المقالات

التربية بين الكمال الإلهي والنقص البشري

أ. د. عبد السلام المجيدي

أتريد من المعرفة القرآنية أن تزودك بالوجوه الواضحة التي بها تختلف التربية الإلهية للعالَم عن تربية غيره؟، إن هذه الإرادة تدل على طلب الاستبصار، وهو ما يوجب علينا إجابتك بوجوه تسر الأسماع والأبصار.

الوجه الأول: تبدأ تربية الله الكريم لعباده بإيجادهم من العدم، فمن ذا يقدر على ذلك؟ وهو أعلم بهم عند جعلهم نطفة منقسمة نامية.. من ذا يحيط بذلك؟ {هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ} [النجم: 32]

الوجه الثاني: يُرَبِّي الله عز جاهه عَبِيدَهُ لَا لِنفع نفسه، ولا لاحتياجه بَلْ لمصالحهم الذاتية، وليقضي حاجاتهم الجماعية، وليبني لهم مجدًا وسعادة مع غناه عنهم {أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِيكُمْ إِلَهًا وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ} [الأعراف:140]..قارن! إنها خيبةٌ عظيمةٌ سترجع بها؛ فإن غَيْرَهُ يُرَبُّونَ لاحتياجهم، ونفع أنفسهم، وأهدافهم الخاصة بهم، وتكثرهم وتكاثرهم.

الوجه الثالث: أن غيره –جلَّ في علاه- إذا ربَّى يظهر النُّقصانُ في خزائنه وفي مَالهِ بقدر تلك التَّربية، أما الملِك الحق فهو -تَعَالَى- متعالٍ عن النُّقصان والضَّرر، كما قال تعالى: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ} [الحجر:21]، وعن أبِي هريرة -رضي الله عنه- أنَّ رسول اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم قال: ((يد الله ملأى لا يغيضها نفقةٌ سحَّاء اللَّيل والنَّهار -وقال- أرأيتم ما أنفق منذ خلق السَّماوات والأرض؟ فَإنَّه لم يغض ما في يده. -وقال-: عرشه على الماء، وبيده الأخرى الميزان يخفض ويرفع)).

الوجه الرابع: حب الله الكريم للإعطاء، وحبه للسائلين منه، وحبه للإلحاح في سؤاله حيث يصمد لعباده؛ واضرب لهم مثلًا محتاجًا من البشر تتجدد حاجاته، فينزلها على أحد المحسنين طالبًا مزيدًا من الإحسان.. ثم تتجدد الحاجات، فإلى أي شيءٍ يؤول أمره في آخر المطاف؟ الجواب معلوم من التجارب التي لا تكاد تنتهي في الحياة: إنه الكدر والضجر، أو التهرب من هذا المحسن الذي تكاثرت أمامه الحاجات والاحتياجات، أما الله -جل في علاه- فيحب العبد الملحاح في المسألة، ويكون الـمقبل عليه أشد الناس سعادةً بوافر عطاياه وجزيل نعماه، وانظر مصداق ذلك في حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ((إنه من لم يسأل الله يغضب عليه)).

الوجه الخامس: تربية الله عز جاره لنا قامت على أسسٍ غير مألوفةٍ عند بقية المربين؛ فاقصص قصص المربين من البشر وهم يربون على ما هو معتادٌ، وقارن ذلك مع تربية الله عبده حين رباه نطفةً، ثم علقةً، ثم مضغةً، ثم عظامًا، ثم كساه لحمًا فمن يقدر على ذلك؟، من يقدر على إيجاد الأعضاء، والأجهزة، والغضاريف، والمفاصل، والرِّباطات، والأوتار، والأوردة، والشَّرايين؟ من يقدر على أن يصل بعضها ببعض، ثُمَّ يضع فيها الْقُوَى الخاصة بها، كقوة البصر والرؤية في العين، وقوة السمع والاتزان فِي الأذن، وقوة النطق في اللِّسان؟، فسبحان من أسمع بعظمٍ، وبصَّر بشحمٍ، وأنطق بلحمٍ.

الوجه السادس: التربية الإلهية مستمرةٌ غير منقطعةٍ، ولذا يظل الاستمداد التربوي منه -جلَّ في علاه- إلا أن الاستمداد التربوي الجسمي المادي يأتي منه سبحانه دون سؤال غالبًا، فهو الذي يرزق العبد كل نفسٍ يتنفسه، وحركة يتحركها، أما الاستمداد العقلي والقلبي فيأتي عبر الاختيار البشري.. لقد اختار الصالحون ربهم، فقال ساداتهم: {أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلَا يُطْعَمُ} [الأنعام:14]، ولذا فإنه سبحانه سمى نفسه في (الفاتحة) المباركة {رَبِّ الْعَالَمِينَ} ولم يقل {خالق العالمين}؛ إذ {رَبِّ الْعَالَمِينَ} تدل على أنه لم يخلق فقط بل خلق وربَّى سبحانه، فتعاهدهم طبيعةً بتربية أجسامهم خلقًا وإنشاءً وتجديدًا، وتعاهدهم شريعةً بتربية أرواحهم وأخلاقهم ومبادئهم وعقولهم ونظمهم.. فحاجة الخلائق له مستمرةٌ، وقد أجمع العقلاء عَلَى أَنَّ الْحَوَادِثَ مُفْتَقِرَةٌ إِلَى الْخالق لها حال حدوثها.

الوجه السابع: غير ربِّ العالمين من المحسنين يختصُّ إِحسانُهُ بقومٍ دون قومٍ، ولا يُمكنه التَّعميم، أَمَّا الْحَقُّ -تَعَالَى- فالملائكة يصفون تربيته للعالم فيقولون: {رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا} [غافر:7]، وانظر كيف يبين الله لنا قسمة عطاياه: {كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا} [الإسراء:20]، وقد ذكر الله تعالى هذه الوجوه العظيمة في قوله في الحديث القدسي: ((يا عبادي كلُّكم ضالٌّ إلَّا من هَديتهُ؛ فَاستَهدُوني أَهدكُم. يا عِبادي كُلُّكم جائعٌ إلَّا من أَطْعَمتُهُ؛ فَاسْتَطعمُوني أُطْعمكُم. يا عبَادي كُلُّكُم عَارٍ إلَّا مَن كَسَوتُهُ؛ فَاستكسُوني أَكسُكُم.

يا عبادي إِنَّكُم تُخطئُون باللَّيل والنَّهار، وأنا أغفر الذُّنوب جميعًا؛ فاستغفِرونِي أغفر لكم. يا عبادي إنَّكم لن تبلُغُوا ضَرِّى فتضرُّوني، ولن تبلغوا نفعى فتنفعوني. يا عبادي لو أنَّ أوَّلكم وآخركم وإنسكم وجنَّكم كانوا على أتقى قلب رجلٍ واحدٍ منكم ما زاد ذلك فى ملكي شيئًا. يا عبادي لو أنَّ أوَّلكم وآخركم وإنسكم وجنَّكم كانوا على أفجر قلب رجلٍ واحدٍ منكم ما نقص ذلك من مُلكي شيئًا. يا عبادي لو أنَّ أوَّلكم وآخركم وإِنسكم وجِنَّكم قاموا فى صعيدٍ واحِدٍ، فسألونِي فأعطيت كلَّ إِنسانٍ مَسأَلته ما نقص ذلك مِمَّا عندي إلَّا كما يَنقُص المخيط إذا أدخل البحر)) رواه مسلم.


الكلمات المفتاحية: سورة الفاتحة