الله تعالى يتحدث عن نفسه إلى عقول خلقه
3 أكتوبر، 2021
1616
لعل من أهم الأسئلة التي تدور في بال الإنسان كيف أعرف الله تعالى؟ وما الطرق التي تدلني عليه؟ وإذا كان السؤال مهما فإنك ينبغي أن تعلم أن الله قد أجاب عليه في الآية الثانية من الفاتحة بكلمة واحدة هي (العالمين).
وقد سبق أن بينا في مقال سابق معنى العالمين ودلالتهم على الربوبية والألوهية، ونحن اليوم نتكلم عن المعرفة من خلال خطة رباعية، فإن معرفة (العالمين) وهم المخلوقات تؤدي إلى معرفة أفعال الخالق، ومعرفة أفعال الخالق تؤدي إلى معرفة صفاته، ومعرفة صفاته تؤدي إلى معرفة ذاته أي معرفته سبحانه وتعالى: فهو سبحانه وتَعَالَى يتحدث عن نفسه إلى عُقُولِ الْخَلْقِ على أربع مَرَاتِبَ:
المرتبة الأولى: يَتَجَلَّى سبحانه وتعالى للخلق بآيَاتِهِ، ومن آياتِه العالمون من مخلوقاتِه، ويدخل في ذلك تفصيلًا مثل قوله –عزَّ مجده {وَمِنْ آيَاتِهِ الْجَوَارِ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَام} [الشورى:32]، {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ} [آل عمران:190].. هل يمكن لهذه المخلوقات أن تقوم وحدها؟ هل يمكن أن تستغني عن ربٍّ يوجدها ويقوم عليها حفظًا ورعاية؟
حاول جوليان هكسلي أن يثبت ذلك فألف كتابه (الإنسان يقوم وحده) Man Stands Alone أي أن الإنسان لا يحتاج إلى رب، فيمكنه أن يقوم وحده، فرد عليه كريسي موريسون الرئيس السابق لأكاديمية العلوم بنيويورك، ورئيس المعهد الأمريكي لمدينة نيويورك، وعضو المجلس التنفيذي لمجلس البحوث القومي بالولايات المتحدة بكتابه: (الإنسان لا يقوم وحده Man Does Not Stand Alone يثبت فيه أن الإنسان لا يمكن أن يقوم وحده بل يعتمد في وجوده على رب العالمين..
وهنا تدرك عظمة الحوار المنطقي المدهش الذي اكتنزته آيتا سورة الطور لبيان افتقار العالمين إلى ربهم {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ (35) أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بَلْ لَا يُوقِنُونَ} [الطور: 35، 36].
المرتبة الثانية: آياته تؤدي إلى معرفة أفعاله، فإنه لا يمكن لأحدٍ عنده عقلٌ أن يقول: إن السيارة أوجدت نفسها، أو أن الهاتف اجتمعت أجزاؤه دون وجود فاعلٍ صنعه في أجمل تصنيعٍ، وأكمل تجميع، وكذلك العالمون دليلٌ على فعلٍ لفاعلٍ خلقهم وأوجدهم في أحسن تقويم {وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا} [آل عمران:191]
أرأيت عاقلًا يزعم أن الأعداد عبارة عن تراكم أصفار؟ والصفر لا ينتج شيئًا.!! أرأيت عاقلًا يزعم أن كل شيء بُنِيَ من لا شيء؟ إن كل شيء مفتقرٌ إلى مُنشئِه، والله الأول بلا ابتداء هو الذي أنشأ كل شيء.. ولذا قال بعض العارفين: كيف يستدل عليك من هو في وجوده مفتقرٌ إليك. إنها العلاقة الاحتياجية بين الكون المحتاج للإنشاء والتربية وبين الله القوي المقتدر.
المرتبة الثالثة: آياته وأفعاله تؤدي إلى معرفة صفاته التي اتصف بها.. فهو الذي أتقن كل شيء لأن له القدرة المطلقة والخبرة والعلم {صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ} [النمل:88]، وهنا سنذكر المثل الذي ذكره كريسي موريسون في مقدمة كتابه: الإنسان لا يقوم وحده.. لننظر كيف تدل المخلوقات على صفات الخالق –جل مجده-:
فقد حكى أن رجلًا يقال له بالى PALEY ضرب مثلا من تأثره من وجود ساعة يد في طريقه، وقال: إن جهازها الدقيق أقل سببًا للعجب بمراحل، من دلائل عديدة على دقة التصميم في الطبيعة، ودعاه ذلك إلى أن استرعى الأنظار إلى أن مثل هذه الأداة تثبت لأكثر الناس شكا، أن هناك عملية ذهنية طبقت على الميكانيكا، ثم قال: إننا لو فرضنا أن هذه الساعة قد منحت القدرة على إيجاد ساعات أخرى، فإن ذلك لا يكون معجزة تفوق معجزة توالد الإنسان والحيوان!
وبلغ من مدى هذا التعليل والاقتناع به أن أفرد مبلغ 000ر48 دولار للجمعية الملكية البريطانية لتقوم ببحوث في مختلف ميادين العلم، لتثبت بها بشكل قاطع، وجود الله. وكانت النتيجة نحو اثني عشر مجلدا كتبها أعضاء تلك الجمعية وآخرون غيرهم. وقد بينت هذه الدراسات، بشكل حازم في الظاهر، وجود تصميم في الخلق، ودلت فلاسفة ذلك العهد على وجود رب العالمين.
المرتبة الرابعة: صفاته تدل على ذاته -جل في علاه-.. وهكذا كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يُعَلِّم العالم أدلة وحدانية الله وأحديته وإلهيته بسهولةٍ ووضوحٍ مستعملًا الأدلة المنطقية المباشرة في العالمين للدلالة على ربهم {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ (9) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا وَجَعَلَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [الزخرف: 9،10]،
ألا ترى أنه من الطبيعي -بعد ذلك- أن يخاطب الله العقول البشرية فيقول: {وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلَا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} [فصلت:37].
ومن أبلغ البيان على المراتب الأربعة ما جاء في قوله تعالى: {فَانْظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَتِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِي الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [الروم:50]، فآثار رحمة الله هي آياته الكونية من حياة الأرض، وغيث الناس، والمخلوقات كالأرض والناس هم من العالمين، وهم نتاج الأفعال {يُحْيِي الْأَرْضَ}، وهذه الآيات وتلك الأفعال عرَّفت بالرحمة والقدرة على كل شيء، والرحمة عرَّفت بالذات وهو (الله) سبحانه وتعالى.