التقسيم الحقوقي في سورة الفاتحة
28 أغسطس، 2021
622
أ. د. عبد السلام المجيدي
لعلك تظن أن هذا التقسيم معاصر باعتبار التقدم الحضاري وميل العالم الحديث إلى استكشاف الصورة المشرقة للنص القرآني، ولكن الحقيقة أن أَوَّلَ من حدَّد البعدَ المقاصدي للفاتحة المباركة هو النبيُّ صلى الله عليه وآله وسلم؛ حيث ذكر أن الله -تعالى مجده- قَسَمَ الفاتحةَ قسمين، ونلمح الثالث بينهما، وهذه الأقسام الثلاثةُ جاءت مرتبةً ترتيبًا منطقيًّا أضفى الجمال البياني والواقعي بصورةٍ مدهشةٍ:
فأما القسم الأول: فلبيان صفات الحقِّ -تعالى ذكره- ويترتب عليها معرفة حقوقه: وهي تتلخص في الثناء على الله الذي يرجع إليه التوحيد والتمجيد، والتربية، والرحمة، والعدل، والفضل، وهذا معنى (معرفة الحق لتقديسه وتعظيمه)، ونجد ذلك في الآيات الأربع الأُول من السورة، ولذا يجيب الله على من يقرؤها: (حمدني عبدي، أثنى عليَّ عبدي، مجَّدني عبدي، أو فوَّض إليَّ عبدي).
وأما القسم الثاني: فلبيان حقوق الخلق: وكلُّها ترجع إلى الحقوق الإنسانية المكتسبة بالـمِنَحِ الإلهية حيث يجدون التربية الإلهية، ويطلبون الهداية إلى صراط السعادة الأبدية، ويدل على هذا القسم الآيتان الأخيرتان {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6) صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ}، وفي ضوء الشمول التام للمجالات الحيوية التي ذكرها القرآن زمانًا ومكانًا وأسلوبًا تتفرع هذه الحقوق إلى غايتين:
– الغاية الأولى: إصلاح الواقع الحاضر، أي إصلاح الأوضاع الحيوية التي فيها معاش الخلق بالعمران الفردي والجماعي، وهذا الإصلاح يقيمه منهاج العبادة التوحيدي بما تضمنه من نظمٍ تشريعيةٍ {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5) اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6) صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ} [الفاتحة:5-7]، فهو يوضح البناء العملي القائم على الأساس الفكري الصادق للحياة، ويُستكملُ من خلال معرفة أحوال السعداء والأشقياء وقصصهم.
– الغاية الثانية: إصلاح المستقبل القادم، وهو المعاد (يوم الدين) الذي يكتمل فيه الاستقرار الحياتي النهائي للمخلوقين، وتُـحَقق فيه العدالة الكاملة غير المنقوصة حيث {تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ} [البقرة:281].
ثم يأتي القسم الثالث الذي يبين الحقوق المشتركة بين الحقِّ -جلَّ مجده- وبين الخلق، ويُعَبِّرُ عنها قوله تعالى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:5]، فالإصلاح للواقعين (الحاضر والمستقبل) يتم بالعبادة التي تعني التطهير للنفوس الإنسانية من السيئات، والتنمية لها بالأعمال الصالحات العلمية والعملية من خلال (معرفة الخير للعمل به)، وهي وظيفة ذاتية يقوم بها الإنسان لنفسه يرسم تفاصيلها القرآن المجيد، وهي وظيفة التزكية التي إحدى الوظائف النبوية الثلاث.
فتوسطت هذه الآية الدستورية سورةَ (الفاتحةِ) لتكشف إعجاز الترتيب البياني القرآني، فهي بين الله وبين عبده، لذا قال الله: ((هذا بيني وبين عبدي، ولعبدي ما سأل))، فمن العبد العبادة، ومن الله الإعانة، فتكون هذه الآية {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:5]ميزانًا للحقوق العامة في الكون: حقوق الخالق، وحقوق الخلق.
ولعل استشعار ضخامة المعاني في هذه الآية حمل سفيان الثوري على البكاء عندها، فعن مُزَاحِم بْن زُفَرَ، قَالَ: ” صَلَّى بِنَا سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ الْمَغْرِبَ، فَقَرَأَ حَتَّى بَلَغَ {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:5]بَكَى حَتَّى انْقَطَعَتْ قِرَاءَتُهُ، ثُمَّ عَادَ فَقَرَأَ: {الْحَمْدُ لِلَّهِ} [الفاتحة:2] ().
إن استشعار تلك المعاني الثرية للفاتحة حرك المشاعر الصادقة، فأحرق همُّها وهِمَمُها أوقاتها فيما يرفعهم في درجات الفردوس، ويمنحهم مراتب القرب كما قيل:
منع القرآن بوعده ووعيده … مقل العيون بليلها أن تهجعا
فهموا عن الملك الجليل كلامه … فرقابهم ذلت إليه تخضعا
ظهر بذلك أن الفاتحة دائرة بين حقوق الخالق -تعالى جَدُّه-، وحقوق الخلق؛ فالخطاب القرآني: له مصدرٌ هو الله تبارك وتعالى، فذلك طرفه الأول، وطرفه الثاني هو الإنسان الموجَّه له هذا الخطاب، وميدانُ تنفيذ هذا الخطاب الكوني والشرعي هو الكون المخلوق، والكون المخلوق جزءٌ منه معمورٌ يـُختَبرُ الإنسان في عدم إفساده، وجزءٌ منه غير معمورٍ، يـُختبَر الإنسان في عمرانه، فصارت الأهداف: الثاني والثالث والرابع هي التزكية والعمران الحاضر والمستقبلي، ومعرفة ما يترتب عليهما، وهذا التقسيم لطرفي الخطاب القرآني هو الذي أشار إليه النبي صلى الله عليه وآله وسلم في حديث أبي شريح الخزاعي قال: خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: ((أبشروا وأبشروا، أليس تشهدون أن لا إله إلا الله، وأني رسول الله؟!)) قالوا: بلى. قال: ((فإن هذا القرآن سبب طرفه بيد الله وطرفه الآخر بأيديكم فتمسكوا به فإنكم لن تضلوا ولن تهلكوا بعده أبدا)).
وبهذا التقسيم الحقوقي النبوي للفاتحة المباركة يُشرِقُ لقلبك أنها منحةٌ إلهيةٌ تُظْهِرُ عَظَمةَ الربوبية، وفي الوقت ذاته يكشف هذا التقسيم أن القرآن المجيد نزل لرعاية البشرية، وبيان حقوقها، وتوضيح واجباتها، فالتوحيد، والأحكام العبادية الشاملة لأركان الإسلام، والأخلاق الشرعية، والمعلامات الإسلامية، والتشريعات الجنائية، والأحكام الاجتماعية والاقتصادية كُلُّها حقوقٌ إلهيةٌ إلا أن حقيقتها أنها تمثل الأنظمة الوحيدة الكفيلة بتحقيق المصالح الإنسانية، وهذا مَا جلَّاه الله مرارًا، فقَالَ تَعَالَى: {إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا} [الإسراء:7].. ترى ماذا يكون الرأي فيمن يحاول الحيلولة بين الإنسانية، وبين حقوقهم الحقيقية بالتزييف والترغيب والترهيب والتعنيف؟ فلماذا عن مصالحهم الحقيقية يفرون؟ {فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ (26) إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ} [التكوير:26،27].
وبذا نرى أن الصياغةَ القرآنيةَ في (الفاتحة) المباركة لا يمكن أن تُقارَن بها كلُّ الصياغاتِ الدستورية الأرضية؛ إذ أبانت التقنينَ الحقوقي في قالب الابتهال، وأوضحت طبيعةَ الوجود العالمي في هيئة كلامٍ متلوٍّ يملأ النفس بالجمال والجلال، فلله! كم درَّت هذه الآيات من معاني الأشواق، وبثت في النفوس من الإشراق، وملأت بالطمأنينة الآفاق، وأدرجت في طياتها من المواد القانونية والأخلاقية التي تُنَظِّمُ الحياة الأرضية، وتحيط الحياة البشرية بالأنوار الإلهية.