الفاتحة تبين خريطة الحلفاء والأعداء ومخاطر هجر مبدأ التناصر
16 أكتوبر، 2021
1667
انظر لهذه الخطة القرآنية التي تفصلها الفاتحة في واقع الأمة الإسلامية! لقد فصَّلَ الله -تعالى جدُّه- في الآية السابعة من الفاتحة ﴿صِراطَ الَّذينَ أَنعَمتَ عَلَيهِم غَيرِ المَغضوبِ عَلَيهِم وَلَا الضّالّينَ﴾ [الفاتحة: ٧]
التقسيمَ العالميَّ الحقيقيَّ لواقع الناس بعيدًا عن حدود التراب والجنس ليستبين للأمة خريطة حلفائها وأعدائها، فأظهرت الآية أن العالم ينقسم إلى ثَلَاث أمم:
الأمة الأولى: الـمُنعَم عليهم، وهم المشار إليهم بقوله {أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ}.. فهم يشكلون الأمة، ويجب عليهم أن يتحالفوا، ويعقدوا أواصر الأخوة والتناصر فيما بينهم، وهم من الناحية الزمنية ينقسمون إلى فئتين:
الفئة الأولى
الذين مضوا على الصراط المستقيم، وهم القيادات العظيمة الذين اخضرت بهم العدالة في الأرض فازدهرت وأزهرت.. إنهم من قال الله تعالى عنهم وعن أمثالهم: {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} [الأنعام: 90].
الفئة الثانية
الذين يسيرون على منهج المتقدمين في صفاتهم وأفعالهم؛ فهم على آثار من سبقهم يسيرون، وبهداهم يهتدون، ويدخل فيهم اليهود والنصارى الذين مدحهم الله بقوله {مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ} [آل عمران: 113]، فهولاء هم الحلفاء الإستراتيجيون لإخوانهم من سائر الأمة الإسلامية، وعلى هذا فالآية توضح –بجلاءٍ- من ينبغي أن يتم معهم التحالف والتعاضد والتناصر.. تبين من ينبغي أن نقيم معهم المعاهدات الإستراتيجية، ونُنَسق المصير المشترك.
أتعلم -أعزَّك الله- ماذا يعني مخالفة مبدأ التناصر مع مَن أنعم الله عليهم؟ إن ذلك يعني أننا هجرنا أهم المقاصد التي أقامت صرحها الفاتحة، وذلك يؤدي إلى ترك أهم عوامل بقاء الإنعام الإلهي.. وماذا تتوقع عندما يسحب الإنعام الإلهي من الأمة؟ يضيع النجاح الفردي والفلاح الجماعي، وتكون النتيجة ما تراه اليوم مما (لست أذكره.. فقل خيرًا.. ولا تسأل عن الخبرِ).
الأمة الثانية: المغضوب عليهم، وبعضهم يمثل الصنف الأول من أعداء الأمة الإستراتيجيين، وبعضهم تائه يحتاج إلى من يأخذ بيده إلى الصواب.
الأمة الثالثة: الضَّالّونَ، وبعضهم يمثل الصنف الثاني من أعداء الأمة الإستراتيجيين، وبعضهم تائه يحتاج إلى من يأخذ بيده إلى الصواب.
وغالبًا ما يتم التنسيق والتحالف والتناصر بين المغضوب عليهم والضالين من خارج الأمة الإسلامية، ومن داخلها بغية تدمير الإسلام أو حصاره، وسترى التصريح التام بالتحالف بين فرق المغضوب عليهم والضالين في قوله -جلَّ مجده-: {لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [المائدة: 51]، وينضم إلى هذا الحلف الدنس من ينتمي إلى المغضوب عليهم والضالين من المنافقين الذين حذر الله الصف الإسلامي من ولائهم للمجرمين فقال: {بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (138) الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا} [النساء: 138، 139].
ومرجع هذه الفرق الثلاث إلى أصول المعاصي الثلاث مقاومةً أو استجابةً، وأصول المعاصي الثلاث: الهوى، والشهوة، والغضب، فالـمُنعَم عليهم جاهدوا هذه المعاصي وقاوموها، والمغضوب عليهم والضالون استجابوا وانقادوا لها.
وربما سألت الآن عن البصيرة القرآنية الفريدة التي أثارها تقديم (المغضوب عليهم) على (الضالين) في قوله تعالى {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ}.. إنها المعجزة القرآنية! سترى ملمحًا جديدًا من ملامح الإعجاز القرآني الفريد في بناء العقلية المسلمة: فسبب هذا الترتيب بين فرق الأشقياء في قوله -عزَّ ذكره-: {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ} أنه قدَّمَ ذِكْرَ القياديِ على التابع، وأبرز الأسوأ على السيء؛ فإن الضال المغضوب عليه أسوأ من الضال الذي لم يصل إلى درجة الغضب، إلا أن المغضوب عليهم غالبًا هم سادة الشر وقادته، أما الضالون فتائهون هائمون يقودهم المغضوب عليهم، وبعضهم يشعرون ولا يستطيعون التحرر بعد أن كبلتهم خطاياهم، وأوبقهم تواطؤهم على الإجرام، وبعضهم لا يشعرون.
والواقع العالمي يشهد بصدق الآية وبينتها المعجزة؛ فإن محرفي اليهود من أبرز فئات المغضوب عليهم، وينقاد لإجرامهم الضالون من متطرفي النصارى، والمنافقين، وبعض الذين في قلوبهم مرض من المسلمين، وإذا كان محرفو اليهود بمحافلهم السرية والعلنية يمثلون العقل المُدَبِّرَ؛ وتشاركهم جحافل من المنافقين؛ فإن الذي يمثل اليد الضاربة لهم هم حشود الضالين من النصارى والوثنيين والمنافقين وفرق الإجرام الباطنية وغلاة المبتدعة، ويساندهم -بوعيٍ أو بغير وعيٍ- ضُلَّال المسلمين.. إنهم الذين يسعون في الأرض فسادًا..
فهل صحت فيهم مقولةٌ تنسب إلى أحد قيادات الإفساد العالمي (الدكتور أوسكار ليفي) حين قال: “نحن اليهود لسنا إلا سادة العالم ومفسديه، ومحركي الفتن فيه وجلاديه”؟.. ألا إنه لا يكون محرفو اليهود سادةَ العالَم -وقد ضُربت عليهم الذِلة أينما ثُقفوا- إلا لأن حبل الله قد مُدَّ لهم، وسخر لهم حبل الناس ليبتليهم ويبتلي بهم الناس، وليتحقق فيهم الإعلان الإلهي: {إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا} [الإسراء: 7].