المقالات غير مصنف

السِّياق التاريخي لنزول سورة النِّساء

أ. د. عبد السلام المجيدي

من أهم المنطلقات البصائرية دراسة السياق التاريخي للسور القرآنية، فالسياقان: التاريخي والمصحفي يقدمان كنوزًا مفاجئة متجددة من المعرفة القرآنية، ويقدمان (الإعجاز المعنوي) في أبهى صوره.

ومن أعظم مصادر التدبر المعينة على فهم كلمات الله ملاحظة نوعي الترتيب القرآني أو السياق القرآني، ولا نطيل الكلام في ذلك فسوف يأتي في مقال مستقل، ولكننا قبل ذلك ينبغي أن نعتني بتحقيق النزول التاريخي وتمحيصه، والوصول إلى استقرار فيه، يبين حِكَم النزول التي قصدها الشارع، ولنضرب لذلك مثلا بسورة النساء.

فقد نزلت هذه السورة في الـمدينة؛ ويكاد يكون ذلك مجمعًا عليه، وها هي عالمة النساء أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها تنبئك عن ذلك فتقول: (وَمَا نَزَلَتْ سُورَةُ البَقَرَةِ وَالنِّسَاءِ إِلاَّ وَأَنَا عِنْدَهُ)، لكنك خبيرٌ بأنهم يريدون بنزول السورة نزول أولها، ثم إنها تتابع، فربما نزل بعضها في آخر البعثة النبوية على صاحبها أفضل الصلاة والسلام.

فماذا كان ترتيب هذه السورة؟

لَقَدْ عَدَّها بعضهم الثَّالِثَةَ وَالتِّسْعِينَ مِنَ السُّوَرِ؛ إذ تجد في الرواية المشهورة الضعيفة عن ابْن عَبَّاسٍ رضي الله عنه في ترتيب نزول السور: «أَنَّ أَوَّلَ مَا نَزَلَ بِالـمدِينَةِ سُورَةُ البَقَرَةِ، ثُمَّ الأَنْفَالِ، ثُمَّ آلِ عِمْرَانَ، ثُمَّ سُورَةُ الأَحْزَابِ، ثُمَّ الـممْتَحَنَةِ، ثُمَّ النِّسَاءِ».

فهل الأمر كذلك؟

لا يظهر لي ذلك؛ فهذه الرواية ينبغي التحرز من التسليم بما فيها؛ لضعف إسنادها من جهة([2])، ولأنك تجد تنافيًا بين بعض مضمونها والواقع التاريخي والموضوعي أحيانًا، وبذا فهي لا تكفي لتكوين صورةٍ واضحة المعالم تقربنا من صورة الترتيب التاريخي لنزول السور؛ إذ ذاك يساعد على فهم المراد الإلهي في آيات السور.

على أن عسر التحديد التاريخي التفصيلي الدقيق لنزول السور لا يعني عدم المعرفة الإجمالية بوقت نزول هذه السورة المباركة، فهذه المعرفة الإجمالية مفيدة جدًّا، كما أن الغشاوة النسبية على المعرفة التاريخية التفصيلية أكثر إفادة؛ إذ تُـجبِرُ المرء على التدبر القرآني المتحرر أحيانًا من الملابسات التاريخية؛ لترسل رسولًا منها يوحي بأن القرآن المجيد يجتاز الحدود الزمنية والشخصية (الزمكانية) ليناسب الأحداث، والتطور البشري، والأمكنة المختلفة، وذلك لا يعني البتة عدم الإفادة من الواقع التاريخي لنزول السورة، فهو من أعظم المعينات على فهم كلماتها، وآياتها، إلا أنه لا يقيدها عن أن تكون منارًا لكل المجتمعات في كل الأزمنة.

ولا أظن سورة النساء تأخرت إلى الحد الذي تذكره الراوية السابقة، فَبناء على تلك الرواية تَكُونُ سُورَةُ النِّسَاءِ نَازِلَةً بَعْدَ عام الأَحْزَابِ الَّتِي وقعت في شهر شوال من العام الخامس من الهجرة، وَبَعْدَ صُلْحِ الحُدَيْبِيَةِ الَّذِي هُوَ فِي سَنَةِ سِتٍّ؛ لأن سورة الممتحنة نزلت أوساطها بعد الحديبية، بل ارتبط نزول أولها بفتح مكة، أظننتَ سورةَ النساء تأخرت حتى نزلت في قريبٍ من ذلك الوقت؟

فدعنا نتذكر بعض المعالم لمحاولة معرفة الوقت التقريبي لنزولها:

معالم إرشادية لمعرفة وقت نزول سورة النساء:

الـمعلم الأول: تضمن بعض آياتها أحكامًا نزل الجواب بشأنها باكرًا بعد الهجرة النبوية، كآيات الـمواريث وخاصة الأولى منها، وهي قوله تعالى ذكره: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ} [النساء: 11]، فقد نزلت في شأن بنتي سعد بن الربيع رضي الله عنه اللتين تُوفي أبوهما في معركة (أحد)، حيث أخذ عمهما مالهما، وحرمهما وأمهما من الإرث(، و(أحد) وقعت في السابع من شوال في السنة الثالثة من الهجرة، وبذا فمن السورة ما نزل في آخر السنة الثالثة أو في بدايات الرابعة.

المعلم الثاني: تجد من آياتها آيات حماية المجتمع من الفاحشة (النساء15 -18)، حيث عالجت الآيات مَنْ يقع في تلك الفعلة علاج المصلح الذي يروم إعادة تأهيل من يأتيها.. وأنت تعلم -أيَّدك الله- أن أهل العلم يكادون يجمعون على أن هذه الآية نزلت قبل آية حد الزنا التي وردت في سورة النور، وسورة النور نزلت مع حادثة الإفك، وحادثة الإفك في تقدير بعض أهل العلم كانت قبل وقعة بني قريظة، التي حكم فيها سعد بن معاذ، ثم مات متأثرًا بجراحه في السنة الخامسة، وسعد هو صاحب المقولة المشهورة في الدفاع عن عائشة حيث غضب للنبي صلى الله عليه وآله وسلم وأزواجه فقال: «يَا رَسُولَ اللهِ أَنَا وَاللَّهِ أَعْذِرُكَ مِنْهُ.

إِنْ كَانَ مِنَ الأَوْسِ ضَرَبْنَا عُنُقَهُ، وَإِنْ كَانَ مِنْ إِخْوَانِنَا مِنَ الخَزْرَجِ أَمَرْتَنَا فَفَعَلْنَا فِيهِ أَمْرَكَ»(، وهذه المقالة منه تدل على أن ذلك كان قبل حادثة بني قريظة وقبل الخندق؛ لاتصال هاتين الحادثتين، وحادثة الخندق كانت في السنة الرابعة أو الخامسة على خلاف في ذلك، فغزوة بني المصطلق (المريسيع) التي كانت حادثة (الإفك) بعدها تكون قبل الخندق في الرابعة أو الخامسة، وبذا فإن من آيات سورة النساء ما نزل في السنة الرابعة قطعًا.

المعلم الثالث: في هذه السورة الـمباركة تجد قانون الأمانات العامة، وهو قوله تعالى جده: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} [النساء: 58]، ذكروا أنها نَزَلَتْ يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ فِي قِصَّةِ عُثْمَانَ بْنِ طَلْحَةَ الشَّيْبِيِّ رضي الله عنه، صَاحِبِ مِفْتَاحِ الكَعْبَةِ، وعندي في نزولها عام الفتح نظرٌ، والحديث لا يميل كثرة من محققي علم الحديث إلى إثباته.

الـمعلم الرابع: في هذه السورة آيات الحث على الخروج من القرية الظالـم أهلها، فما هذه القرية المقصودة عند نزول هذه الآيات؟ إنها ليست إلا مكة التي كانت ترزح تحت الحكم الوثني حينها، وإن عمَّت غيرها بعد ذلك، وفي السورة تسمع المستضعفين يئنون بحثًا عن الولي والنصير أمام الاضطهاد الوثني المريع الذي يأكل كرامتهم، وذلك كان في أوائل العهد المدني، وامتد إلى ما بعد صلح الحديبية.

الراجح في وقت نزول سور النساء:

وبذا تخلص إلى أن هذه السورة لم تنزل كاملةً في وقتٍ واحدٍ، بل إن نزولها بدأ في أواخر السنة الثالثة للهجرة، أو أوائل السنة الرابعة على إثر غزوة أحد بقليل، في أواسط العهد الـمدني، فانتصرت للحقوق المادية لليتامى والنساء ضمن منظومة المواريث الإسلامية، وفق تقنينٍ عادلٍ مدهشٍ، يتكامل مع بقية مجالات الحياة، التي لم تصل إليه النظم الإنسانية حتى اليوم، ونزل بعد ذلك أو معه آيات تنظيم الأسرة، ثم نزلت آيات الهجرة من أرض الظلم، وآيات استنقاذ الـمستضعفين، وخلال ذلك نزلت آيات الحوار مع أهل الكتاب: اليهود والنصارى، حوارًا يدور حول جوانب التعايش، والنقاش في القضايا الدينية، والاجتماعية، والفكرية، ويتضمن بيان الأخطاء، والانتهاكات الضخمة التي سببها المحرفون للكتب السابقة، عسى أن تهتم الأمة الجديدة بعدم الوقوع فيما وقع فيه من قبلهم، واستمرت السورة في النزول؛ حتى نزل بعضها ضمن آخر ما نزل، كآية الكلالة الثانية، فعَنِ البَرَاءِ بن عازب t قَالَ: “آخِرُ آيَةٍ نَزَلَتْ: خَاتِمَةُ سُورَةِ النِّسَاءِ: {يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ} [النساء: 176] “([5]).


([1]) البخاري (6 / 228) برقم (4993).

([2]) ينظر: فضائل القرآن لابن الضريس ص (33)، ودلائل النبوة للبيهقي (7/144).

([3]) سنن الدارقطني (5/137)، وأصل الحديث عند الترمذي (4/414)، وصححه الترمذي، وقد حسنه الألباني.

([4]) صحيح البخاري (3 / 229)، ويذكر ابن حجر في فتح الباري (8 / 471) استشكال القاضي عياض في ذكر سعد بن معاذ رضي الله عنه في هذا الحديث؛ لأن الإفك كان في المريسيع، وكانت سنة ست، فيما ذكر ابن إسحاق، وسعد بن معاذ رضي الله عنه مات من الرمية التي رميها بالخندق فدعا الله U فأبقاه حتى حكم في بني قريظة، ثم انفجر جرحه فمات منها، وكان ذلك سنة أربع عند الجميع، إلا ما زعم الواقدي أن ذلك كان سنة خمس، قال: وعلى كل تقدير فلا يصح ذكر سعد بن معاذ t في هذه القصة، والأشبه أنه غيره، ثم رده بناء على الاختلاف في تاريخ غزوة المريسيع، وقد حكى البخاري عن موسى بن عقبة أنها كانت سنة أربع، وكذلك الخندق كانت سنة أربع، فيصح أن تكون المريسيع قبلها، فإن كانا من سنة واحدة استقام أن تكون المريسيع قبل الخندق، فلا يمتنع أن يشهدها سعد بن معاذ t، وبيَّن أن الصحيح في النقل عن موسى بن عقبة أن المريسيع كانت سنة خمس، وأن الذي نقله عنه البخاري من أنها سنة أربع سبق قلم نعم. والراجح أن الخندق أيضًا كانت في سنة خمس، خلافًا لابن إسحاق، فيصح الجواب المذكور، وممن جزم بأن المريسيع سنة خمس الطبري… ثم ذكر إشكالات أخرى وبيَّن حلها، وبَيَّن مبالغةَ ابن العربي في نفي وجود سعد t حينها، وأن هذه المبالغة جرت على عادته… رحم الله الجميع.

([5]) البخاري (8 / 190) برقم (6744).


الكلمات المفتاحية: أداء الأمانات الكلالة حقوق المرأة حماية المجتمع سبب نزول سورة النساء سلايدر سورة النساء فتح مكة يوصيكم الله في أولادكم