نعم الله تعالى كثيرة لا تعد ولا تحصى ولكن أمهاتِ النعم الكبرى التي يربي الله سبحانه وتعالى عباده بها ، وهي النعم التي لا يمكن أن يدعيها أحد خمس:


الأولى: نعمة الإيجاد، فهو الذي أنشأهم من العدم بالخلق والإيجاد، فاسمع ذلك من الله -تعالى جدُّه- إذ يقول: {وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا} [مريم:9]، والناس كانوا عدمًا، والمعدوم كالميت، فجعل الله فيه الحياة: {كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ} [البقرة :28].

الثانية: نعمة الإعداد، حيث جعل الله هذا الخلق في أحسن الهيئات، وأعطاه أجمل المواهب والملَكات: {لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ} [التين:4]، فربَّاهم سبحانه بعد الإيجاد بالإعداد بالحواس اللازمة ليتعلموا، وبذا انتقل العبد من العجز إلى القدرة، ومن الجهل إلى العلم من خلال أدوات التعلم الأساسية العظمى وهي السمع والبصر والفؤاد، واسمع إلى وصف ذلك مباشرة من المصدر المعرفي الأعظم حيث يقول -تقدست أسماؤه-: {وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا}، فهذا هو الإيجاد، {وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ} وهذا هو الإعداد.. وكلاهما يوجبان الشكر {لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [النحل :78].

وهاهنا سأتحفك بملحوظةٍ مدهشةٍ في البيان القرآني، فإن الله إذا أراد من عباده (تكوين المعرفة) يُقَدِّمُ السمع والبصر على الفؤاد؛ لأنهما بوابتا الفؤاد اللتان يحلل من خلالهما الأمر إلى أجزائه الحقيقية، وأما إذا ذكر (سلب المعرفة) وعدم الاستفادة من أدوات التعلم (السمع والأبصار) فإنه يقدم ذكر القلب أو الفؤاد المصاب بمرض الغفلة القاتل للتميز الإنساني، وتأمل ذلك ببصيرةٍ نافذةٍ، ونظرٍ دقيقٍ في قول ذي الملكوت والجبروت: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ} [الأعراف: 179].

الثالثة: نعمة الإمداد، فتربيته للعالمين بعد الإيجاد والإعداد بالإمداد؛ فكيف يكون الإمداد؟ لقد سخر الله لهم البيئة والمواد الكونية، لعلهم يُعمِلون العقول المفكرة في تحويل التسخير في حياتهم إلى التطوير والتعمير {وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [الجاثية:13]، ومن هذه المواد الكونية ترى النعم التي يتغذى بها العالَمون، وعليها يعيشون وينامون {الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ [البقرة:22].

ومن هذه النعم ما ذكره ذو المجد والكرم، وهو يُذِّكر البشرية عناصر الإمداد في قوله تعالى: {وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا} [نوح:12].. إنه الله الذي ربى الإنسان بالإيجاد من العدم، وبالحماية من الخللِ والظُلَمِ والألم، وحماه بالعدل، وغذَّاه بالنعم، وأعده بالعقل ليميز الحق من الباطل، والشكر من الكفر {إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا (3) إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَلَاسِلَ وَأَغْلَالًا وَسَعِيرًا (4) إِنَّ الْأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا} [الإنسان:3- 5]، وأمده بالفضل والكرم ليبني بالتفكير والتعقل والتدبير ما يجتاز به الاختبار الدنيوي نحو النعيم الأخروي. وإذا كان الله قد جعل أساس وجود الإنسان بلا اختيارٍ من الإنسان، فقد جعل له الاختيار في سلوك الطريق بعد أن يعلم أن الكون لا يمكن أن يَسعد إلا إذا جرى وَفق البرنامج الذي فطره الله عليه.

الرابعة: نعمة الإيفاد، أي إيفاد الرسل إلى الخلق بالهداية للتفريق بين الغي والرشاد، والترغيب في الاستعداد لدار المعاد {رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا} [النساء: 165]، والرسل جاءوا بالتكاليف الشرعية ليعرف العالمون كيف يديرون حياتهم وفق أمثل البرامج، فكل أمرٍ شرعيٍ نزل فهو لنفع العباد رحمةً بهم، ورعايةً لمصالحهم، وقد بين الله ذلك تفصيلًا في آياتٍ كثيرة، ويجمع تلك الآيات المتعددة المعاني هذه الآية الكلية المجيدة {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء:107]

الخامسة: نعمة الإرشاد أي الإرشاد التوفيقي، فالنعم السابقة نعمٌ عامةٌ تشمل جميع الخلق، وتبقى نعمةٌ خامسة تختص بالمؤمنين، وهي نعمة التوفيق والإلهام للحق والرشاد، حيث وفق المؤمنين، واختصهم فسبقت لهم منه الحسنى، وأكرمهم بسلوك طريق العابدين، وأخرجهم من طُرُقِ الضالين {وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [البقرة:105]، وهذا التوفيق العزيز يرتبط بمدى قبول العبد لذكرى وافد ربه() واستعماله للأدوات التي أعدها الله فيه استعمالًا صحيحًا {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ} [ق:37]، وإقباله على ذكر مولاه {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ} [البقرة: 152]، ولذا أوصى الله النبي صلى الله عليه وآله وسلم أمته أن يقول الواحد منهم: ((اللهم قني شر نفسي، واعزم لي على أرشد آمري)).

وَالْعَبْدُ انْتَقَلَ مِنَ الْعَدَمِ إِلَى الْوُجُودِ، وَمِنَ الْمَوْتِ إِلَى الْحَيَاةِ، وَمِنَ الْعَجْزِ إِلَى الْقُدْرَةِ، وَمِنَ الْجَهْلِ إِلَى الْعِلْمِ، ومن الضلال إلى الهداية، لأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى هو الأول الذي ليس قبله شيء، فَبِقُدْرَتِهِ، وَعِلْمِهِ خلقه الله وَنَقَلَهُ إلى هذه الأحوال، ولذا وجب أن يُسَلِّمَ له، وقد عرف ذلك نخبة البشر، وصفوتهم كإبراهيم عليه السلام حيث قال: {أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [البقرة:131]، وباختيار الهداية تكتمل التربية العظيمة من الله لعباده، فهو الذي ربى نفوس العابدين بالتأييد، وربى قلوب الطالبين بالتسديد، وربى أرواح العارفين بالتوحيد، وكل ما في الكون فهو قائمٌ على أساس التربية، ولذا ربما رأى الخلق بعضًا منهم نقص خلقهم عن الخلقة السوية في أجسادهم أو عقولهم، فنُرجع ذلك إلى التربية أيضًا: فتربية مستقيم الخِلْقة على الشكر، ومعرفة أن الكون بيد الله؛ يبسط ما يشاء لمن يشاء. وتربية ناقص الخِلْقة على الصبر؛ إذ لم يُهنه ربه وإنما ابتلاه، وسيعوضه في اليوم الحق عما حدث له إن صبر ولم يجزع، ولم يقل قول من حكى الله عنهم التضجر في قوله: {وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ} [الفجر :16].


الكلمات المفتاحية: سور الفاتحة