من التمتع بخيرات الحكم بالشريعة الإسلامية، التي تكفل لكل ذي حق حقه، حتى لو كان كافرًا، أو بهيمة، أو أرضًا..
وهنا تدرك مهيع الرشاد الذي سلكه النبي صلى الله عليه وسلم لينفي الأغراض الأنانية للقتال، وبين الغرض الأسمى الذي تطل منه رحمة الله على العباد، فعَنْ أَبِي مُوسَى قَالَ جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ الرَّجُلُ يُقَاتِلُ حَمِيَّةً وَيُقَاتِلُ شَجَاعَةً وَيُقَاتِلُ رِيَاءً فَأَيُّ ذَلِكَ فِي سَبِيلِ اللهِ قَالَ مَنْ قَاتَلَ لِتَكُونَ كَلِمَةُ اللهِ هِيَ العُلْيَا فَهْوَ فِي سَبِيلِ اللهِ .