المقالات

القرآن يصنع مجد الأمة

أ. د. عبد السلام المجيدي

كان الصحابة رضي الله عنهم والتابعون والعلماء الراسخون يدركون فاعلية القرآن في تكوين المجد العام للأمة، ولذلك تندهش عندما تجد الموفقين من أهل التفسير فسروا الصراط المستقيم بأنه القرآن الكريم، واسمع إلى ابن مسعود يصف ذلك على هيئةٍ مُصَوَّرَةٍ كأنك تشاهدها فيقول: (إِنَّ هَذَا الصِّرَاطَ مُحْتَضَرٌ تَحْضُرُهُ الشَّيَاطِينُ يَقُولُونَ: يَا عِبَادَ اللَّهِ هَذَا الطَّرِيقُ) أي يحاول شياطين الإنس والجن أن يوهموك أن الطريق الذي يزينونه هو الصراط المستقيم.. ماذا نصنع لهم؟ كيف ننجو من قدرتهم الفذة على تقليب الحقائق وخاصة في زمن السنوات الخداعات..

هنا يكمل ابن مسعود فيقول: (فاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ؛ فَإِنَّ الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ كِتَابُ اللَّهِ).. كأن ابن مسعود شعر بالاستبصار القرآني أن شياطين الإنس والجن سيحاولون إبعاد المسلمين عن القرآن الكريم.. ألا ترى كم جربت أمة الإسلام من مناهج في قرونها المتأخرة؟ كم سلكت من طرق لتحقق التقدم والتنمية والعدل والريادة فكانت عاقبة أمرها خسرًا؟ وهنا نقرر بكل وضوح أن:

منهاج عودة أمة الإسلام إلى الصدارة العالمية قائمٌ على دعوة إبراهيم عليه الصلاة والسلام، فالرجوع إلى القرآن العظيم هو السبيل الوحيد الذي يحقق الانتصار الفردي والجماعي ضمن سنن المداولة والمدافعة؛ فإن قلَّبت الطرفَ –أيدك الله- في السنن الكونية التي تحكم التقلبات العالمية فستراها قائمةً على سنة المداولة {وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ} [آل عمران: 140]، وحتى يعود المجد الحضاري للأمة المسلمة فإن سنة المداولة تفسرها سنة أخرى هي سنة الدفع والمدافعة {وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ} [البقرة: 251]، فالمداولة بين الناس في الحضارة والسيادة لا تتم إلا وَفق المدافعة، وأعظم وسائل الدفاع والمدافعة تصحيح التصور والفكر والاعتقاد بالبراهين القرآنية..هنا تعلم القيمة الذهبية للدعوة الإبراهيمية الصادقة.. اسمع إلى إبراهيم وإسماعيل يبينان السبيل لإنقاذ البشرية من خلال دعوتهما الصادقة في قوله –تعالى ذكره-:{رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ } [البقرة: 129]

إن السبيل الوحيد لتكوين أمة الإنقاذ التي تعين البشرية للخروج من محن الظلم المتتابعة القيام بالوظيفة الثلاثية {يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ}.. ومن أجل هذه الفكرة ذاتها تسمع الله يُـجَدِّدُ ذكر هذه الوظيفة الثلاثية في مكانٍ متوسطٍ في سورة آل عمران.. حيث كانت السورة تعالج أسباب الانتكاسة العسكرية التي عرضت للمسلمين في أحد.. إذا بالقارئ يفاجأ بقوله تعالى: {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} [آل عمران: 164]..

فلِمَ يذكرُ هذه الآية أثناء الكلام عن معركةٍ عسكريةٍ؟ لا لشيء إلا ليبين أن الأمة لا يمكنها تحقيق انتصاراتٍ حقيقيةٍ في ميادين البناء، ولا في ميادين منع الاعتداء.. لا يمكنها إنقاذ نفسها ولا البشرية من طواحين الظلم المؤلمة إلا بالرجوع إلى بصائر القرآن المجيد في تشخيص الواقع ومعالجته.. أولم يقل الله-تعالى جدُّه{وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ} [النحل: 89]؟،

وهنا يأتي الصراط المستقيم الذي يمثله القرآن ليمثل جسر العبور إلى الراحة الحقيقية، وليكون وسيلة النجاة من كل الآلام والشرور، والوظيفة الثلاثية تقتضي أول ما يقتضي محو أمية التلاوة عن الأمة المسلمة أولًا.. فكيف تزعم أنها تنتمي للقرآن وأكثر مثقفيها ومسؤوليها لا يجيد تلاوة القرآن.. بل ليس له حظٌّ يوميٌ مع هذه التلاوة المباركة.. يا أهل القرآن لستم على شيء حتى تتلو القرآن.

إننا بحاجةٍ إلى نهضة حقيقية لجعل التلاوة جزءًا من حياة كل فردٍ في الأمة الإسلامية وخاصة النخب المثقفة منهم.. ويصحب ذلك القيام بمحو أمية المعرفة للمعاني القرآنية العامة التي يكتسب المرء من خلالها الحكمة.. ويصحب ذلك إقامة السلوك القرآني بتزكية النفوس، وتطبيق القرآن في حياة الإنسان لتخضر الأرض اليبوس{يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ} [البقرة: 129].. يا أهل القرآن لستم على شيء حتى تتعلموا القرآن، وتزكوا به مجتمعاتكم وأرواحكم وعقولكم.


الكلمات المفتاحية: الصحابة القرآن الكريم