الحماية المصطلحية من المخاطر الثقافية
18 سبتمبر، 2021
1149
يحمي الله عباده في ألفاظهم فيحدد لهم اللفظ والمعنى لحراسة دينهم واستقلالهم اللفظي والفكري، فلم يذكر الله في محكمات (الفاتحة) وصفًا للإسلام إلا (الصراط المستقيم) فلم يذكر مصطلحاتٍ أخرى مما درج الناس اليوم على وصف أنفسهم به (مثل الإسلام الليبرالي، والاشتراكي…) وهذا يُـحَمِّلُنا واجبًا معرفيًّا وخُلُقيًا للنظر في سبب هذا الاختيار المصطلحي: فما الصراط؟
ذلك يعود إلى المعنى الدقيق المحدد لكلمة (صراط)، فهي مشتقة من سَرِطَ الشيءَ، وبابه فهم، واسْتَرَطَه ابْتَلَعَه، وانْسَرَطَ الشيءُ في حلقِه سارَ فيه سيرًا سهلًا، والسِّراطُ السَّبِيلُ الواضحُ، وتبدل السين صادًا فهي أَعْلَى لتضارع التفخيم الناشئ عما بعدها، وإن كانت السين هي الأصل، ونستنبط للصراط خمس صفاتٍ:
الصفة الأولى: أن يكون طريقًا، فهو طريق أو جسرٌ يعبر الإنسان عليه إلى وجهته.
الصفة الثانية: أن يكون مستقيمًا لا مُعْوَجًّا، والاستقامة إما أن تكون وصفًا تأسيسيًا، وإما أن تكون جزءًا من ماهية الصراط ذكرها الله لتكون وصفًا إيضاحيًّا زيادةً في بيانه ومدحه بحقائقه، ولاستحقاق هذا المصطلح (الصراط) أن يذكر بالتفصيل والإطناب لا بالاختصار والاقتضاب؛ وبذا تظهر أهمية الاستقامة وعدم الاعوجاج واللِّجاج، وليعتز الذين يسلكون الصراط باستقامته واستقامتهم تبعًا له، وفي ذلك إيماء إلى أن غيرهم اتخذ الحياة بقوانينها وتنظيماتها وإعمارها عِوجًا.
الصفة الثالثة للصراط: أن يكون واسعًا رحْبًا، فسلوك غيره يسبب الضيق والكدر.
الصفة الرابعة للصراط: أن يكون سهلًا ميسرًا، فليس فيه تعرجات تُعَسِّر المسير.
الصفة الخامسة للصراط: أن يكون موصلًا إلى المقصود ينتهي من يسير فيه إلى هدفه المنشود.
فيكون معنى {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ}: بين لنا ووفقنا وألهمنا لسلوك الطريق المستقيم الواسع السهل الموصل إلى تحقيق الأهداف السوية، والقرارات الصائبة التي تضمن لنا الفلاح والتفوق والفوز والنجاح في كل احتياجاتنا ومطالبنا الدنيوية والأخروية.
فما حقيقة الصراط المستقيم الذي يلبي كل تلك المعاني؟
هو الصراط الذي أقامه الله تعالى حاويًا كل الصالحات؛ فلا تتطرق إليه الخبائث والسيئات والموبقات، فهو الوصف الحقيقي الآخر للإسلام، وهو الذي يبين معنى الاستقامة المنهجية على المبادئ القرآنية، وتنفيذ التعليمات النبوية، فالصراط في آية سورة الفاتحة يصوِّر جمال الاستقامة وعظمة الإسلام، وتكوين شرائعه وشعائره لأجمل منهجٍ ونظامٍ، ولا يمنع من وجود سبلٍ متعددةٍ تكون كالمسارات ضمن الصراط الواحد تأخذ بأيدي الناس إلى دار السلام {يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [المائدة: 16].
واستعمال هذا المصطلح في وصف المنهج الإسلامي يعصم من الزلل والخلل والعبث بالمفاهيم، فهذه أوليةٌ قرآنيةٌ تلزمنا باستخدام المصطلح الإسلامي بدلًا من محاولة البحث عن مصطلحات أخرى تحمل المخاطر الثقافية التي قد تدمر المفهوم الإسلامي للمصطلح؛ ففي البناء المصطلحي لـ(الإسلام) حدد الله -سبحانه وتعالى- المصطلحات الإسلامية الكبرى؛ حتى لا توضع مصطلحاتٌ أخرى محلها فتكون محل إلباسٍ أو إشكال، فلاختيار هذا المصطلح القويم (الصراط المستقيم) في (الفاتحة) التي تقرر الكليات الإسلامية العامة دون غيره من المصطلحات مزية خاصة حافظة للمعالم الإسلامية.
وهناك بعدٌ آخر رائع في وصف الإسلام بالصراط المستقيم في قوله: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} فهو إيماءٌ إلى أنَّ الإسلام بالغ الحجَّة، قويم المحجة، قوي الدليل والبرهان، جاء على الفطرة الصادقة في خلق الإنسان فمم يخاف أهله؟ وما الذي يَرْهبُه المنتسبون إليه، وهو يخاطب من انتسب إليه قائلًا {لَا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلَى} [طه:68]؟ والاستقامة التي تضاد العوج -الذي تُدار به الأرض هذه الأيام- جزءٌ من حقيقة الإسلام، وإنما يحاول التائهون من الغلاة والجفاة أن ينسبوا إليه ما ليس منه، أو يسلبوا منه ما كان منه.