المقالات

الإسلامُ دينُ الحضارةِ والعدلِ: مبدأُ السّلامِ واستراتيجيةُ أخذ الحذرِ في التكوينِ الإسلاميّ

كيف يتجلى علم الاجتماع القرآني في قوله تعالى (حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَنْ يُقَاتِلُوكُمْ أَوْ يُقَاتِلُوا قَوْمَهُمْ)؟

في ظل الحرب القائمة ينصف القرآن بعض الفئات فيبين حالهم الذي يتميزون به ثم يبني عليه حق مراعاتهم.

تتناول الآية الكريمة من سورة النساء (الآية 90) فئات من الكفار منهم قومٌ من الكفار ينتمون إلى الـمحاربين نوع انتماء، لكنهم يكفون أيديهم عنكم.

ويُبَصِّرُنا بهم قوله تعالى ذكره: {أَوْ جَاءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَنْ يُقَاتِلُوكُمْ أَوْ يُقَاتِلُوا قَوْمَهُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقَاتَلُوكُمْ} ﴿ َوْ﴾ للدلالة على صنفٍ آخر أي: أو الذين، أسقط كلمة «الذين» لوضوحها في الكلام ﴿جَاءُوكُمْ﴾ ليعلنوا لكم أنهم يريدون السلام فقد حصرت أي: ضاقت صدورهم أن يقاتلوكم، أو يقاتلوا قومهم، فيجب كف اليد عنهم، ومسالمتهم.

فهم قومٌ من الكفار ينتمون إلى المحاربين لكنهم يكفون أيديهم عنا.. وقرأ يعقوب: ﴿أَوْ جَاءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ﴾ (النساء: 90) نصبًا، أي: حال كونهم ضيقة صدورهم.. ضاقت صدروهم أن يقاتلونا، فهم يشعرون بطريقةٍ أو بأخرى أن عندنا حقًّا، أو هم لا يحبون القتال بل يحبون السلم، وأيضًا لا يريدون أن يتصلوا بنا ويكونوا معنا ويهاجروا إلينا، ويظهروا إسلامهم معنا فيقاتلوا قومهم، فهذا كافر وهو مع الكفار المحاربين لكنه يحب السلام، من هنا هذه الآية تعطينا أبعادًا رائعة وعظيمة جدًا في كيفية التعامل مع الجماعات التي ترفع راية السلام من غير المسلمين، فينبغي أن ننظر في التعامل الإيجابي معهم بما يؤدي إلى صالح الأمة وصالح السلام العالمي، وينص الرازي عليهم فيقول: «وهؤلاء المذكورون عند الجُمْهُورُ هم مِنَ الكُفَّارِ -إلى قوله- أَوْ تَارِكًا لِلْقِتَالِ فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ قَتْلُهُمْ» [1]»، فأَوْجَبَ الله قَتال الكَافِرِ المحارب المعتدي إِلَّا إِذَا كان رافعًا راية السلم، أي: كَانَ مُعَاهِدًا أي معاهدة دولية، أو معاهدة فردية وهذه فرصة عظيمة جدًا تفتح آفاقًا عالية في كيفية عدم التعامل مع جميع الأصناف المختلفة، ولو كانوا ينتمون إلى مكان واحد.

ويبين هذا التشريع العام الواقع التاريخي الذي نزلت الآية لتعالجه، يحدثنا عنه سراقة بن مالك المدلجي، فيقول: فَلَمَّا قَدِمَ -يعني النبي صلى الله عليه وسلم- المَدِينَةَ، وَظَهَرَ عَلَى أَهْلِ بَدْرٍ وَأُحُدٍ، وَأَسْلَمَ النَّاسُ وَمَنْ حَوْلَهُمْ، قَالَ سُرَاقَةُ: بَلَغَنِي أَنَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَبْعَثَ خَالِدَ بْنَ الوَلِيدِ إِلَى بَنِي مُدْلِجٍ، قَالَ: فَأَتَيْتُهُ، فَقُلْتُ لَهُ: أَنْشُدُكَ النِّعْمَةَ، فَقَالَ القَوْمُ: مَهْ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: دَعُوهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: مَا تُرِيدُ؟ فَقُلْتُ: بَلَغَنِي أَنَّكَ تُرِيدُ أَنْ تَبْعَثَ خَالِدَ بْنَ الوَلِيدِ إِلَى قَوْمِي, فَأَنَا أُحِبُّ أَنْ تُوَادِعَهُمْ , فَإِنْ أَسْلَمَ قَوْمُهُمْ أَسْلَمُوا مَعَهُمْ، وَإِنْ لَمْ يُسْلِمُوا لَمْ تَخْشُنْ صُدُورُ قَوْمِهِمْ عَلَيْهِمْ، فَأَخَذَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِيَدِ خَالِدِ بْنِ الوَلِيدِ، فَقَالَ لَهُ: اذْهَبْ مَعَهُ، فَاصْنَعْ مَا أَرَادَ.

فَذَهَبَ إِلَى بَنِي مُدْلِجٍ , فَأَخَذُوا عَلَيْهِمْ أَنْ لاَ يُعِينُوا عَلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَإِنْ أَسْلَمَتْ قُرَيْشٌ أَسْلَمُوا مَعَهُمْ, فَأَنْزَلَ اللَّهُ: {وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا} حَتَّى بَلَغَ: {إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ أَوْ جَاءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَنْ يُقَاتِلُوكُمْ أَوْ يُقَاتِلُوا قَوْمَهُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقَاتَلُوكُمْ فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ} [النساء: 90]. قَالَ الحَسَنُ: فَاَلَّذِينَ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ بَنُو مُدْلِجٍ، فَمَنْ وَصَلَ إِلَى بَنِي مُدْلِجٍ مِنْ غَيْرِهِمْ كَانَ فِي مِثْلِ عَهْدِهِمْ [2].

إن مدار العلاقات في الإسلام قائمة على إلقاء السلم، فكيف يفتري الإعلام المبغض للإسلام على الله الكذب، فيزعم بأن الإسلام انتشر بالسيف؟ ألا ترى مقدار رسوخ «مبدأ السلم» في الإسلام؟ ألم يقل الله هنا: {إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ} [النساء: 90]، كما قال في سورة براءة التي هي من أعظم مواضع الآيات التي عليها يعتمد الغلاة: {فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ} [التوبة: 7]. وهنا ترى الآيات تتعاضد على أن تقرير مبدأ السلم في الإسلام يقترن في الوقت ذاته باستراتيجية «أخذ الحذر»، فكلاهما يبين التكوين الإسلامي لحضارة تحمي الحق والعدل في العالم.


[1] تفسير الرازي (10/ 172).

[2] مصنف ابن أبي شيبة (14 / 332).


الكلمات المفتاحية: الإسلامُ دينُ الحضارةِ والعدلِ: مبدأُ السّلامِ واستراتيجيةُ أخذ الحذرِ في التكوينِ الإسلاميّ