الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وصحبه ومن والاه، وبعد..

فما أجمل العيش مع كتاب الله تعالى لاستخراج البصائر منه والوقوف على إعجازه فالقرآن مفحم معجز، أعيا الواصفين, المطنب منهم والموجز، ومن أكبر نعم الله على الإنسان فصاحة اللِسَان وعمق البَيَانِ, وحلية التبيان, وأجمل ما يتحلى به المَرء الحجَّة الدامغة والحِكْمَة البالِغة.

وقد شرفني الله تعالى بمطالعة هذه البصائر التي فيها من الأسرار ما يلهب المشاعر, وفيها من الجمال ما يغني عن الرياض النواضر، وتحتوي مزايا تحار فيها الأعين النواظر.. فهي كما قال الشاعر:

انْظُرْ إلى الرَّوضِ النَّضيرِ كأنَّما * * * نُشِرتْ عليه ملاءةٌ خضراءُ
أنِّى سَرَحْت بلحظِ عينيكَ لا ترى * * * إلاَّ غديراً جالَ فيه الماءُ

وإن هذا السفر يشعل في مشكاة أولي البصائر والأبصار مصابيح الهدى الساطعة الأنوار، أظهرتَ فيه جميل البدائع، وكشفتَ عن وجه مخدرات العلوم البراقع، وافترعتَ فيه أبكار لذات العلوم، واجتنيتَ منه قطوف مسرات الفهوم، فوردتَ موارد صافية لم تطرق، فحَسُن بنسيم العنبر، ولذاذة السكر, فكان بديع الرصف، أنيق الوصف, نثره كنثر الورد، ونظمه كنظم العقد, كأنه الشهد في بنادق الذهب, أفدتَ فيه وأطربت، وأجدتَ عما في خواطرك وأعربت, مع رقة فاقت نسيم الصبا، وجمال سما على زهر الربى, حسن الديباجة، صافي الزجاجة، حسبتُ ألفاظه صوب السحاب، أو أصفى قطراً ومزنا، ومعانيه الذهب الزرياب، بل أوفى قدراً ووزنا, ينساب في الرضراض، انسياب النضناض.

وفيه من اللطائف ما تسر المحزون، وتعطل الدر المخزون، يطفئ الجمر، ويفجر الصخر، قريب الجنى، بعيد المدى، شفاء المريض، وجبر المهيض، أنس الحاضر، وزاد المسافر, من عرف قدره سيحسبه ساقطاً إليه من السماء استبشاراً لمطلعه، وفرحاً بحسن موقعه.

فإن تك أسرار المعاني خفية * * * فمرآتها أفكار كل نبيهِ

تصفحته من أوله إلى آخره قراءة فاحصة في ليال سبع فألفيته كنسيم الأسحار على صفحات الأنوار, ووجدته أحلى من ريق النحل، وأذكى من المسك, وأجمل من الدر والعقيان في نحور الحسان، وأزكى من مسيس الريح بين الورد والريحان.

فيه السحر الحلال، والمعين الزلال، والبرود والحبر، والحكم والعبر، كتاب مرقوم, ورحيق مختوم, تنفس بفرائده كما تنفس السَحَر عن نسيمه، وتبسم بفوائده كما تبسم اللؤلؤ عن نظيمه.

غمامٌ بماءْ المزن ينهل مزنه * * * وبحر بأصداف المكارم يقذفُ
يفسرُه تفسير حبر موفق * * * يسنى له فيض العلوم فيغرفُ

معانيه كأنفاس الرياح، تعبق بالشذا الفواح, نعيم بين يديك حاضر، وروض أمام عينيك ناضر. أقبلتُ عليه إقبال العطشان الوارد، على الزلال البارد, مجده شامخ، وفرعه باذخ، وهو سفر يشهد لمؤلفه بعلو المنزلة والمقدار، ولمصنفه بحسن الذوق والاختيار.

كشفتْ مبانيه عن لطيف معانيه، وأفصحتْ روائع ألفاظه الرائقة عن بدائع فصوله الفائقة، ولقد سررتُ عندما فتحته فكأنما أهديت إليّ محاسن الدنيا ملفوفة في ورقة، ومباهج الجمال مجموعة في طبقه, ما وقعت عيني على مثله من كتب المعاصرين، حق له أن يكتب في غرة الدهر، وصفحات التاريخ, ومن ظفر به فقد ظفر بالنعيم، ومن طالعه فقد همى عليه الغيث العميم, ومن فتحه فقد جاءه الفتح العظيم, يسقي روضة القلب، إذا أحاط بها الجدب، فهو نهر تقاطرت فيه عيون السحائب، وتحدرت عليه أنسام الرياح الجنائب, هو في الجمال روضة حسن، بل جنة عدن، وفي برد القلوب قميص يوسف في أجفان يعقوب.

يحتوي سحر البيان، وقطع الجنان, معانيه تتفتح كالزهر، رقت نواحيه وجملت ألفاظه ومعانيه, تشتاقه القلوب اشتياق البلد القفر لصوب القطر, والروض الممحل للغيث المسبل.

ينتقل من فصل إلى فصل ويحكم الربط الوصل, يشتد في بعض تفريعاته حتى تقول الصخر الأملس، ويلين في لطائفه حتى تقول الماء أو أسلس, والمفسرون المحسنون من عصر الصحابة إلى اليوم نسب المجد بهم عريق، ومحراب الشرف لهم صديق، وقلم الثناء بفضلهم نطوق, الأدب حشو ثيابهم، والعلم ملء إهابهم، للعيون في محاسن وجوههم مرتع، وللأرواح بتفاسيرهم مستمتع, ومن لم يفتح مفاتيح الغيب, ويستضيء بالكشاف, وينهل من تفسير ابن جرير وابن كثير, ولم يحرر من زمانه للتحرير, ولم يستبصر بالمنار, ولم يعش في ظلال القرآن فإن في هذا السفر كفاية :

لئن فاتنا وصلٌ بمنزل خيفهم * * * فها نفحةٌ من عُرفهم للحشا أشفى
وهاذيك أنفاسُ الرياض تنفست * * * بريّاهُم فاستشفينَّ بها تُشفى
وقُل للأُلى هاموا اشتياقاً لبابِهم * * * هلموا لعرفِ البانِ نستنشقُ العرفا

قُدتَ العبارات بألين زمام، حتى خِلتُ كأن أعناق الجُمَل تتحاسد في التسابق إلى أناملك، والمعاني تتغاير في الانثيال على خواطرك.

أضحت مواردكَ الشهية في الورى * * * مورودة إذ طابَ منكَ المشربُ

ومن طالعه فقد متع طرفه بمحاسن لفظه، ونال منه أوفر قَسم المستفيد وحظه. تفسير حق أن يكون فخارا لأهل اليمن, طيلة الزمن, وأن يعلق على كعبة المجد, ومفرق الدهر, وأن يُحكم له بالإعجاز والتبريز، لشبهه صفاء الذهب الإبريز, ولأن فيه من تقعيدات العلماء، ما أغفلها القدماء، ومن الكنوز النوادر ما تفرد بها الأواخر.

اقتطفتَ فيه من حدائق التفسير أزهاراً، ومن مسك العلوم نثارا, فجاء جميل العيون، بديع المتون, كالتبر المسبوك، والوشي المحبوك, يفيض بالأنوار, ويدنو بالثمار, خفيف الحواشي، بديع النواحي.

إن هذه البصائر في تقعيدها وتفصيلها ذكرتني بكتابات ابن الوزير صاحب العواصم والقواصم وكنتُ أقول في نفسي دائما وأبدا وهل سيأتي من يكتب كابن الوزير فلما تصفحت الكتاب وجدت ما كنت أبحث عنه من زمن في كتابات أهل اليمن فهو دوحة ثبت أصلها, وسما فرعها، وحسن عودها، واعتدل عمودها، وتفيأت ظلالها، ودنت ثمارها، وتفرعت أغصانها، وطاب مقيلها.

ولا زالت اليمن ولادة للعلماء المفسرين والعباقرة المنتجين وعلى درب ابن الوزير وابن الأمير, والكوكباني والشوكاني من يهفو لقمة المجد وينسج قلائد الحمد وكاتب هذه البصائر ممن تأتلف القلوب على درره ائتلافا، وتصير الآذان لدروسه التدبرية أصدافا, والتفسير ميدان رحب لا يقطع إلا بنوابغ الأذهان، ولا يدرك إلا ببصائر البيان.

هذي البصائرُ للحياةِ منائرٌ * * * تَهدي الحيارى للطريقِ الأقومِ
فيها معينٌ سلسلٌ متدفقٌ * * * فيها الحياةُ لُكل فرد مُسلمِ
فيها الرحيقُ العذبُ لا تعدل بهِ * * * فيها الصبابةُ للمحبِّ المُغرمِ
فيها الضياءُ المستبينُ لأمتي * * * من كلّ دربٍ في سماها مُظلمٍ
فيها الفتوحُ وغَيثُ ديمٍ قد همى * * * يشفي القلوب وتَشْتفي من بَلسمٍ
فيها الثيابُ تلألأتْ من سندسٍ * * * خُضْرٍ يُشعشعُ نورُها كالأنجُمِ
فيها النّمارقُ رتّبتْ مصفوفةٌ * * * وفُصولُها صِيغت بِلفظِ مُحْكَمٍ
فيها سَبائكُ عَسْجدٍ لو حُزتَها * * * مَجّدتَ ربك ذا الجَلالِ الأعظم
نــورٌ على نورٍ تلألأ زاهيا * * * وعقودُ دُرٍ أو خبــايــا مَنْجَــمِ
ولقد تَفَرَدَ حُسنُها فمُقامُها * * * عالٍ, مُقبلُها لذيذُ المَطْعَم
ولقد سَرتْ حتى تجاوزَ سيرُها * * * هامَ الثريا, للمَعالي تَنْتَمي
وجُذورها ثَبتت فبوركَ أصلُها * * * وقطوفُها تَدنو لكلّ مُسَلّمِ
هاتوا بصائرَ مثلها قد سُطِّرت * * * في عصرنا أو في الزمانِ الأقدمِ
من فرطِ قُوتها تكادُ إذا ارتقتْ * * * فوقَ المنابرِ أن تصول كضيغمٍ
ولسَبكِها وجَمالِها ودَلالِها * * * مثل العقيقِ إذا بدا في المِعْصَمِ

شيخنا الأستاذ الدكتور عبدالسلام المجيدي سلمك الله ورفع مجدك لقد سلكت طريق السداد، فبلغت بكتابك فوق المراد, بلغك الله تعالى أمانيك، وكبت حاسدك وشانيك ومزيدا من هذه البصائر القرآنية والكنوز البيانية والفتوح الربانية التي تفتح النفس وترتقي بالأمة.. وتقبل خالص تحياتي وتقديري.

✍🏼 تلميذكم/ عامر الخميسي
الخرطوم 29 جمادى الآخرة1440هــ.
الموافق 6 مارس 2019م


الكلمات المفتاحية: بصائر المعرفة القرآنية