ما الحكمة في قرن التساؤل بالأرحام بالتساؤل بالله عز وجل في قوله تعالى {وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ} [النساء: 1]؟
7 يونيو، 2022
1621
{وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ} [النساء: 1]
لعل البصيرة المشرقة التي تنطق بها الآية هي
أن صلة الأرحام القريبة والبعيدة علامة على صدق الإنسان مع ربه، وصدقه في بناء النظام الإنساني السوي العادل مع بني جنسه.
والـمعنى: بما أن ربكم خلقكم من نفس واحدة، وخلق منها زوجها، ورباكم فبث من النفس وزوجها رجالًا كثيرًا ونساء، فاتقوه، واتقوا الله في أرحامكم فأنتم تعظمونه، فيسائل بعضكم بعضًا باسمه كما تتساءلون بالرحم، فلعل هذا بقي لكم من دين إبراهيم عليه السلام، فتقولون: «أسألك بالله، وأنشدك بالله، وأسألك بالرحم التي بيني وبينك»، والأرحام جمع رحم، واسْمُ الرَّحِمِ مُشْتَقٌّ مِنَ الرَّحْمَةِ التي هي أساس الصفات الإلهية، ويبين لنا النبي صلى الله عليه وسلم هذا الارتباط فيقول: «قَالَ اللَّهُ: أَنَا الرَّحْمَنُ، وَهِيَ الرَّحِمُ، شَقَقْتُ لَهَا اسْمًا مِنَ اسْمِي، مَنْ وَصَلَهَا وَصَلْتُهُ، وَمَنْ قَطَعَهَا بَتَتُّهُ» [1].
ويتضح هذا الـمفهوم الإلهي في تثبيت الصلة الإنسانية بين بني آدم من القراءتين الواردتين في هذه الكلمة؛ إذ يظهران ثلاثة مشاهد:
القراءة الأولى: {وَالْأَرْحَامَ} بالنصب، أي: وَاتَّقُوا الأَرْحَامَ فَصِلُوهَا وَلَا تَقْطَعُوهَا أو على الإغراء: والأرحام فصلوها، فهذا المعنى الأول، وهنا ترى أن الله قرن بين التساؤل به وبين الأرحام القريبة والبعيدة بين البشر.
القراءة الثانية: قرأ حمزة: {وَالْأَرْحَام} بالجر، عطفًا للاسم الظاهر على الضمير الـمجرور في قوله: {تَسَاءَلُونَ بِهِ} [النساء: 1]، ولهذه القراءة معنيان: القسم بالأرحام، أي: اتقوا الله الذي تساءلون به، وأقسم بالأرحام، وذلك كما أقسمَ الله بالشمس والنجم.. وذلك لتعظيم مكانة الرحم، ولبيان أساس من أسس العطف والتراحم بين الخلق وهو الأرحام القريبة والبعيدة.
المشهد الثالث: واتقوا الله الذي تساءلون به وتتساءلون بالأرحام كذلك فتقولون: أسألك بالله والرحم، أو أسألك بالرحم الذي بيني وبينك، والسؤال بالأرحام ليس قسمًا بها، بل هو استرحام وحث ليفعل المسؤول الشيء المطلوب، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «ومن سألكم بالله، فأعطوه»[2]، وهذا كَقَوْلِ السَّائِلِ لِلَّهِ: «أَسْأَلُكَ بِأَنَّ لَكَ الحَمْدَ، أَنْتَ اللهُ الـمنَّانُ بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ، يَا ذَا الجَلَالِ وَالإِكْرَامِ، يَا حَيُّ يَا قَيُّومُ»[3]، و«أَسْأَلُكَ بِأَنَّكَ أَنْتَ اللهُ الأَحَدُ الصَّمَدُ، الَّذِي لَمْ يَلِدْ، وَلَمْ يُولَدْ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ»[4]، وَ«أَسْأَلُكَ بِكُلِّ اسْمٍ هُوَ لَكَ…»[5]. وإذا سأل أحدٌ بالله فخدعه المسؤول أو نكل أو نكص يكون قد أتى جريمة كبيرة وأمرًا معيبًا، فكأن الله سبحانه وتعالى يقول: فكما تعظّمون ربّكم بألسنتكم فعظّموه بطاعتكم إياه فيما أمركم ومن أعظم ذلك أن تصلوا أرحامكم، ويكون تكرار التقوى لتعظيم الرحم فكأنه يقول: اتقوا الله في حقوق من خلقوا معكم من هذه النفس، فهذه توصية عظيمة للإنسان بأن يقيم حقوق أرحامه، ويستثمر في طاعة ربه مرور أيامه، ولقد لجأت قريش إلى تذكير النبي صلى الله عليه وسلم بالرحم عندما جنت عاقبة بغيها بمنع من أسلم من اللحاق بالمدينة في صلح الحديبية، فَكَوَّنوا فئة ثالثة متحللة من الصلح بين الطرفين، وهاجموا القوافل الاقتصادية القرشية ضمن حرب عصابات، فأرسلت قريش تُنَاشِدُهُ بِاللَّهِ وَالرَّحِمِ لَما أَرْسَلَ -يعني إلى من لم يستقبلهم من المسلمين بسبب عهد الحديبية- فَمَنْ أَتَاهُ فَهْوَ آمِنٌ [6] فعدلت قريش الاتفاقية، وناشدته الله والرحم ليقبل التعديل، ولذا ترى الحث النبوي الحثيث على صلة الأرحام مهما أساءوا، فعَنْ أَبِي ذَرٍّ رضي الله عنه قَالَ: «أَوْصَانِي خَلِيلِي صلى الله عليه وسلم، بِخِصَالٍ مِنَ الخَيْرِ: أَوْصَانِي: بِأَنْ لاَ أَنْظُرَ إِلَى مَنْ هُوَ فَوْقِي، وَأَنْ أَنْظُرَ إِلَى مَنْ هُوَ دُونِي، وَأَوْصَانِي بِحُبِّ المَسَاكِينِ وَالدُّنُوِّ مِنْهُمْ، وَأَوْصَانِي أَنْ أَصِلَ رَحِمِي وَإِنْ أَدْبَرَتْ» [7]، ومثل ذلك حديث حكيم بن حزام رضي الله عنه أن رجلًا: سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الصدقات أيها أفضل قال: «على ذي الرحم الكاشح»[8]، (يعني أن أفضل الصدقة على ذي الرحم القاطع، المُضْمِر العداوة في باطنه).
[1] أحمد (1 / 191) برقم 1659، وقال الأرناؤوط: «صحيح لغيره رجاله ثقات رجال الصحيح غير عبدالله بن قارظ»، وفي البخاري (8 / 7) برقم 5989 عَنْ عَائِشَة رضي الله عنها، زَوْجِ النَّبِيِّ o، عَنِ النَّبِيِّ o قَالَ: الرَّحِمُ شِجْنَةٌ فَمَنْ وَصَلَهَا وَصَلْتُهُ، وَمَنْ قَطَعَهَا قَطَعْتُهُ.
[2] النسائي (5 / 82)، وصححه الألباني.
[3] سنن أبي داود (2/ 79) برقم (1495) ، وصححه الألباني.
[4] هذا اللفظ في سنن ابن ماجه (2/ 1267) برقم (3857)، وصححه الألباني والأرناؤوط.
[5]جزء من حديث في مسند أحمد (6/ 246) برقم (3712)، وصححه الأرناؤوط.
[6] صحيح البخاري – ترقيم فتح الباري (3 / 258).
[7] صحيح ابن حبان بترتيب ابن بلبان (2 / 194) برقم 449، وصححه الأرناؤوط.
[8] أحمد(3 / 402)، وقال الأرناؤوط: حديث صحيح وهذا إسناد ضعيف.