الرحمة أساس الصفات الإلهية
27 يوليو، 2021
881
قد يتساءل الإنسان وينبغي له ذلك ما أساس الصفات الإلهية؟ وما أهم صفة له تبارك وتعالى؟ فيأتيه الجواب في آية الثناء الأولى من الفاتحة المباركة {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيم} [الفاتحة: 1]، فتبين أنها صفة الرحمة الشاملة لمقاصد الأمور ووسائلها، ومبادئها ونهاياتها، وأوائلها وأواخرها، وأحكامِها ونُظُمها، وحتى الصفات الإلهية العليا الأخرى ترجع إلى الصفات الأربع المذكورة في الفاتحة، وهي (الرحمة والربوبية والـمُلك والمالِكية).. ولكن أعظم صفاته وأساسها صفة الرحمة المتكررة في بدايات سور القرآن المجيد، ومما يبين جمال التَصَوُّر الإسلامي للرحمةَ أنها قرينةُ التوحيدِ، وأساسُ الخَلْقِ الكوني، وهدفُ وجوده؛ فالتوحيد يقترن بالرحمة لا بالانتقام والغضب..
يتكرر هذا المعنى في مثاني الكتاب المبارك، فيقول الله –تعالى مجده-: {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ} [البقرة:163]، ومن الجميل الآسِرِ أن ترى في البسملة أن الله -جل في علاه- لم يذكر من أسمائه الحسنى في البسملة إلا اسمين يدلان على الرحمة هما: (الرحمن الرحيم) ولم يقل: (بسم الله الملك)، ومع أنه قد ورد عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن اسم الله الأعظم يتضمن (الحي القيوم) إلا أننا عند البسملة لا نقول (بسم الله الحي القيوم)، ولم يقل -جل في علاه-: بسم الله العزيز المنتقم، مع أنه وصف نفسه بالقوة والإهلاك للظالمين فقال سبحانه وتعالى: {وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا} [الكهف:59]، وقال سبحانه وتعالى: {فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ فَسَوَّاهَا (14) وَلَا يَخَافُ عُقْبَاهَا} [الشمس:14،15]..
وكما ترى فعلى الرغم من وصف قوته وإهلاكه لمفسدي العالَم إلا أنه لم يختر من أسمائه في الفاتحة إلا {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [الفاتحة:3].. ومن جهةٍ أخرى: فلماذا لم يَذْكُر الله بقية الأسماء الحسنى الدالة على بقية الصفات، وذكر اسمين يرجعان إلى معنىً واحدٍ هما (الرحمن الرحيم)؟ ألا يدعو هذا إلى التفكير؟
لا نجد حكمة واضحة في ذلك إلا الإخبار أن الرحمة هي الأصل في الفعل الإلهي لا الغضب، ولا الانتقام، ولا الثأر ولا التدمير، فصفاته سبحانه التي فيها ذِكْرُ الغضب، أو الانتقام، أو الإهلاك كلها ترجع إلى الرحمة، فإذا ما ذُكِرَ الغضب فلأن الرحمة العامة بالكون تقتضي ذلك، أو يقتضيه القيام بالقسط، لا لأن الأصل هو الغضب.
ومن هنا ندرك أن هذين الاسمين العظيمين يدلان على أساس صفاته التي ترجع إليها بقية الأسماء، وهي صفة الرحمة، وذلك لأصليتها، بل إن الله -جلَّ في علاه- خلق الكون لإظهار رحمته، فلم يخلقه للعبث، ولا للعب، ولا للإيلام.. بل الرحمة أصل صفاته كما هي أصل أفعاله كما قال تعالى ذكره: {إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ} [هود:119]، واسمع إلى النص القاطع الذي يقرر ذلك، ولن تجد أقوى النصوص العالمية يقدر على مضاهاته أو منافسته، حيث يقول الله تعالى: {قُلْ لِمَنْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ} [الأنعام:12]، وهذا نصٌّ عظيم مجيدٌ مدهشٌ عند التأمل فيه، والتدبر لمعناه..
وإذا كانت الشريعة رحمةً كلها، فخذ أنموذجًا تذكيريًا من رحمته بالعالمين في الطبيعة من كلام علماء الطبيعة: الشمس التي هي مصدر كل حياة، تبلغ درجة حرارة مسطحها 12000 درجة فهرنهايت، وكرتنا الأرضية بعيدة عنها إلى حد يكفي لأن تمدنا هذه (النار الهائلة) بالدفء الكافي لا بأكثر منه. وتلك المسافة ثابتة بشكل عجيب، وكان تغيرها في خلال ملايين السنين من القلة، بحيث أمكن استمرار الحياة كما عرفناها، ولو أن درجة الحرارة على الكرة الارضية قد زادت بمعدل خمسين درجة في سنة واحدة، فإن كل نبتٍ يموت، ويموت معه الإنسان حرقا أو تجمدًا، والكرة الأرضية تجري مرتطبة بالشمس بمعدل ثمانية عشر ميلا في الثانية، ولو أن معدل دورانها كان مثلًا ستة أميال أو أربعين ميلا في الثانية، فإن بعدنا عن الشمس أو قربنا منها يكون بحيث يمتنع معه نوع حياتنا، والنجوم كما نعلم تختلف في الحجم، وأحدها يبلغ من الضخامة حدًا لو كان شمسنا لكان محور الكرة الأرضية داخلًا في سطحه لمسافة ملايين الأميال، والنجوم كذلك تختلف في طراز إشعاعها، وكثير من أشعتها يميت كل نوع معروف من أنواع الحياة، وتترواح كثافة هذا الإشعاع وحجمه بين ما هو أقل من إشعاع شمسنا وما هو أكثر منه عشرة آلاف مرة، ولو أن شمسنا أعطت نصف إشعاعها الحالي فقط، لكنا تجمدنا، ولو أنها زادتها بمقدار النصف، لأصبحنا رمادًا من زمن بعيد، هذا إذا كنا قد ولدنا بوصفنا شرارة بروتوبلازمية PROTOPLASMIC (خلية) للحياة. ومن ذلك نجد أن شمسنا هي الصالحة لحياتنا من بين ملايين الشموس غير الصالحة لهذه الحياة.
انظر لهذه الرحمة الغامرة في جزئيةٍ حياتيةٍ محدودة، فكيف بك لو تحدثت عن الرحمة في العوالم المدهشة في العين والوجه والجهاز الهضمي، والجهاز التنفسي، وعالم القلب، وعالم السمع، والحس لرأيت عندها أن الرحمة تحيط بك على صورة لا يمكنك حصرها ولا إحصاؤها.. بل ستخلفك لا تستطيع نطقًا من دهشتك..
لعلك علمت بذلك معنى المثل الذي ضربه النبي صلى الله عليه وآله وسلم لأمته في حديث عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- حين قَدِمَ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وآله وسلم سَبْىٌ، فَإِذَا امْرَأَةٌ مِنَ السَّبْيِ قَدْ تَحَلَّبَ ثَدْيُهَا تَسْعى، إِذ وَجَدَتْ صَبِيًّا فِي السَّبْيِ أَخَذَتْهُ فَأَلْصَقَتْهُ بِبَطْنِهَا وَأَرْضَعَتْهُ، فَقَالَ لَنَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وآله وسلم: ((أترون هذه طارحةً ولدها في النَّار؟)) قلنا: لا وهي تقدرُ على أن لا تطرحهُ. فقال: ((اللَّه أَرحم بعباده من هذه بِولدها)) البخاري. أفرأيت رحمة الأم برضيعها؟ أيوازيها عندك رحمةٌ لأيٍ كان؟ إن رحمة الله أعظم من هذه الرحمة التي تشكل جزءاً من الكيان الأمومي..