المقالات

الرعاية الإلهية وخطر الفئات الضالة

{فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا (88)} إلى نهاية الآية (91) [النساء: 88 – 91]

من المتربصون بالإنسانية، وما أنواعهم؟ وما وسائلهم؟

علم الاجتماع القرآني (23)

ها هي الرعاية الإلهية المستمرة؛ تمد أولياءها من التصرفات الراشدة مدًا.. أمدتهم بفهم حقيقة الحياة، وكيفية الوجود الإنساني، وكيفية التكاثر الإنساني.. أمدتهم بمنظومة الحقوق المدنية التي تبين الامتيازات كما تبين التبعات والواجبات؛ لأجل القيام بالقسط، وأمدتهم بالاستراتيجيات اللازمة لحماية الوجود الإنساني، وإنقاذ المستضعفين في الأرض، فعدَّد الله في الأقسام السابقة عددًا من الأصناف التي تشكل خطرًا على المجتمع، وبين كيف تحاول هذه الأصناف جهلًا أو عمدًا تدمير حالة السلام العام، واختراق الحالة الأمنية لإضعاف سياسة (أخذ الحذر)، والتلاعب بالحقوق الإنسانية، ومن هؤلاء الأصناف:

الصنف الأول: الذين يزعمون الإسلام لكنهم يأبون التحاكم إلى شريعته، قال الله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ} [النساء: 60]

الصنف الثاني: الخاذلون المخذلون عن أداء الواجب في حماية الـمجتمع، قال الله تعالى: {وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ} [النساء: 72]

الصنف الثالث: المتحمسون المندفعون المتهورون الذين يزعمون أنهم أصحاب الـمبادئ العظيمة التي لو اقتضى الأمر فسيكونون شهداء في سبيلها، ثم يخشون الناس عند ساعة الصفر،قال الله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً} [النساء: 77]

الصنف الرابع: الذين يخشون الناس كخشية الله أو أشد خشية، قال الله تعالى:  {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً} [النساء: 77]

الصنف الخامس: الذين يسندون وقوع الـمصائب إلى الذين يأمرون بالقسط من الناس، قال الله تعالى: {وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ} [النساء: 78]

الصنف السادس: المتآمرون لمنع تطبيق التوجيهات النبوية، قال الله تعالى:  {وَيَقُولُونَ طَاعَةٌ فَإِذَا بَرَزُوا مِنْ عِنْدِكَ بَيَّتَ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ وَاللَّهُ يَكْتُبُ مَا يُبَيِّتُونَ } [النساء: 81]

الصنف السابع: الذين ينشرون الشائعات حول القضايا الكبرى لتضييع أمن الـمجتمع، قال الله تعالى: {وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ} [النساء: 83]

ثم سيذكر الله الصنف الـمنافق الـمحض الذي لا عمل له سوى الحرص على هزيمة المجتمع المسلم، وتدميره، وسيذكره الله تعالى جده في هذا القسم ثم يفصل ما يتعلق به ابتداء من الآيات: (138).

وكل هؤلاء الأصناف يؤدون الأمانات إلى غير أهلها، ولا يحكمون بالعدل، ويحاربون قيام الإدارة الراشدة؛ فيؤدي ذلك إلى إزهاق أرواح الأبرياء، وسفك الدماء، ونشر الفساد في الأرض، وتضيع الحقوق، وتحل الـمآسي، وتعم الظُلْمة في العالم، ويسيطر الظَلَمة على صناعة القرار البشري.

وبعد أن ذكر الله في الأقسام السابقة هؤلاء الأصناف السبعة يفصل الله في هذا القسم أصناف العالم حولنا حسب تطبيق استراتيجية الأمن المجتمعي، والسلام العالمي الشامل، وتشعر بالانبهار الشديد وأنت تقرأ هذه الآيات؛ لشدة التفصيل والتدقيق في الجمع بين حقوق المجتمع في الأمن والحماية، والدفاع، وبين إدارة المعركة السياسية والحربية والثقافية مع المعتدين، وذلك ليظهر العمق العظيم لتوغل الإسلام في كل مناحي الحياة، ومنها العلاقات الدولية، والعلاقات المتداخلة بين الدولية والمحلية، ويظهر بذلك عظمة الإسلام في حماية مجتمعاته، وبيان حكمه على من يقترف جريمة الخيانة العظمى، ومتى تصان دماء المشتَّتين بين الانتماء الديني والانتماءات الأخرى بدقة متناهية، ووضع الله القوانين اللازمة فيما يتعلق بالمنافقين الذين يقترفون جريمة الخيانة العظمى، ومعها بين حرص الإسلام على كف اليد وإلقاء السلم في العالم، وظهر من أهداف وضع هذه القوانين والنظم:

أولًا: تنقية الصف من الطابور الخامس الذي ترجع إليه معظم الخيانات والتخلخلات الأمنية والثقافية إليه.

ثانيًا: تثبيت الوعي بجمع الإسلام بين القوة الحازمة إزاء المعتدين والخونة، وبين الإشاعة لثقافة السلام وكف اليد، وبذا أبعد الحيرة والتردد، وأوجد التعامل الحازم الواضح مع من يقول كلمة الإسلام بلسانه، ويصر على مظاهرة المعتدين ضد المسلمين.

والآن تعال بنا لنضع هذا التساؤل الضروري الملح: ما القاسم المشترك بينهم وبين النساء؟ لماذا ذُكِرُوا في سورة النساء؟

ستجد في الواقع القائم الآن بما لا تخطئه العين الجواب واضحًا: إنهم جميعًا يظهرون حماية حقوق النساء، ويزعمون أنهم أنصارهن إنهم الذين يتخذون القضية النِسْوية شماعة؛ لإشاعة الشهوات، ونشر تجارة الرقيق الأبيض، قال الله تعالى: {وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا} [النساء: 27]، وانظر أنت إلى أي مدى انتشرت القنوات التي تحبب الفاحشة في البشرية وبدعمٍ من أموال من يزعم أنه ينتسب إلى الإسلام والقرآن.. إنهم المخدوعون أو المخادعون فيما يتعلق بالنساء يظهرون مناصرتهن؛ لنيل حقوقهن، وهم لا يزيدون على أن يسهموا في إذلالهن، والتلاعب بحقوقهن، وتحويلهن إلى سبايا للشيطان يمتهن المتاجرة بكل ما يؤدي إلى إهانتهن وإبعادهن عن كرامتهن الحقيقية التي تسهم في سعادة البشرية سواء أكن بنات أم زوجات أم أمهات أم أخوات.

ولإنارة وعيك، وشحذ ذهنك، ولتقليل الخطوات التي تحتاجها؛ لتدرك الواقع العالمي الذي يحيط بك صنف الله الناس حسب إلقائهم للسلم، وكف أيديهم إلى أصنافٍ لتسلك التعامل الصحيح المستقيم معهم، ولتكون معرفتهم زادًا يعزز الجهود الأمنية والعسكرية الحارسة للمجتمع.

وهذه الأصناف هي الأصناف الآتية:

الصنف الأول: الـمنافقون :

الذين يعيشون في المجتمع النبوي المدني لكنهم يظهرون النفاق العملي، فيعبثون بالأمن العام، ويحيكون المؤامرات على العالم، ويخذلون الأبرياء في مواطن الحاجة، ويُبَصِّرُنا الله بهم في قوله تعالى: {فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ} [النساء: 88]،

الصنف الثاني: من ترك دار العدل المسلمة دون إذنٍ من القيادة النبوية، ولم يتحمل تبعات البقاء مع النبي صلى الله عليه وسلم.

فعن عبد الرحمن بن عوف أن قومًا من العرب أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم الـمدينة، فأسلموا، وأصابهم وباء الـمدينة حُمَّاها، فأُركسوا، فخرجوا من الـمدينة، فاستقبلهم نفر من أصحابه -يعني أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم-، فقالوا لهم: ما لكم رجعتم؟ قالوا: أصابنا وباء الـمدينة، فاجتوينا الـمدينة، فقالوا: أما لكم في رسول الله أسوة؟ فقال بعضهم: نافقوا، وقال بعضهم: لم ينافقوا، هم مسلمون، فأنزل الله عزَّ وجلَّ: {فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا} [النساء: 88] [1] الآية.

فهذا الحديث وإن كان ضعيفًا في إسناده إلا أنه يؤذن بصنفٍ من المنافقين لم يتحملوا تبعات الإسلام الذي أعلنوه، ولم يقوموا بالالتزام الذي تقتضيه الهجرة إلى النبي صلى الله عليه وسلم، ولا مانع من نزول الآية ابتداء ثم تكرار نزولها على معنى التنبيه على دخول قضية أخرى في ألفاظها.

الصنف الثالث: الأقليات أو المجموعات (اللوبيات) الخائنة التي تعيش في بلاد العدل الأخرى لكنها تعمل على إيذاء المسلمين، والتآمر على المؤمنين.

وتولد أفكارًا لتحويل المؤمنين إلى الكفر، ويزعمون في الوقت ذاته أنهم من المسلمين، فهؤلاء حكمهم كما قال الله جل ذكره: {فَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ حَتَّى يُهَاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [النساء: 89]، والمقصود بهجرتهم المعنى الشرعي الأصلي، وهو ترك سياسة الإيذاء واتباع المبادئ الإيمانية في العمل على رفعة قيمة الإيمان في المجتمعات، وأن يحبوا للآخرين من الخير ما يحبون لأنفسهم.

الصنف الرابع: المجموعات التي تعيش في بلاد المحاربين المعتدين، فيكونون مجموعات ضغط لتدمير الأمن العام، والسلام العالمي، وتعمل على خلق المشاكل والأزمات في بلاد العدل.

 فهذا الصنف يدخل في قوله تعالى ذكره: {فَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ حَتَّى يُهَاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [النساء: 89] فلا بد أن يحققوا المعنَيَين في الهجرة، فيهاجروا من بلاد الظلم إلى بلاد العدل، ويهجروا سلوكهم المؤذي، والواقع التاريخي يخبرنا عن مثالٍ لهم، وهم من عاشوا في مكة عندما كانت الوثنية القرشية تسيطر عليها، وكانوا يزعمون أنهم مع المسلمين، وأفعالهم تبدي غير ذلك.

ومن أساليبهم الدنيئة أنهم يعينون المعتدين، ويحاولون اللعب بالرأي العام الراشد في الوقت ذاته.

الصنف الخامس: من ينتمي إلى الـمعاهدين، سواء أكانوا مسلمين أم كفارًا.

ويُبَصِّرُنا بهم قوله تعالى: {إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ}، فكلمة ﴿ﮟ﴾ تدل على أنه يستثنى من إعلان العداوة الحربية، ويستثنى من عدم اتخاذ الولي والنصير من يصل إلى المعاهدين، ومعنى ﴿يَصِلُونَ﴾: يتصلون، وعداها بـ ﴿إِلَى﴾؛ ليضمنها معنى: ينتسبون، أي: يتصلون بمن عاهدتموهم، أو ينتسبون لهم بالرحم أو الانتماء الوطني أو غيره:

الصنف السادس: قومٌ من الكفار ينتمون إلى الـمحاربين نوع انتماء، لكنهم يكفون أيديهم عنكم.

ويُبَصِّرُنا بهم قوله تعالى ذكره: {أَوْ جَاءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَنْ يُقَاتِلُوكُمْ أَوْ يُقَاتِلُوا قَوْمَهُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقَاتَلُوكُمْ} ﴿ َوْ﴾ للدلالة على صنفٍ آخر أي: أو الذين، أسقط كلمة «الذين» لوضوحها في الكلام ﴿جَاءُوكُمْ﴾ ليعلنوا لكم أنهم يريدون السلام فقد حصرت أي: ضاقت صدورهم أن يقاتلوكم، أو يقاتلوا قومهم، فيجب كف اليد عنهم، ومسالمتهم.

فهم قومٌ من الكفار ينتمون إلى المحاربين لكنهم يكفون أيديهم عنا..

الصنف السابع: قومٌ من المسلمين ينتمون إلى المحاربين.

وتبصرنا بهم الجملة ذاتها: { أَوْ جَاءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَنْ يُقَاتِلُوكُمْ أَوْ يُقَاتِلُوا قَوْمَهُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقَاتَلُوكُمْ فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ}، جاؤوكم فأسلموا وتابعوكم، ولكن صدورهم ضاقت أن يقاتلوكم؛ لأنهم يخافون الله، أو يقاتلوا قومهم؛ لأن فيهم أقاربهم، أو لأنهم هاجروا وعاهدوا الكفار على عدم مقاتلتهم، فيجب عليهم الوفاء [2]:

الصنف الثامن: الباحثون عن مصالحهم الذاتية دون مبالاة بالتزام السلام، فهم يترددون بين إلقاء السلام لكم وبين معاونة المعتدين عليكم.

ويُبَصِّرُنا الله بهم، فيقول: {سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ كُلَّ مَا رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فِيهَا}، فلم يبح الاعتداء عليهم على الرغم من خيانتهم، بل قيد الاعتداء عليهم بمشاركتهم المباشرة في الاعتداء المسلح، فقال: {فَإِنْ لَمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَيُلْقُوا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ وَيَكُفُّوا أَيْدِيَهُمْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأُولَئِكُمْ جَعَلْنَا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا مُبِينًا}:

فهم مثل الأصناف الثلاثة في الآية السابقة.. فبم يختلفون عنهم؟

يصف الله لك نقطة الاختلاف فيقول: {كُلَّ مَا رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فِيهَا}.


[1] أحمد (1 /192) برقم 1689 ، وقال الأرناؤوط: إسناده ضعيف.

[2] الرازي في تفسيره (10/ 172) بنحوه.


الكلمات المفتاحية: الرعاية الإلهية وخطر الفئات الضالة قادة الشر في العالم حسب القرآن