المقالات

الواقعية المعجزة للبصائر القرآنية في سورة النساء

أ. د. عبد السلام المجيدي

القرآن يُشَخِّصُ الواقع الزمكاني كأنما أنزل الآن؛ فإن القرآن المجيد نزل على النبي صلى الله عليه وآله وسلم ليقود حياتك الفردية، وليبصر الأمم والنظم والدول والحكومات لتستهدي ببصائره في تنظيم حياتها وشؤونها، لا جرم أن تجد الارتباط الشديد للواقع الحيوي الذي يوجه النفس الإنسانية في كل أنحاء الكلمات القرآنية، وحينها تشعر بأن ما تبنيه الخرافات المنظمة المعاصرة تتلاعب بالعقل الإنساني، وتبعده عن المعالم الحقيقية (لبث الحياة الإنسانية)، ولسوف يكون أمرهم بورًا، وبمشعل البصائر القرآنية ووهجها الذي لا ينطفئ تستطيع أن تقول عن قوى الفساد العلمي والعملي: {إِنَّ هَؤُلَاءِ مُتَبَّرٌ مَا هُمْ فِيهِ وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأعراف: 139]، وخذ أنموذجًا فيما سطرته لنفسي ولك -أيدك الله- في قول الله تعالى جده: {لَا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ} [النساء: 148]، فقد قلت هناك:

«تذوق معي طعم هذا التعبير الإصلاحي المهيب: {لَا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ} [النساء: 148].. سياقه بعد الكلام عن المنافقين.. تصور الآن أمامك أرتال القنوات الفضائية، وحشود وسائل التواصل الاجتماعي.. تصورها جميعًا، وهي تعمل ليل نهار على نشر السوء من القول.. فما السوء من القول؟ إنه كل كذبٍ قبيحٍ تردده الألسن.. إنه كل زورٍ يُنشَر لإشاعة الإجرام والفاحشة والغيبة المنظمة، والنميمة الفردية والنميمة الاستخباراتية المحلية والدولية.. هل تتصور كم ينشر بأموال الشعوب المستضعفة المسكينة من هذا الزور المحلي والعالمي في واقع اليوم؟ هل يمكنك أن تتخيل كم من الأموال العامة تتدفق على برامج الفن والبرامج الاستعراضية لنشر السوء من القول؟

والآية صريحة واضحة: لا يحب الله هذا الجهر من السوء بالقول.. أتظن الله لا يعذب من يفعل ما لا يحبه جل ذكره؟ أعيذك من أن تقول ما قاله سفهاء السفهاء وهم ينشرون السوء من القول.. لقد قالوا: اقترفنا السوء من القول والفعل ولم نر عذابًا.. لم تحدث لنا زلازل، ولا سقطت علينا صواعق {كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ} [البقرة: 118].. لقد قالوا: {وْلَا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ} [المجادلة: 8] وفي السنن الإلهية ترى أن الله لا ينزل -بالضرورة- عذابه العاجل على كافر يجهر بالسوء من القول والفعل، بل يتوعده بعذاب الآخرة فيقول: {حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمَصِيرُ} [المجادلة: 8]، أما في دنيا الذين يزعمون الانتساب إلى الإسلام فإن الله ينزل عليهم قوارع اقتصادية أو اجتماعية أو سياسية، وتأتيهم المصائب المتتابعة لكن كثيرًا من السفهاء {أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ } [النحل: 21].. أفما يكفي عقوبة عاجلة أن ترى الفقر ينتشر في بلدانٍ حباها الله بالثروات والموارد الطبيعية التي يفترض أن تكون في أعلى مؤشرات السعادة الدولية؟

وعد إلى الآية: {لَا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ} لتراها تقيد الذي لا يحبه الله بالجهر.. فهل يعني ذلك أن السر بالسوء من القول جائز؟

كلا! اجمع الآيات لتصل إلى أعلى الغايات -أيدك الله- فوعزة ربك لتجدن حقًّا ما وعد ربك من جعل هذا الكتاب هدى ورحمة وتبيانًا لكل شيء، فقد تقدم في هذه السورة ضوابط القول في السر الذي سماه الله نجوى في قوله: {لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ} [النساء: 114]، ولقد رأيت القرآن يجرم الأعمال الفردية والجماعية لقول السوء في السر في قوله تعالى جده: {يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلَا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لَا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا} [النساء: 108].. ولكن السياق الآن في الكلام عن المنافقين ومن يعمل أعمالهم؛ إذ من أهم صفاتهم التي يستجلبون بها العذاب الإلهي: الجهر بالسوء من القول.. فانظر جمال السياق، والإبهار الذي يوضحه الكلام المنساق في تنظيم المجتمعات وحمايتها من هذه الفئة المجرمة.

الجهر بالسوء يبدأ في أول الأمر اتهامات فردية -سبًّا، وقذفا-، وينتهي انحلالًا اجتماعيًا، وفوضى أخلاقية، تنعدم فيها الثقة بين الناس؛ فيؤدي ذلك إلى هضم الحقوق، والتقاطع، وسفك الدماء أو التطبع على إشاعة الفحشاء، ويصبح من البطولة فعل الجرائم والتآمر».

وهكذا ينهمر عليك غيث البصائر القرآنية في سورة النساء مدرارًا هنيئًا مكتظًا بالتشريعات لكن اكتظاظه بها لا يحرمك من أن تراه على أجمل ما يكون التنضيد، وستلمح في حدودها القائمة بتنظيم بث الحياة البشرية تشريعات لجأت النظم المعاصرة إلى الاقتباس منها، ويحق لك هنا أن تتذكر قول بديع الزمان النورسي: « أليس من الجناية على الإسلام أن نستجدي الأحكام من أوروبا ولنا شريعة غراء تأسست قبل ثلاثة عشر قرنا؟ إن هذا الاستجداء شبيه بالتوجه إلى غير القبلة في الصلاة».

لقد بلغ الاعتداء على الحياة الإنسانية من بني الإنسان حدًا لا تستطيع استيعابه تحت سمع ما يسمى الشرعية الدولية وبصرها، وانظر إلى أنهار الدماء المتدفقة التي لم توقفها مؤسسات الشرعية الدولية، وكما اتخذ مؤسسات البخل والمراءاة الدولية سبيلها العجب في التلاعب بقضايا الإنسانية فإن الأطماع والنزوات الفردية تزداد سعارًا، فهذا رئيس سيراليون -في فبراير 2019م- يعلن حالة طوارئ وطنية في بلاده بعد ارتفاع معدلات الاغتصاب بشكل مخيف، وجريمة اغتصاب طفلة تبلغ من العمر 5 سنوات حيث تعرضت لشلل جزئي بعدما اغتصبها عمها، ويلجأ وحوش الإنسانية لاستغلال المستضعفين وخاصة الأطفال والنساء، فقد تعرضت نصف النساء في سيراليون إلى عنف جنسي أو جسدي في حياتهن.

إن كل ما تحتاجه الآن أن ترجع إلى كتابي مفصل تفسير سورة النساء “بث الحياة الإنسانية…” لترى مصداق ذلك فسوف تجد الحقوق الكريمة للفئات المستضعفة والقوانين الصارمة في حماية الحياة الإنسانية في مجلات الحياة المتنوعة.


الكلمات المفتاحية: المقالات سورة النساء