الفاتحة تكشف عن أسباب مآسي العالم
12 أكتوبر، 2021
1600
ألم يأتك نبأ القرآن المجيد إذ يظهر لك المعاني المتعددة من خلال حرفٍ واحدٍ أو حرفين؟ تأمل {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ} فإن تغاير النفي يبين اختلافًا واتفاقًا بين الفئتين، مما يكشف لنا طبيعة التحالفات ضد أهل الصراط المستقيم، لقد فهمنا هذه البصيرة من الدقة العجيبة للتعبير القرآني حيث التغاير بين أداتي النفي في قوله تعالى: {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ}، إذ نلحظ أن الله تعالى نفى طريق المغضوب عليهم بأداة النفي (غير) في قوله {غير المغضوب عليهم}، ونفى طريق الضالين بأداة أخرى هي (لا) فقال: {ولا الضالين}، فلم يقل: (غير المغضوب عليهم وغير الضالين أو غير المغضوب عليهم والضالين)، وهذا التغاير في استخدام أداة النفي أمرٌ مدهشٌ يفتح آفاقًا في استنباط الفرق بين التعبيرين، فمما يستنبط من ذلك أن (لا) تحقق الوظيفتين الآتيتين:
الوظيفة الأولى: بيان عَظَمة الصراط الذي يسير عليه الـمُنعَم عليهم؛ ولذا أكَّد النفي بكلمة (لا)، وقد تقول: كيف ذلك؟ يبين ذلك قول بعضهم: (لا) زائدةٌ، وليست زائدةً بمعنى أنه لا وظيفة لها.. بل لها وظيفة رائعة، هي: بيان إرادة شدة التوكيد بإضافتها، فكأنه أراد أن يقول: غير المغضوب عليهم والضالين، ولكن لغرض شدة التوكيد أضاف {لا} قبل الضالين، وبذلك أيضًا يتم الـمحافظة على لغةٍ عربيةٍ صحيحةٍ، حيث يُدخِلُها بعض عرب اليمن على الإثبات، لا لنفيه، بل لقصد توكيده توكيدًا مُشعِرًا بقوة المعنى، كما قال تعالى: {قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ} [الأعراف: 12] يريد أن تسجد، وكما قال الأحوص:
ويَلحيننِي في اللَّهْوِ أن لا أُحِبَّه … وللَّهْوِ داعٍ دَائِبٌ غَيرُ غافل
يـريـد: وَيـلـحـيـنـنـي فـي اللهو أن أحبه، ومثله قول جرير:
ما كان يَرضَى رسول الله فِعلهُمُ … وَالطَّيِّبَان أبو بكرٍ ولا عُمرُ
الوظيفة الثانية: ليبين الاختلاف والاتفاق بين المغضوب عليهم والضالين: فأما الاختلاف بين الجهتين فيدل عليه الإتيان بأداة نفيٍ مختلفةٍ لكل من الفريقين؛ وهذا من جواهر اللغة القرآنية؛ إذ يسير المغضوب عليهم في طريقهم عارفين بالإجرام الرهيب الذي يسببونه للعالم كحال إمامهم إبليس، أما الضالون فما أكثر من يحسب منهم أنه يحسن بإجرامه صنعًا، وما أكثر ما يعرضون عن الحق وهو أمامهم ظانين أنهم على الصراط المستقيم، فلا يتوبون ولا هم يذكرون.
وأما الاتفاق فلأنه لو كان التعبير (غير المغضوب عليهم وغير الضالين) لتوهم السامع أن المغضوب عليهم والضالين أمتان لا تلتقيان، والأمر ليس كذلك، بل هما يلتقيان في أمور مشتركة كثيرة، بل يشتركان في كثيرٍ من الصفات، ولكن بقدرٍ مناسبٍ لكلٍّ منهما، فالمغضوب عليهم ضالون، والضالون مغضوب عليهم مع غلبة أحد الوصفين أحيانًا، وهما يلتقيان عند العمل الجماعي المشترك بينهما في محاولة إخراج الـمُنعَم عليهم من دائرة الإنعام إلى دائرة الغضب والضلالة، يشير لذلك عطف فريق (الضالين) على (المغضوب عليهم) لكأنهما سلكا في نظم واحد لقيامهما بمهمة واحد ودور واحد.
إن مآسي العالم المعاصر سببها الخرافات التي تحكم عقول المغضوب عليهم والضالين، لأن الله تعالى أنزل الكتب، وفي مقدمتها القرآن والتوراة والإنجيل، لينظم حياة الناس، ويزكي عقولهم وقلوبهم وحياتهم، ولكن تحريف كلامه يؤدي إلى تكوين نفسيات مريضة تبغي الحياة عوجًا، ثم يصبح بعضها قيادات للمغضوب عليهم وللضالين، فيتلاعبون بما أنزل الله في القرآن والتوراة والإنجيل وسائر الكتب، ويصنعون خرافات يفسدون بها الأرض والإنسان، وخذ مثال ذلك في قصة وردت في سفر التكوين توهم أن الحسد الباطل مشروع، وألا بأس بالاحتيال والخداع والكذب للحصول على البركات الإلهية:
“(27: 1) وحدث لما شاخ إسحاق، وكلت عيناه عن النظر أنه دعا عيسو ابنه الأكبر وقال له: يا ابني فقال له: هأنذا
(27: 2) فقال: إنني قد شخت ولست أعرف يوم وفاتي
(27: 3) فالآن خذ عدتك جعبتك وقوسك واخرج إلى البرية وتصيد لي صيدًا
(27: 4) واصنع لي أطعمة كما أحب وأتني بها لآكل حتى تباركك نفسي قبل أن أموت
(27: 5) وكانت رفقة سامعة إذ تكلم إسحاق مع عيسو ابنه، فذهب عيسو إلى البرية كي يصطاد صيدًا ليأتي به
(27: 6) وأما رفقة فكلمت يعقوب ابنها قائلة: إني قد سمعت أباك يكلم عيسو أخاك قائلًا
(27: 7) وأتني بصيد واصنع لي أطعمة لآكل، وأباركك أمام الرب قبل وفاتي
(27: 8) فالآن يا ابني اسمع لقولي في ما أنا آمرك به
(27: 9) اذهب إلى الغنم وخذ لي من هناك جديين جيدين من المعزى فأصنعهما أطعمة لأبيك كما يحب
(27: 10) فتحضرها إلى أبيك ليأكل حتى يباركك قبل وفاته
(27: 10) فتحضرها إلى أبيك ليأكل حتى يباركك قبل وفاته
(27: 11) فقال يعقوب لرفقة أمه: هوذا عيسو أخي رجل أشعر، وأنا رجل أملس
(27: 12) ربما يجسني أبي فأكون في عينيه كمتهاون، وأجلب على نفسي لعنةً لا بركةً
(27: 13) فقالت له أمه: لعنتك علي يا ابني. اسمع لقولي فقط واذهب
(27: 14) فذهب وأخذ، وأحضر لأمه، فصنعت أمه أطعمة كما كان أبوه يحب
(27: 15) وأخذت رفقة ثياب عيسو ابنها الأكبر الفاخرة التي كانت عندها في البيت، وألبست يعقوب ابنها الاصغر
(27: 16) وألبست يديه وملاسة عنقه جلود جديي المعزى
(27: 17) وأعطت الأطعمة والخبز التي صنعت في يد يعقوب ابنها
(27: 18) فدخل إلى أبيه وقال: يا أبي. فقال: هأنذا. من أنت يا ابني؟
(27: 19) فقال يعقوب لأبيه: أنا عيسو بكرك، قد فعلت كما كلمتني، قم اجلس وكل من صيدي لكي تباركني نفسك.
(27: 20) فقال إسحاق لابنه: ما هذا الذي أسرعت لتجد يا ابني. فقال: إن الرب إلهك قد يسر لي
(27: 21) فقال إسحاق ليعقوب: تقدم لأجسك يا ابني، أأنت هو ابني عيسو أم لا؟
(27: 22) فتقدم يعقوب إلى إسحاق أبيه فجسه، وقال: الصوت صوت يعقوب، ولكن اليدين يدا عيسو
(27: 23) ولم يعرفه لأن يديه كانتا مشعرتين كيدي عيسو أخيه فباركه
(27: 24) وقال: هل أنت هو ابني عيسو فقال: أنا هو
(27: 25) فقال: قدم لي لآكل من صيد ابني حتى تباركك نفسي، فقدم له فأكل، وأحضر له خمرًا فشرب
(27: 26) فقال له إسحاق أبوه: تقدم و قبلني يا ابني
(27: 27) فتقدم وقبله، فشم رائحة ثيابه، وباركه، وقال: انظر رائحة ابني كرائحة حقل قد باركه الرب
(27: 28) فليعطك الله من ندى السماء، ومن دسم الأرض، وكثرة حنطة وخمر
(27: 29) ليستعبد لك شعوب، وتسجد لك قبائل. كن سيدا لأخوتك، وليسجد لك بنو أمك، ليكن لاعنوك ملعونين، ومباركوك مباركين
(27: 30) وحدث عندما فرغ إسحاق من بركة يعقوب، ويعقوب قد خرج من لدن إسحاق أبيه، أن عيسو أخاه أتى من صيده
(27: 31) فصنع هو أيضًا أطعمةً، ودخل بها إلى أبيه وقال لأبيه: ليقم أبي ويأكل من صيد ابنه حتى تباركني نفسك
(27: 32) فقال له إسحاق أبوه: من أنت؟ فقال: أنا ابنك بكرك عيسو
(27: 33) فارتعد إسحاق ارتعادًا عظيمًا جدًا وقال: فمن هو الذي اصطاد صيدًا وأتى به إلي فأكلت من الكل قبل أن تجيء، وباركته، نعم ويكون مباركًا
(27: 34) فعندما سمع عيسو كلام أبيه صرخ صرخةً عظيمةً ومرةً جدًا وقال لأبيه: باركني أنا أيضًا يا أبي
(27: 35) فقال: قد جاء أخوك بمكرٍ، وأخذ بركتك…”. القصة أطول من ذلك، والاختلاق واضح فيها.
قارن هذا الكلام الغريب على مقام النبوة مع قوله -تعالى عزه- {وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ (45) إِنَّا أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ (46) وَإِنَّهُمْ عِنْدَنَا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيَارِ} [ص: 45 -47]، إلا أن النص التوراتي المفبرك يوضح -بجلاء- النفسياتِ المعاصرةَ لمتطرفي اليهود والنصارى عندما يجمعون بين ما يظهرونه تدينًا، وبين شتى صنوف الإجرام والطغيان، وتوضح لماذا استنزلوا الغضب الإلهي، كما تبين أسباب ما آلَ إليه العالم من مآسٍ في ظل الهيمنة القيادية لهم.