نحو فهم عميق لآية التعدد
12 يناير، 2022
1222
تزخر سورة النساء بالتشريعات التي تبث الحياة وتحمي المستضعفين، ومنها الآية التي تعتبرها بعض النساء تدليلا للرجل على حساب المرأة، وما علمن أنها في مقام التكليف والمسؤولية وإقامة القسط، فقوله تعالى {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ} [النساء:3] بيان لحقوق المستضعفين من اليتامى والنساء، فإن الآية بمعناها الأول تبصرنا بأنه يجب التعامل الـمقسط مع اليتامى، ولو اقتضى ذلك البحث عن أكثر من زوجة ليكنَّ عونًا على رعاية اليتامى بالقسط، فيدخل في ذلك ثلاث صور:
الأولى: وإن خفتم ألا تقسطوا في رعاية اليتامى لأن زوجة الواحد منكم لا تستطيع القيام بذلك فانكحوا معها من النساء مثنى وثلاث ورباع ليساعدنكم على بث الحياة الإنسانية برعاية اليتامى:
فقد يكون الإنسان وصيًّا على يتيمٍ في حجره يربيه؛ لأن أباه أسند إليه تربيته، وقد يشعر المرء بواجبه تجاه الإنسانية، فيضم إليه بعض اليتامى، ويقوم بتربيتهم، لكنه لا يجد عند زوجته الاستعداد أو القدرة على إعانته في هذه المهمة العظيمة، فلينكح معها من النساء مثنى وثلاث ورباع ليكن عونًا له على أداء واجبه الرائع العظيم.
الثانية: وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى لأن زوجاتكم يأبين ذلك حرصًا على مصلحتهن الخاصة، فاتركوهن، وانكحوا ما طاب لكم غيرهن فإنه يحل لكم ذلك مثنى وثلاث ورباع:
فربما تشوق الإنسان ليقوم بواجبه تجاه اليتامى، فيبتلي بزوجةٍ تأمره بما يسوء، وتخوفه من عواقب الفقر، وتنهاه عن البر، فأمر الله بالإقساط مع اليتيم حتى ولو اقتضى الأمر أن يتزوج ثانية وثالثة ورابعة، فالمعنى هنا ينصب على ضرورة القيام بحق اليتيم وإزالة العوائق التي تمنع من إشاعة التعاون على البر والتقوى في الأرض، ولو كانت من أقرب الناس.
الثالثة: وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى لأن اليتامى لا يمكن صلاحهم إلا بالزواج من أمهاتهم الأرامل فانكحوا لأجل هذه المهمة الإنسانية من النساء مثنى وثلاث ورباع:
كم هو مدهش هذا البيان القرآني.. تصور كم في هذا الارتباط الشرطي الفريد من معانٍ في بث الحياة الإنسانية وتنظيمها الحقوقي.
وعند الدراسة التحليلية لمعنى القسط سوف تجد أنه هنا العدل في تقسيم الأنصبة الحيوية التي تتعلق باليتامى مالًا، ومعاملة، وسكنًا، وتعليمًا، وتأديبًا. (للمزيد طالع مفصل تفسير سورة النساء)
وإذا كان المعنى الأول مسؤولية توضع في ذمة الرجل يتحمل به أعباء رعاية الأيتام، فما المعنى الثاني؟
المعنى الثاني: يجب التعامل المقسط مع اليتيمات بحمايتهن من أن يستغل الوصي سلطته لإجبارهن على ما لا يردنه مثل إجبارهن على الزواج دون رضا أو إقساط، فإنه يمكن لمن يريد الزواج منهن أن يتزوج سواهن مثنى وثلاث ورباع، ويُبَصِّرُنا بذلك المعنى الثاني لقوله تعالى: تعالى {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ} [النساء:3].
والمعنى: وإن خفتم ألا تقسطوا في إنكاح اليتيمات منكم أو من غيركم فاتركوهن وانكحوا ما طاب لكم في حدود الأربع:
وتبين المعنى الثاني لهذه الآية أم المؤمنين عائشة، فسألها عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ عن هذه الآية فقَالَتْ: هِيَ اليَتِيمَةُ فِي حَجْرِ وَلِيِّهَا فَيَرْغَبُ فِي جَمَالِهَا وَمَالِهَا وَيُرِيدُ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا بِأَدْنَى مِنْ سُنَّةِ نِسَائِهَا، فَنُهُوا عَنْ نِكَاحِهِنَّ إِلاَّ أَنْ يُقْسِطُوا لَهُنَّ فِي إِكْمَالِ الصَّدَاقِ، وَأُمِرُوا بِنِكَاحِ مَنْ سِوَاهُنَّ مِنَ النِّسَاءِ. قَالَتْ عَائِشَةُ: ثُمَّ اسْتَفْتَى النَّاسُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وآله بَعْدُ فَأَنْزَلَ اللَّهُ عزَّ وجلَّ {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا} [النساء:3] قَالَتْ: فَبَيَّنَ اللَّهُ فِي هَذِهِ أَنَّ اليَتِيمَةَ إِذَا كَانَتْ ذَاتَ جَمَالٍ وَمَالٍ رَغِبُوا فِي نِكَاحِهَا وَلَمْ يُلْحِقُوهَا بِسُنَّتِهَا بِإِكْمَالِ الصَّدَاقِ، فَإِذَا كَانَتْ مَرْغُوبَةً عَنْهَا فِي قِلَّةِ المَالِ وَالجَمَالِ تَرَكُوهَا وَالتَمَسُوا غَيْرَهَا مِنَ النِّسَاءِ. قَالَ: فَكَمَا يَتْرُكُونَهَا حِينَ يَرْغَبُونَ عَنْهَا فَلَيْسَ لَهُمْ أَنْ يَنْكِحُوهَا إِذَا رَغِبُوا فِيهَا إِلاَّ أَنْ يُقْسِطُوا لَهَا الأَوْفَى مِنَ الصَّدَاقِ وَيُعْطُوهَا حَقَّهَا. البخاري.
فالمعنى: إن كنتم لن تقسطوا لليتيمة في زواجها والتعامل معها فلا تستغلوا ضعفها وتجبروها على الزواج منكم بل ابحثوا عن غيرها؛ إذ يجوز لكم أن تتزوجوا مثنى وثلاث ورباع.
وهذا المعنى ذكرناه لأن عالمة الدنيا أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها ذكرته، مع أن فيه تخصيصًا لمفهوم اليتامى، واقتران الشرط، ولعلك تشتاق بعد هذا البيان إلى المعنى الآتي، فما المعنى الثالث.
المعنى الثالث: يبصرنا بأنه يجب المحافظة على مال اليتيم، ولذا لا يجوز أن تجاوزوا الأربع في الزواج، وسبب المنع من الزيادة المحافظة على مال اليتيم، ولذا قرن التعدد بالإقساط في اليتيم.
فقد كان بعض أولياء اليتامى في قريش يتزوج العشر من النساء والأكثر والأقل، فإذا صار معدمًا، مال على مال يتيمه الذي في حجره، فأنفقه، أو تزوج به، فقيل لهم: إن أنتم خفتم على أموال أيتامكم أن تنفقوها فلا تعدلوا فيها، من أجل حاجتكم إليها لما يلزمكم من مُؤن نسائكم، فلا تجاوزوا فيما تنكحون من عدد النساء على أربعٍ، وإن خفتم أيضًا من الأربع أن لا تعدلوا في أموالهم، فاقتصروا على الواحدة، أو على ما ملكت أيمانكم، وهذا التفسير نقل عن ابن عباس رضي الله عنه وسعيد بن جبير.
وأما المعنى الرابع فستجده ينطق بحق الزواج للنساء ولو ضمن إطار التعدد لتنال البشرية حقها في الانتشار والاستقرار، وليتحقق للمرأة وجود الزوج الشريك صاحب المسؤولية الكاملة.
ويُبَصِّرُنا به هذا الاقتران العجيب بين الشرط وجزائه في قوله تعالى: {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ} [النساء:3] أي: إن تحرَّجتم في أن تأكلوا أموال اليتامى فأنتم ممدوحون على ذلك، فكذلك فتحرّجوا من الزّنا، وانكحوا النساء نكاحًا طيبًا مثنى وثلاث ورباع:
فذكر الله هذا الحق ضمن أوائل الحقوق النسوية لأهميته البالغة؛ لأن المرأة بعد أن تكبر لا تجد لها مكانًا لسكنها مثل بيت الزوجية، وترى أن الله ذكر هذا الحق في سورٍ متعددةٍ على هيئاتٍ مختلفة:
فمرة ذكره على سبيل الأمر الذي يتحمله المجتمع ويقوم عليه، وينشئ له الأجهزة الحكومية والمنظمات المدنية التي تقوم عليه، فقال تعالى: {وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} [النور: 32]
ومرة ذكره على سبيل الإنعام لأهميته لبقاء الحياة البشرية، فقال تعالى: {وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً} [النحل: 72]
ومرة ذكره على سبيل البيان بكونه من الآيات الإلهية العظيمة الدالة على وحدانيته سبحانه، فقال: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً} [الروم: 21]، فبماذا تميزت سورة النساء وهي تثبت هذا الحق للنساء؟
تميزت هذه السورة بهذه الصياغة المبهرة للآية، حيث يقول الله تعالى: {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ} [النساء:3].. إذن أثبتت السورة حق النساء في الزواج بهن ولو من خلال التعدد لمن التزم العدل مع الزوجات كما ذكرنا في التزامه العدل مع اليتامى، وتحقق لنا هذا المعنى من خلال الاقتران العجيب بين فعل الشرط وجواب الشرط؛ فأتى بفعل الشرط {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى} [النساء:3] ثم نقلنا مباشرة إلى جوابٍ لا تعلق له به بادئ الرأي فقال {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ} [النساء:3]، فاستشكل بعض الناس العلاقة بين الإقساط في اليتامى والتعدد، لكننا بينا أن هذه الصياغة المعجزة أظهرت لنا عددًا من المعاني الرائعة، والآن ينتظم لنا من هذا الاقتران معنى خامس يتعلق بحقوق النساء يبينه الإمام مجاهدٌ، فيقول: إن تحرَّجتم في ولاية اليتامى وأكل أموالهم إيمانًا وتصديقًا، فكذلك فتحرّجوا من الزّنى، وانكحوا النساء نكاحًا طيبًا مثنى وثلاث ورباع، ولا تجاوزوا ذلك ولا تجوروا معهن عند نكاحهن، كما لم تجوروا مع اليتامى في أموالهم، فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة أو ما ملكت أيمانكم»، وهذا التفسير نقل عن ابن عباس رضي الله عنه وسعيد بن جبير، فكأن مجاهدًا يرشدنا إلى أن الله قرن الشرط بالجزاء ليكون الشرط مدحًا لهم، ويكون جزاؤه محذوفًا، والتقدير: كما خفتم من الجور في مال اليتامى، فخافوا كذلك من أن تزنوا، أو أن تقع نساؤكم في الزنى، فأشيعوا الزواج لإحصانهن، ولو ضمن إطار التعدد في حدود مثنى وثلاث ورباع.
وذلك لأن الزنى كان فاشيًا في الأوساط العربية بغير الحرائر، أما الشريفات من الحرائر وبنات العرب فكن يستنكفن من الزنا، وكان العرب يأنفون من ذلك ولا يتصورون أن تزني الواحدة منهم، لكن رجالهم كانوا يتساهلون في الزنى بذوات الرايات اللواتي أقمن بيوت دعارة لهن، فالله سبحانه وتعالى بين لهم ولهن أنهم كما يخافون الظلم في أموال اليتامى، فكذلك ينبغي أن يخافوا من الزنى، وأن يخافوا على نسائهم أن يقع منهن ذلك، والحل أن يشيعوا التعدد في النكاح مثنى وثلاث ورباع على ألا يجاوزوا ذلك ويتحروا العدل.
إن أردت معرفة شيوع الزنا بين رجال الجاهلية فإن أم المؤمنين عَائِشَةَ زَوْجَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وآله وسلم فَصَّلت ذلك، فذكرت أَنَّ النِّكَاحَ فِي الجَاهِلِيَّةِ كَانَ عَلَى أَرْبَعَةِ أَنْحَاءٍ: فَنِكَاحٌ مِنْهَا نِكَاحُ النَّساء اليَوْمَ يَخْطُبُ الرَّجُلُ إِلَى الرَّجُلِ وَلِيَّتَهُ، أَوِ ابْنَتَهُ فَيُصْدِقُهَا ثمَّ يَنْكِحُهَا، وَنِكَاحٌ آخَرُ كَانَ الرَّجُلُ يَقُولُ لاِمْرَأَتِهِ إِذَا طَهُرَتْ مِنْ طَمْثِهَا: أَرْسِلِي إِلَى فُلاَنٍ فَاسْتَبْضِعِي مِنْهُ، وَيَعْتَزِلُهَا زَوْجُهَا، وَلاَ يَمَسُّهَا أَبَدًا حَتَّى يَتَبَيَّنَ حَمْلُهَا مِنْ ذَلِكَ الرَّجُلِ الَّذِي تَسْتَبْضِعُ مِنْهُ، فَإِذَا تَبَيَّنَ حَمْلُهَا أَصَابَهَا زَوْجُهَا إِذَا أَحَبَّ وَإِنَّمَا يَفْعَلُ ذَلِكَ رَغْبَةً فِي نَجَابَةِ الوَلَدِ، فَكَانَ هَذَا النِّكَاحُ نِكَاحَ الاِسْتِبْضَاعِ، وَنِكَاحٌ آخَرُ يَجْتَمِعُ الرَّهْطُ مَا دُونَ العَشَرَةِ، فَيَدْخُلُونَ عَلَى المَرْأَةِ كُلُّهُمْ يُصِيبُهَا، فَإِذَا حَمَلَتْ وَوَضَعَتْ وَمَرَّ عَلَيْهَا لَيَالِيَ بَعْدَ أَنْ تَضَعَ حَمْلَهَا أَرْسَلَتْ إِلَيْهِمْ، فَلَمْ يَسْتَطِعْ رَجُلٌ مِنْهُمْ أَنْ يَمْتَنِعَ حَتَّى يَجْتَمِعُوا عِنْدَهَا تَقُولُ لَهُمْ: قَدْ عَرَفْتُمُ الَّذِي كَانَ مِنْ أَمْرِكُمْ، وَقَدْ وَلَدْتُ، فَهُوَ ابْنُكَ يَا فُلاَنُ تُسَمِّي مَنْ أَحَبَّتْ بِاسْمِهِ، فَيَلْحَقُ بِهِ وَلَدُهَا لاَ يَسْتَطِيعُ أَنْ يَمْتَنِعَ بِهِ الرَّجُلُ، وَنِكَاحُ الرَّابِعِ: يَجْتَمِعُ النَّاسُ الكَثِيرُ فَيَدْخُلُونَ عَلَى المَرْأَةِ لاَ تَمْتَنِعُ مِمَّنْ جَاءَهَا، وَهُنَّ البَغَايَا كُنَّ يَنْصِبْنَ عَلَى أَبْوَابِهِنَّ رَايَاتٍ تَكُونُ عَلَمًا، فَمَنْ أَرَادَهُنَّ دَخَلَ عَلَيْهِنَّ، فَإِذَا حَمَلَتْ إِحْدَاهُنَّ وَوَضَعَتْ حَمْلَهَا جُمِعُوا لَهَا وَدَعَوْا لَهُمُ القَافَةَ، ثُمَّ أَلْحَقُوا وَلَدَهَا بِالَّذِي يَرَوْنَ فَالتَاطَ بِهِ، وَدُعِيَ ابْنَهُ لاَ يَمْتَنِعُ مِنْ ذَلِكَ، فَلَمَّا بُعِثَ مُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم بِالحَقِّ هَدَمَ نِكَاحَ الجَاهِلِيَّةِ كُلَّهُ إِلاَّ نِكَاحَ النَّاسِ اليَوْم. البخاري.
فالآية تدل دلالة عظيمة على حق المرأة في الزواج ولو ضمن إطار التعدد، وينبغي للمسلمين أن يسعوا في توفير الزواج للنساء كما يسعون في تزويج فتيانهم، والصحابة رضي الله عنهم خير مثال تطبيقي لذلك، فعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن عمر بن الخطاب حين تأيمت حفصة بنت عمر رضي الله عنهما من خنيس بن حذافة السهمي رضي الله عنه وكان من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قد شهد بدرًا توفي بالمدينة – قال عمر: فلقيت عثمان بن عفان رضي الله عنه فعرضت عليه حفصة، فقلت: إن شئت أنكحتك حفصة بنت عمر. قال: سأنظر في أمري، فلبث ليالي. فقال: قد بدا لي أن لا أتزوج يومي هذا. قال عمر: فلقيت أبا بكرٍ رضي الله عنه، فقلت: إن شئت أنكحتك حفصة بنت عمر. فصمت أبو بكرٍ، فلم يرجع إليَّ شيئًا، فكنت عليه أوجد مني على عثمان، فلبثت ليالي، ثم خطبها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأنكحتها إياه، فلقيني أبو بكر، فقال: لعلك وجدت عليَّ حين عرضت عليَّ حفصة فلم أرجع إليك؟ قلت: نعم. قال: فإنه لم يمنعني أن أرجع إليك فيما عرضت إلا أني قد علمت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد ذكرها، فلم أكن لأفشي سر رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولو تركها لقبلتها. البخاري.
والآن انظر إلى البيان القرآني في توضيح الأمر التشريعي في تعدد الزوجات لتسمع الله -جلَّ ثناؤه- يقول لك: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ} [النساء:3].. ألا تغريك الصياغة لتسأل: لماذا أتى بالعدد بهذه الهيئة {مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ}؟
إن معنى صيغة {مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ} اثنتين اثنتين، وثلاثًا ثلاثًا، وأربعًا أربعًا، وهذه الصيغة تحقق عدة أمور تشريعية تنظيمية في موضوع تعدد الزوجات:
الأمر الأول: الحث على التعدد باعتباره يقدم حلًّا لمشكلةٍ ما لليتامى من جهة، وللنساء من جهة ثانية، وللرجال من جهة ثالثة، وللإنسانية من جهة رابعة، وإذا كان الزواج ولو ضمن إطار التعدد يقدم حلًا لمشكلة ما فمن باب أولى الزواج مطلقًا، وهذه الصيغة تحل محل كلام كثير طويل، والتقدير: فانكحوا ما طاب لكم من النساء، إما مثنى، وإما ثلاث، وإما رباع إن أمنتم الجور من أنفسكم فيما يجب لهن عليكم.
الأمر الثاني: ليبين الله -تعالى ذكرُه- أن المراد التخيير بين هذه الأعداد حسب الحاجة والواقع، وليس المراد الجمع لأنه لو أراد الجمع لقال: تسع، فالواو هنا لا تعني لغة جواز الجمع بين أنواع العدد المذكور حتى لا يظن أحد أنه يجوز التزوج بتسع نساء أو ثمانية عشر، فهذا غلط فاحش لا يقوله من يعرف اللغة العربية؛ فإنك لو قلت: اقسم هذا المبلغ بين الناس درهمين درهمين، وثلاثًا ثلاثًا، وأربعًا أربعًا لا يعني أن تقسمه بينهم تسعة أو ثمانية عشر.
الأمر الثالث: لتفهمنا جواز التبديل ضمن العدد المحدد، فلو قال: فانكحوا ثنتين وثلاثًا وأربعًا لأفهم أنه لا يجوز التبديل بينهن في حال طلقت واحدة منهن أو ماتت.
الأمر الرابع: لتفهمنا تعميم التزويج للنساء، وعدم تركهن عوانس، وبذا يتم حل مشكلة العنوسة، فمعنى قوله {مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ} (النساء: 3) أي لتكن النساء بينكم في الزواج اثنتين اثنتين، أو ثلاثًا ثلاثًا، أو أربعًا أربعًا، وذلك لتستطيعوا القيام بحقوقهن ورعايتهن، فلو قال: ثنتين وثلاثًا وأربعًا لأفهم الاكتفاء بوجود ذلك لا باقتسام الزواج منهن، ومثاله لوْ قُلْتَ لِلْجَمْعِ: اقْتَسَمُوا المَالَ الكَثِيرَ دِرْهَمَيْنِ لَمْ يَصِحَّ الكَلَامُ، فَإِذَا قُلْتَ: دِرْهَمَيْنِ دِرْهَمَيْنِ، وثلاثة ثلاثة كَانَ المَعْنَى أَنَّ يتم تقسيم المال على الكل بأن يأخذ بعضهم: درهمين، وبعضهم ثلاثة حتى النفاد، وهذا أشار إليه عدد من المفسرين.
الأمر الخامس: لبيان اختلاف الرجال في قدرتهم المالية والجسدية، فبعضهم يمكنه نكاح اثنتين، وبعضهم يمكنه نكاح ثلاث، وبعضهم يمكنه نكاح أربع.
الأمر السادس: لتفهمنا جواز الإكمال حال النقص عن العدد المذكور، كأن يتزوج أحدهم اثنتين ثم طلقت إحداهما أو ماتت، يجوز أن يكمل ثانية وثالثة، فلو كان قال: (أو) فقد يفهم منه المنع.
وهكذا ظهر: لِمَ اختار الله العَطْف بِالوَاوِ دُونَ «أَوْ».
وهنا لا بد من أن تتذكر بأن هذا الحكم يجب أن يُؤخذ جميعًا أي التعدد والعدالة، فإن أخذت جزءًا من الحكم وهو التعدد وتركت العدالة شاع الفساد في الأرض، ومن الفساد التشكيك في حكم الله، والتمرد عليه وتشويهه.
كما تبصرنا الآية بحق المجتمع النسوي في نشر التعدد.
فهو شريعة السعادة الاجتماعية عندما يتم الالتزام فيه بالشرع، فينتشر التراحم والتكامل الاجتماعي، وتعدد الزوجات هو الحل الـمثالي الأول للواقع البشري الاجتماعي، ومعالجة الأنانية في النفوس البشرية، ويحقق حق النساء في إيجاد البديل عن العبث بالنساء ضمن تجارة البغاء والعلاقات المؤقتة.
فتعدد الزوجات هو الحل الـمثالي الأول للواقع البشري الاجتماعي ومعالجة المشاكل الأسرية، ومعالجة الأنانية في النفوس البشرية حال الانضباط بحدود الشرع، فلماذا يصر البعض على تدمير حقوق المرأة الواجبة على الرجل بمبدأ الخليلات (والجيرل فرند) الذي لا يعني إلا العبث بكرامة المرأة، وعدم تحمل مسؤولية الزواج، والقيام على الأسرة.
ونلحظ من الآية أن تعدد الزوجات جاء ليتلاءم مع الطبيعة البشرية {أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الملك: 14]، وليكون هذا التشريع تهذيبًا للشرائع السماوية السابقة لأنها كانت تبيح التعدد مطلقًا، وكذلك ضبطًا للأهواء البشرية القديمة التي كانت تبيح لنفسها التعدد مطلقًا؛ وكذلك منعًا للأهواء البشرية اللاحقة التي تبيح تعدد الخليلات مطلقًا، فالله سبحانه وتعالى أنعم على البشرية بهذا الإنعام العظيم، وللأسف فإن مصيبتنا في عدم معرفة بعض المسلمين والمسلمات لهذه الفوائد أكثر من مصيبتنا في جهل غيرنا بديننا، فبعض المسلمين لا يدركون سره ولا عظمته ولا يباهون به ولا يُعَلِّمون الحيارى بالمحاسن التشريعية المذهلة التي تكتنزها التوجيهات القرآنية، والشريعة الإسلامية، وحتى نتبين هذا الموضوع كما ينبغي يجب أن نقرر أن أنبياء الكتاب المقدس من أكثر الناس تعددًا إلى حدٍّ يصعب تصديقه، ففي كتاب الـملوك الأول عن سليمان عليه السلام:
11: 3: وكانت له سبع مائة من النساء السيدات وثلاث مائة من السراري.
ونحن لا نعلم مدى صحة هذه الرواية لكننا نعلم أن التعدد المنضبط بأربع يحصلن على حقوقهن خيرٌ للمجتمع من أن تلاقي المرأة في كل فترةٍ واحدًا يعبث بها ثم يرميها عندما يقضي غرضه منها، ثم لا تجد أحدًا بعد أن تتجاوز السن المرغوب فيها.
وقد ذكر النبي صلى الله عليه وسلم أيضًا كثرة زوجات سليمان عليه السلام ولكن ليس على وفق الوصف الذي جاء عند اليهود، فعن أبي هُرَيْرَةَ، رضي الله عنه عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «قَالَ سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُدَ لأَطُوفَنَّ اللَّيْلَةَ عَلَى مِئَةِ امْرَأَةٍ، أَوْ تِسْعٍ وَتِسْعِينَ – كُلُّهُنَّ يَأْتِي بِفَارِسٍ يُجَاهِدُ فِي سَبِيلِ اللهِ، فَقَالَ لَهُ صَاحِبُهُ: إِنْ شَاءَ اللَّهُ، فَلَمْ يَقُلْ: إِنْ شَاءَ اللَّهُ. فَلَمْ يَحْمِلْ مِنْهُنَّ إِلاَّ امْرَأَةٌ وَاحِدَةٌ جَاءَتْ بِشِقِّ رَجُلٍ. وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَوْ قَالَ: إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللهِ فُرْسَانًا أَجْمَعُونَ». البخاري.
وتجد أن يعقوب عليه السلام ذُكِرَ له في الكتاب المقدس أربع زوجات، وذكر لإبراهيم عليه السلام ثلاث زوجات، وأما داود عليه السلام فمائة زوجة، وفي سفر التثنية 21: 15 «إذا كان لرجل امرأتان إحداهما محبوبة والأخرى مكروهة..» فذكر أحكامًا تتعلق بالتعدد.
حتى في العهد الجديد الذي هو الإنجيل لا يوجد ما يدل على الاكتفاء بزوجة واحدة، بل جاء في إنجيل متى 5:
17 لاَ تَظُنُّوا أَنِّي جِئْتُ لأَنْقُضَ النَّامُوسَ أَوِ الأَنْبِيَاءَ. مَا جِئْتُ لأَنْقُضَ بَلْ لِأُكَمِّلَ. 18 فَإِنِّي الحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِلَى أَنْ تَزُولَ السَّمَاءُ وَالأَرْضُ لاَ يَزُولُ حَرْفٌ وَاحِدٌ أَوْ نُقْطَةٌ وَاحِدَةٌ مِنَ النَّامُوسِ حَتَّى يَكُونَ الكُلُّ. 19 فَمَنْ نَقَضَ إِحْدَى هَذِهِ الوَصَايَا الصُّغْرَى وَعَلَّمَ النَّاسَ هَكَذَا يُدْعَى أَصْغَرَ فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ. وَأَمَّا مَنْ عَمِلَ وَعَلَّمَ فَهَذَا يُدْعَى عَظِيمًا فِي مَلَكُوتِ السماوات.
بل إنك تجد ظاهر عبارة عيسى عليه السلام في الإنجيل تدل على جواز التعدد المطلق، ففي إنجيل متى25:
1 حينئذ يشبه ملكوت السماوات عشر عذارى، أخذن مصابيحهن، وخرجن للقاء العريس2 وكان خمس منهن حكيمات، وخمس جاهلات 3 أما الجاهلات: فأخذن مصابيحهن، ولم يأخذن معهن زيتا 4 وأما الحكيمات: فأخذن زيتا في آنيتهن مع مصابيحهن. 5 وفيما أبطأ العريس، نعسن جميعهن، ونمن. 6 ففي نصف الليل صار صراخ: هو ذا العريس مقبل، فاخرجن للقائه. 7 فقامت جميع أولئك العذارى، وأصلحن مصابيحهن 8 فقالت الجاهلات للحكيمات: أعطيننا من زيتكن، فإن مصابيحنا تنطفئ. 9 فأجابت الحكيمات قائلات: لعله لا يكفي لنا، ولكن بل اذهبن إلى الباعة، وابتعن لكن. 10 وفيما هن ذاهبات ليبتعن، جاء العريس، والـمستعدات دخلن معه إلى العرس، وأغلق الباب 11 أخيرًا جاءت بقية العذارى أيضًا قائلات: يا سيد، يا سيد، افتح لنا. 12 فأجاب وقال: الحق أقول لكن: إني ما أعرفكن.
وكذلك فعل البشر في تشريعاتهم لأنفسهم في الحضارات القديمة العربية والفارسية والرومية والشرقية، فالتعدد أمر معتاد في الحضارات البشرية، فجاءت الشريعة الخاتمة لمداواة جراحاتها وانتكاساتها وكآباتها تميزت بأنها شرعت التعدد وقيدت التعدد بأربع فقط وبينت شروطه، وحفته بعدد من الضوابط التي تجعله من أعظم النعم لو سلم النساء وسلم الرجال، لو تخلى النساء عن أنانيتهن وأن تبلغ الغيرة حدًّا لا يرضي الله ورسوله صلى الله عليه وسلم ، ولو قام الرجال بما ينبغي لهن، عند ذلك سيكون التعدد من أعظم النعم على البشرية، ولذلك روى ابن عمر رضي الله عنه: أن غيلان بن سلمة الثقفي أسلم وله عشر نسوة في الجاهلية، فأسلمن معه فأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يتخير أربعًا منهن، (سنن الترمذي)، وقال وهب الأسدي: (أسلمت وعندي ثمان نسوة فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم): «اختر منهن أربعًا» سنن أبي داوود.
ومعلوم أن الكنيسة لم تمنع الزواج على قِسِّسيها إلا في وقتٍ متأخرٍ عن بعثة المسيح عليه السلام، وهي بدعةٌ غليظة مدمرة للحياة البشرية ابتدعوها مع أنها تنافي الفطرة البشرية، وتورث الفضائح التي لا تنتهي في الوسائل الإعلامية على أعلى مستويات الرتب الكنسية. أفما آن للكنيسة أن تراجع نفسها في هذه البدعة الغريبة التي أحدثتها، وسبب لها أكبر الفضائح الجنسية في العالم؟
ولمن يسأل عن حكمة تعدد الزوجات، نقول له: يكفي أن تعلم أن تعدد الزوجات هو الحل المثالي الأول للواقع البشري الأسري، كما أنه يمثل الحل المثالي للمشاكل الاجتماعية حال الانضباط بحدود الشرع:
فأما أولًا: فهو حلٌّ لإيجاد السكينة الحقيقية بين الرجال والنساء، فإن الرجل لا يسكن إلا بجوار امرأة، ويجب عليه أن يقوم بمسؤوليتها لا بالتمتع بها، والعبث بشبابها.
وأما ثانيًا: فهو الحل المثالي للإشراف على اليتامى ضمن جو أسري، فقد تكون أم اليتامى هي الزوجة الأخرى، وقد تكون إحدى الزوجات أشد الناس عونًا على تمكين الجو العائلي في حياة اليتيم.
وأما ثالثًا: فلحل مشكلة الكثرة النسائية أمام الرجال لا من الناحية العددية كما في غالب المجتمعات إما لطبيعة التناسل، وإما للحروب التي تعصف بالأرض، بل لوجود المطلقات والأرامل، ووجود هؤلاء النساء خارج إطار الزواج يعني أحد أمور أربعة:
۞ تعريض بقية النساء للضياع.
۞ أو إشاعة الخداع بالسفاح والزنا بجلب الخليل والخليلة في الحرام والظلام، ووفق قوانين الجاهلية المعاصرة المسماة بالأعراف الدولية في الشوارع والدروب والآكام، وعدم الالتزام بمسؤولية الزواج.
۞ أو إشاعة الطلاق بغير مبرر ليطلق المرء الأولى فيتزوج الثانية.
۞ أو إشاعة الجريمة والإفساد في الأرض؛ فإنك تسمع عن جرائم تخلص الأزواج من زوجاتهم أو خيانتهم لهن.
وأمام ذلك يأتي الحل الآمن وهو التعدد الذي يعني الالتزام بالتبعات الأسرية.
وأما رابعًا: فلأن التعدد وسيلةٌ لبث الحياة الإنسانية، وهو مقصدٌ تسعى إليه معظم المجتمعات إلا في بعض البلدان المسلمة التي اختُـرِعَ لها أو اخترعت شيئًا سمته: القنبلة السكانية أو الانفجار السكاني.. ألا ترى أن دول العالم الأول تقدم إعانات بحسب عدد الأولاد وتشجع على ذلك، وإسرائيل تشجع على ذلك على سبيل المثال. وهل التكاثر السكاني إلا نعمة عظيمة لو وجد من يدير الوجود البشري إدارة حقيقية؛ إذ يحتوي على أثمن الطاقات وأعظم الثروات؟ وهذا المقصد أحد المقاصد الإسلامية الأصيلة في المجال الاجتماعي تكثيرًا للثروة البشرية، فعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: كان رسول الله o يأمر بالباءة وينهى عن التبتل نهيًا شديدًا، ويقول: «تزوجوا الودود الولود؛ إني مكاثرٌ الأنبياء يوم القيامة» مسند أحمد.
وأما خامسًا: فلأنه الإجابة الفطرية للطبيعة البشرية، فقد خلق الله b الرجل لتمتد فترة خصوبته إلى ما بعد السبعين، والمرأة لا تكاد تجاوز الخمسين، والتعدد لا يختلف فيه بنو الإنسان مهما كان مالهم أو موقعهم.. ألا يكفي أيضًا أن يشكل حماية ضخمة من التحرش بالأطفال والنساء في كثيرٍ من الأماكن.. أما يسمع الذين يضعون العقبات أمام الزواج عن الكم الهائل من الفضائح التي تعترف فيها الكنائس الكاثوليكية في العالم مما يتعلق بالتحرش بالأطفال، وآخر ذلك الخبر الذي نشرته الأسقفية الكاثوليكية لمنطقة بروكلين في مدينة نيويورك حيث نشرت لائحة لأسماء أكثر من 100راهب تحرشوا بالأطفال جنسيًا في كنائس المدينة، وفي آب2018م كشف تقرير تعرض أكثر من ألف طفل في كنائس البلاد للتحرش من قبل رهبان تم التستر على جرائمهم، بل أعلن البابا فرانسيس تجريد أرفع مسؤول بالفاتيكان كبير أساقفة واشنطن السابق (ثيودور ماريك) من صفته الكنسية بعد إدانته بارتكاب اعتداءات جنسية.
وأما سادسًا: فالتعدد هو الحل أمام المشاكل الاجتماعية والصحية التي تجتاح العالم، فقد قُدِّرَ عَدَدُ المعددين من الأمريكيين إلى قبل عام2000م بنحو خمسين ألفًا، والفساد والانحلال الأخلاقي الذي نشأ من كثرة الزنا يعني ضرورة التعدد، وفي مجلة التايم البريطانية عدد ديسمبر 1998م، ذكر أن هناك «12» مليون طفل غير شرعي، و«17» مليون شاذ جنسيا في أمريكا، وكل أسرة من 10 أسر أمريكية تمارس زنا المحارم، وازداد الأمر حتى أصبح أسرة من كل 5 أسر، ويوجد 15 مليون شخص مصاب بالأمراض التناسلية في أمريكا، ومن الأسباب الرئيسية لانتشار هذه الأمراض الاتصال الجنسي خارج نطاق العلاقة الزوجية، علمًا بأن من يصاب بالإيدز وحده يوميًّا -حسب تقرير منظمة الصحة العالمية- نحو 700 شخصًا.
وذكر محمد رشيد رضا أن إِحْدَاهُنَّ كتبت فِي جَرِيدَةِ (لندن ثروت) مُسْتَحْسِنَةً رَأْيَ العَالِمِ (تومس) فِي أَنَّهُ لَا عِلَاجَ لِتَقْلِيلِ البَنَاتِ الشَّارِدَاتِ إِلَّا تَعَدُّدُ الزَّوْجَاتِ، فَلَوْ كَانَ تَعَدُّدُ الزَّوْجَاتِ مُبَاحًا لَمَا حَاقَ بِأُولَئِكَ الأَوْلَادِ وَبِأُمَّهَاتِهِمْ مَا هُمْ فِيهِ مِنَ العَذَابِ الهُونِ، وَلَسَلِمَ عِرْضُهُنَّ، وَعِرْضُ أَوْلَادِهِنَّ، فَإِنَّ مُزَاحَمَةَ المَرْأَةِ لِلرَّجُلِ سَتُحِلُّ بِنَا الدَّمَارَ، أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ حَالَ خِلْقَتِهَا تُنَادِي بِأَنَّ عَلَيْهَا مَا لَيْسَ عَلَى الرَّجُلِ، وَعَلَيْهِ مَا لَيْسَ عَلَيْهَا، وَبِإِبَاحَةِ تَعَدُّدِ الزَّوْجَاتِ تُصْبِحُ كُلُّ امْرَأَةٍ رَبَّةَ بَيْتٍ، وَأُمَّ أَوْلَادٍ شَرْعِيِّينَ»، وَنَشَرَتِ الكَاتِبَةُ الشَّهِيرَةُ (مِسْ أَنِي رُودْ) مَقَالَةً مُفِيدَةً فِي جَرِيدَةِ (الاسترن ميل) فِي العَدَدِ الصَّادِرِ مِنْهَا فِي 10 مِنْ مَايُو (أَيَارَ) سَنَةَ 1901م نَقْتَطِفُ مِنْهَا مَا يَأْتِي لِتَأْيِيدِ مَا تَقَدَّمَ: ” أَلَا لَيْتَ بِلَادَنَا كَبِلَادِ المُسْلِمِينَ فِيهَا الحِشْمَةُ، وَالعَفَافُ، وَالطَّهَارَةُ رِدْءٌ، الخَادِمَةُ وَالرَّقِيقُ يَتَنَعَّمَانِ بِأَرْغَدِ عَيْشٍ، وَيُعَامَلَانِ كَمَا يُعَامَلُ أَوْلَادُ البَيْتِ، وَلَا تُمَسُّ الأَعْرَاضُ بِسُوءٍ. نَعَمْ إِنَّهُ لَعَارٌ عَلَى بِلَادِ الإِنْكِلِيزِ أَنْ تَجْعَلَ بَنَاتِهَا مَثَلًا لِلرَّذَائِلِ بِكَثْرَةِ مُخَالَطَةِ الرِّجَالِ، فَمَا بَالُنَا لَا نَسْعَى وَرَاءَ مَا يَجْعَلُ البِنْتَ تَعْمَلُ بِمَا يُوَافِقُ فِطْرَتَهَا الطَّبِيعِيَّةَ مِنَ القِيَامِ فِي البَيْتِ، وَتَرْكِ أَعْمَالِ الرِّجَالِ لِلرِّجَالِ سَلَامَةً لِشَرَفِهَا ” تفسير المنار.
وفي الوقت الحاضر ترى التشريع الشيطاني لا يعاقب على اتخاذ الخليلات في كثيرٍ من دول العالم إلا أنه يعاقب على تعدد الزوجات، فهل يوجد ظلم وإجرام وتلاعب بالمرأة أشد من ذلك؟ ما معنى أن تكون خليلة له يستمتع بها ما شاء حتى إذا كبر سنها ورق عظمها وذهبت قوتها ونضارتها يرميها ولا تجد من يسأل عنها؟
وقد نجحت طائفة المورمون الأميركية في الحصول على إذنٍ قضائي فيدرالي بالعيش المشترك لأكثر من زوجة في عام2013م، وتم إنشاء منظمات لتعدد الزوجات في الولايات المتحدة منها منظمة تعدد الزوجات الإنجيلية المسيحية ولها موقعها على الإنترنت، فهي إحدى الجمعيات النشطة التي استطاعت أن تفرض وجودها داخل المحاكم، وفي الإعلام الأمريكي، ويقول مارك هينكل، مؤسس المنظمة: «إن الحق بتعدد الزوجات هو المعركة التالية للحقوق المدنية داخل المجتمع الأمريكي».
وهنا يأتي سؤال مهم لماذا جاءت آية التعدد في أول السورة؟ إنه لفت نظر لحق المجتمع في إشاعة هذا التكامل الاجتماعي في أوساط الناس قبل أن يكون حلًا للإشباع الجسدي.. وكانت ثقافة التعدد شائعة بين المسلمين قبل أن تأتي التأثيرات الرديئة التي صحبت ما يسمى زورًا عصر النهضة، ولم تقابل ثقافة التعدد إلا بنوع من الغيرة المحمودة المنضبطة، وإذا كان الرجال يظهر اختبارهم في التسليم لحكم الله تعالى بالصدقة في المال أو بذل الجهد في القربات مثل الإيثار ونحوه فإن النساء يُختبرن في التسليم لحكم الله تعالى بقبول هذا الحكم الشرعي الواضح، وهنا تعلم سرًا من أسرار اجتماع آية التعدد في أول هذه السورة مع قوله تعالى في وسطها: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا } [النساء: 65]، وأصبح تناول هذا الموضوع في بعض الأوساط الاجتماعية مثيرًا للمشاكل بدلًا من أن يكون هو حلًا لها، والغيرة مطلوبة وبها تكون الأنثى أنثى، ولكن الغيرة التي تؤدي إلى الاعتراض على حكم الله b، والأنانية المفرطة في حق بقية النساء أمرٌ له حسابه وعواقبه، والله b يقول مقابل الثقافة الوافدة التلفزيونية في ختام هذه السورة {يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ ٌ} [النساء: 176]
وتبصرنا الآية بحق المرأة في أن تطيب نفس الرجل بها وتطيب نفسها به، ويُبَصِّرُنا بذلك قوله تعالى: {مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} [النساء: 3] ؛ إذ تدل على ضرورة البحث عما طاب من النساء ليتم تأسيس الحياة الزوجية الـمستقرة، ولا تطيب الـمرأة للرجل إلا أن تكون راغبة فيه، لا مكرهة عليه، فكما تدل الآية على بحث الرجل عن الطيب من النساء كذلك تدل على حق المرأة في الطيب من الرجال:
فالأمر بنكاح ما طاب من النساء للمشروعية العامة ابتداء ثم يأخذ الأحكام الخمسة حسب الزمان والمكان والحال، فهذا حق مزدوج للاثنين يراد به تحقيق سعادتهما معًا، والأمر هنا بمعنى النهي الحاصر، أي: فلا تنكحوا إلا ما طاب لكم من النساء، وكلمة طاب [1] تعني لذَّ وزَكَا وترتب عليه ما يُرغب من خلاله به كما يقال: طَابَتِ (الأَرْضُ) طِيبًا: أَخْصَبَت وأَكْلَأَت، فالطيب ما تستلذه الحواس وتشتهيه النفوس، فهو المستلذ الزكي الشهي ظاهرًا وباطنًا، نفسًا وجسدًا، الصافي من خبث التحريم الشرعي، النقي من دنس النجاسة الحسية، الذكي في رائحته، المستملح في معايشته الذي يترتب عليه الرغبة به، فصارت الطيبة من النساء ما اجتمع فيها معنيان نصوغهما للرجل، وهما مطلوبان كذلك للمرأة حسب المناسب لها:
الأول: الطيب الشرعي، فالحلال منهن ضد الخبيث، فهذا الطيب الشرعي، واللواتي يحل الزواج منهن هن غير المذكورات في الآية 22 وما بعدها في هذه السورة.
والثاني: الطيب الطبعي، أي اللواتي تستطيب أي تستلذ النفوس الاقتران بهن لخَلْقهن، ولخُلُقهن، حيث تطيب الحياة معهن وبهن ضمن ما أباحه الشارع ممن ذكر الله تعالى صفاتهن في قوله تعالى: {فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ} [النساء: 34]، وبين النبي صلى الله عليه وسلم خصالهن في قوله: «وَنِسَاؤُكُمْ مِنْ أَهْلِ الجَنَّةِ: الوَدُودُ الولود العَؤُودُ عَلَى زَوْجِهَا، الَّتِي إِذَا غَضِبَ جَاءَتْ حَتَّى تَضَعَ يَدَهَا فِي يَدِهِ، ثُمَّ تَقُولُ: لَا أَذُوقُ غَمْضًا حَتَّى تَرْضَى»، شعب الإيمان (11/171) برقم(8358)، وصححه بشواهده الألباني.
وكذلك الأمر بالنسبة للمرأة، فإنها ينبغي أن تبحث عمن تطيب نفسها به، وأول صفات من تطيب نفسها به أن تكون راضية به غير مكرهة عليه، وتأتي السنة النبوية لتثبت هذا الحق، فعن بُرَيْدَةَ بن الحصيب رضي الله عنه قال: جَاءَتْ فَتَاةٌ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ، فَقَالَتْ: إِنَّ أَبِي زَوَّجَنِي ابْنَ أَخِيهِ لِيَرْفَعَ بِي خَسِيسَتَهُ. فَجَعَلَ النبي صلى الله عليه وسلم الأَمْرَ إِلَيْهَا، فَقَالَتْ: قَدْ أَجَزْتُ مَا صَنَعَ أَبِي، وَلَكِنْ أَرَدْتُ أَنْ تَعْلَمَ النِّسَاءُ أَنْ لَيْسَ إِلَى الآبَاءِ مِنْ الأَمْرِ شَيْءٌ.
فانظر كيف بلغت حرية المرأة حدًا تقاضي فيه أباها غير هيابة من عادات المجتمع، ولا من سطوة الرجال.. ثم يدخل فيما تطيب نفسها به غير ذلك من الصفات التي تبحث عنها المرأة في الرجل.
وهنا تتساءل: لماذا تزينت العبارة القرآنية في قوله تعالى: {مَا طَابَ لَكُمْ} [النساء: 3] بكلمة (ما) ولم يأت محلها كلمة (من)؟
لأن الكلام عن الصفات وليس عن الأشخاص، وهنا تثبت قضية الحقوق المجتمعية، والجمع بين مطلوب الرجل، وترقية الأنثى لتكون أهلًا للبناء الأسري، وتكميل الرجل، وإعانته على الخير، ومنعه من السوء، ليكون أهلًا لتطيب نفس الأنثى به، ولتوفير المعاني وتكثيرها، فكلمة «مَا» تَغْلِبُ فِي غَيْرِ العُقَلَاءِ إِذَا أُرِيدَ بِهَا الذَّاتُ لَا الوَصْفُ. فَيَقُولُ: مَنْ هَذَا الرَّجُلُ؟ فِي السُّؤَالِ عَنْ ذَاتِهِ، وَشَخْصِهِ وَتَقُولُ: مَا هَذَا الرَّجُلُ؟ فِي السُّؤَالِ عَنْ صِفَتِهِ وَنَعْتِهِ، فجاءت (ما) لتبين أن من الطيب الموافقة والتآلف بين الجهتين؛ أي: فانكحوا النساء نكاحًا طيبًا بأن تنكحوا ما طاب لكم شرعًا فهذا الحلال، وانكحوا ما طاب لكم طبعًا، أي: في الهيئة والخَلق والتعليم أو حسب ما ترونه أنسب لكم، وكذلك ينبغي ألا تنكحوا إلا الطيب في الخُلُق لا الخبيث.
وتبصرنا الآية بحق المرأة في الاستمتاع الجسدي والنفسي العادل، ويُبَصِّرُنا بذلك قوله {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً} [النساء: 3]:
أي فإن خفتم أن يسبب التعدد ظلمًا مع النساء أو مع اليتامى فاكتفوا بواحدة.
هنا يبني الله جل ذكره الرقابة الذاتية، فإن أردت أن تفعل فعلًا ينبغي أن تتنبه لهذا الفعل، وتحسب كيف ستحاسب عليه فيما بعد، والحق الذي تبصرنا به هذه الجملة المباركة أنه لا بد من العدل سواء كان الإنسان مُوَحِّدًا أو مُعَدِّدًا، فربما كانت الواحدة مظنة للجور، فالحل التعدد، وإن كان التعدد مظنة للجور فالحل أن يوحدوا وهكذا، فالمقصود هو وجود العدل حيثما كان، وهذا من أسرار ذكر العدل والقسط في أول الآية في الأمر بالتعدد، وفي آخر الآية في الأمر بالتوحيد {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا} [النساء: 3]، وهذه مادةٌ تشريعية تتعلق بأهمية العدل بين النساء، وتبين أن إباحة الزواج من أكثر من امرأة إلى أربع لا يعني أن يهرب الإنسان من الخوف من جورٍ مستقبليٍ مع اليتامى، أو يهرب من ضعفٍ في إقامة حقوقه بزوجة واحدة إلى جور مستقبلي مع أكثر من زوجة، بل العدل مطلوب مع الزوجات، فلو خيف من عدم توفره فيجب الاكتفاء بواحدة، وذكر هذه المادة القانونية لضبط مسألة التعدد حتى لا يصبح التعدد دمارًا للإقساط بدلًا من أن يكون أداة له.
والمقصود بالعدل العدل في الأمور الظاهرة لا في الأمور القلبية لما جاء عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقسم فيعدل ويقول: «اللهم هذا قسمي فيما أملك فلا تلمني فيما تملك ولا أملك». قال أبو داود: يعني القلب. سنن أبي داوود.
وتبصرنا لآية بحق المرأة والأسرة في الحرص على وجود الاستقرار المعيشي، ويُبَصِّرُنا بهذا الحق هذه المادة المقاصدية الحاكمة المُعَظِّمة التي يقول الله تعالى فيها: {أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا} [النساء: 3]، أي: أقرب ألا تعولوا، ولها معنيان:
الـمعنى الأول: العول هو الـميل إلى الظلم زيادة أو نقصانًا، أي: ذلك أقرب أن لا تجوروا، فلا تميلوا للتعدد أو التوحيد، بل لما يحقق مقاصد الحياة الزوجية والإنسانية من الاستقرار والاستمتاع والعدل والنمو الإنساني والحرص على الأطفال واليتامى خاصة، والإشارة في كلمة {ذَلِكَ} تعود على مجمل الأحكام في الآية، وليس على آخر مذكورٍ فيها، وكأنه يقول: فالتزامكم بالأحكام السابقة يؤدي إلى عدم الجور والظلم، فكلمة عال الرجل فهو يعول عَوْلا وعيالة، إذا مال وجار. ومنه: «عَوْل الفرائض»؛ لأن سهامها إذا زادت دخلها النقص، عن عكرمة في هذه الآية: {أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا}، قال: أن لا تميلوا، قال: وأنشد بيتًا من شعر زعم أن أبا طالب قاله:
بِميزَانِ قِسْطٍ لا يُخِسُّ شَعِيرَةً * * وَوَازِنِ صِدْقٍ وَزْنُهُ غَيْرُ عَائِلِ
الـمعنى الثاني: يعول أي: يفتقر، يُقَالُ: رَجُلٌ عَائِلٌ، أَيْ: فَقِيرٌ، ومنه قوله تعالى: {ووجدك عائلا فأغنى} (الضحى:8)؛ وهذا المعنى هو المنقول عن الشافعي والكسائي ومن قبلهما زيد بن أسلم، ومنه يقال: عَالَتِ المَسْأَلَةُ إِذَا زَادَتْ سِهَامُهَا وكثرت، كما قال الشاعر:
وَمَا يَدْرِي الفَقِيرُ مَتَى غِنَاهُ * * وَمَا يَدْرِي الغَنُّي مَتَى يَعِيل
بمعنى: يفتقر، ومن هذا المعنى يمكنك أن تقول: تعولوا: تقوموا بنفقة العيال، وهذا يوافق حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أفضل الصدقة ما كان عن ظهر غنى، واليد العليا خير من اليد السفلى، وابدأ بمن تعول» البخاري ، «أي بمن يجب عليك نفقته» يقال (عال) الرجل أهله: إذا (مانَهُم) أي قام بما يحتاجون إليه من قوت وكسوة وهو أمر بتقديم ما يجب على ما لا يجب» فتح الباري
وعندي لها تأويلٌ حسنٌ بناء على هذا المعنى؛ إذ يكون اسم الإشارة عائدًا على الأمرين معًا: فالاكتفاء بواحدةٍ عند الخوف من عدم العدل أدنى ألا تفتقروا، وكذلك فالتعدد أعون لكم على عدم الافتقار لمساعدة نسائكم لكم في أعباء الحياة المادية والمعنوية، فالزواج في ظل التعدد أو في ظل التوحيد أدنى ألا تحتاجوا للقيام بنفقة العيال لأن تعدد النساء سيساعدكم على هذه النفقات أو التربية، أو ذلك الاكتفاء بواحدة سيساعد على ذلك، فاسم الإشارة صالح لأن يعود للاثنتين حسب كل إنسان.
فالتعدد المحقق لمقاصد الزوجية يعين على تجاوز الفقر كما هو معلومٌ إن توفر فيه التعاون والتكامل الذي يبديه أعضاء الأسرة، فقد يرزق الله تعالى الحياة الزوجية بكثرة أفرادها نعمًا في التكامل لا توجد في حال الانفراد بزوجةٍ أو قلة أولاد، وذلك يختلف حسب الناس.
وكذلك فإن التوحيد حال الخوف من عدم تحقيق مقاصد الزوجية يعين على ألا تفتقروا؛ لأن التعدد يصبح مدعاة للتنازع وضنك الحياة، ومن إعجاز القرآن الإيجاز مع كمال البلاغة والبيان وتوفير المعاني، ولذا صح رجوع اسم الإشارة إلى الأمرين هاهنا.
وبهذا نعلم أن هذه الآية إعجاز قرآني فكري ولفظي ينير الفكر الإنساني وينقذ الحضارة من موارد الضياع الشيطاني.
[1] مقاييس اللغة (3/ 435)، المفردات في غريب القرآن ت كيلاني (ص: 308)، تاج العروس (3/ 281).