الفاتحة تبين لنا البناء الحقيقي والردع الوقائي
1 نوفمبر، 2021
541
لعل المسلم المتدبر يسأل ماذا تلاحظ في التعبير بالصيغة الجماعية في هذه الكلمات الثلاث في (الفاتحة) المباركة {نعبد، نستعين، اهدنا}؟ وأكثر الأشياء ظهورًا أنها وردت كلها بنون الجماعة، وتلاحظ أنها تدل على الجهد المقدم من قارئها لأنها أفعال يقوم بها. وهذا يبرز سؤالًا مهيِّجًا للفكر: لماذا وردت هذه الأفعال بنون الجماعة مع أن القارئ واحد؟
إنه أسلوب القرآن في غرس مبدأ الوحدة الإيمانية شعوريًا ونفسيًا، فاستحضر صورة المصلي -أيَّدك الله- وهو يقول: (نعبد، نستعين، اهدنا) هكذا بنون الجماعة، ولا تصح الفاتحة منه إلا كذلك.. لترى أنه عندما يفعل ذلك فإنه ينطق باسم الجماعة.. تخيل ذلك! كل فردٍ ينطق باسم الجماعة مما يمثل سلاح ردعٍ وقائيًّا لحماية الأمة ذات المصالح المشتركة المتعددة، فما بال كثيرٍ من المسلمين الآن يقرؤون (الفاتحة) ولكنهم يسارعون في خصومة إخوانهم ومُوادَّة أعدائهم؟
ثم انظر -بعد ذلك- إلى تلك الآيات المباركات التي يحويها القرآن المجيد، وتأمل بين يديك في النصوص النبوية، والأحكام التشريعية المستنبطة منها، وقلِّب فيها لترى بناءَ الحسِّ الجماعيِّ جزءًا أساسيًا من النظام العباديِّ الإسلاميِّ؛ فالصلاة ينبغي أن تكون في جماعة، وكلما كثرت الجماعة كان أحب إلى الله تعالى، فانظر أثر ذلك في بناء النبي صلى الله عليه وآله وسلم لنفسيات الأمة المنقذة للعالم حتى قال: (وإن صلاة الرجل مع الرجل أزكى من صلاته وحده، وصلاته مع الرجلين أزكى من صلاته مع الرجل، وما كثر فهو أحب إلى الله عز وجل).
وهل الزكاة إلا أحد أهم أركان النظام العبادي الاجتماعي الإسلامي؟ وهل المقصود منه إلا تغطية الاحتياجات الضرورية والحاجية لسائر المسلمين؟ والحجُّ.. ألا ترى أنه عبادةٌ جماعيةٌ تتدرب فيها قطاعاتٌ واسعةٌ من الأمة الإسلامية على العمل المشترك مع حفظ الأخلاق الجماعية، والمودة البينية {فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ} [البقرة: 197] ونقِّب في أتمِّ العبادات أجرًا خارج الصلاة -فيما عدا الفرائض العينية- لتجد أن الأتم أجرًا ما تعلق بصالح الجماعة، أي: ما كان نَفْعُه متعديًا.
ألا يأخذك الإعجاب بهذا النظام القرآني الفريد؟ إنك ترى عَظَمَة بناء النفس الإنسانية في التربية القرآنية وتلمس كيف تُضعِفُ التربية القرآنية النفسَ الفردية التي قد تحمل معنى الأنانية والذاتية والمصالح الشخصية؛ وتبني الشعور بالجماعة، وما يستلزمه ذلك من محبةٍ وتضحياتٍ وصبر، وفي قول الله سبحانه وتعالى: {إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء: 92]، يجمع الله بين توحيد الكلمة من خلال الجامعة التي تجمع أمة الإسلام، وكلمة التوحيد بعبادة رب الأنام، ولذا قيل: ادعوا الله بألسنةٍ لم تعصوا الله بها بأن يدعو بعضكم لبعضٍ، لأنَّك ما عصيت الله بلسان أخيك، وهو ما عصى الله بلسانك.
وكما تتكرر (الفاتحة) في قراءة المصلين؛ يتكرر قول المصلي في التشهد: (السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين)، لأهدافٍ رائعةٍ، منها هذا البناء للحس الجماعي. والنون أبلغ في الثَّناء من (أَعْبُدَ وَأَسْتَعِينَ) لا من حيث تعظيم المرء نفسه، بل من حيث تعدد من يثني على الله -تعالى ذكره-، لئَلَّا تخلو المناجاة عن ثناءٍ أيضًا بأنَّ المحمود المعبود المستعان به قد شهد له الجماعات وعرفوا فضله، وآمنوا بعظمته، واستقاموا في صفٍّ واحدٍ على طاعته، والتأمتْ قلوبهم على محبته.
ذلك كان شعاعًا من خبر بناء الحس الجماعي في النفسية المسلمة من خلال النظام العبادي الشعائري، أما النظام العبادي المعاملاتي بمجالاته: الاجتماعية، والسياسية، والاقتصادية فكلُّه تفصيلاتٌ تنظيمية لمبادئ الأمة الواحدة من السوق الاقتصادية المشتركة، إلى التحالفات السياسية، إلى الجيوش العسكرية الموحدة.
والآن تعال إلى التطبيق النبوي الفريد لترى أن الحس الجماعي الذي تبنيه آيات الفاتحة قد بناه النبي صلى الله عليه وآله وسلم في الواقع الحضاري للمسلمين عندما أسس لهم دولةً مستقلةً، وجعل من أهم المواد الدستورية فيها: ((المسلمون تتكافأ دماؤهم، يسعى بذمتهم أدناهم، ويجير عليهم أقصاهم، وهم يد على من سواهم، يَرُدُّ مُشِدُّهم على مُضْعِفِهم، ومُتَسَرِّيهم على قاعدهم)).
وبناءً على هذا الحس الجماعي الذي ترسم خطاه الأساسية (الفاتحة) المباركة نظر عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- إلى الأمة على أنها كتلة واحدةٌ زمانا ومكانًا، فقَعَّد للقوة الاقتصادية والحركة الاستثمارية فيها بما لا يؤدي إلى التفاوت المالي الضخم بين أفرادها، وقال: (أما والَّذي نفسي بيده لولا أن أترك آخر النَّاس ببَّانًا –أي: فقراء- ليس لهم شيءٌ ما فُتحت عليَّ قريةٌ إلَّا قسمتها كما قسم النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم خيبر، ولكِنِّي أتركها خزانةً لهم يقتسمونها)
ولأن الله تعالى أسس في الفاتحة المحكمات القطعية الأساسية لبناء الأمة الإسلامية، ومنها بناء حس الأمة الواحدة؛ فإن سور القرآن الكريم بعد (الفاتحة) مليئةٌ بتربية الحس الجماعي الإسلامي، وحسبنا أن نضرب مثلًا بأن الله ذكر مبدأ الأمة الواحدة باعتباره مادةً تعليليةً مقاصديةً -وهو يبين أحكام النكاح في سورة النساء- فقال: {بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ} [النساء: 25]، وهذه الجملة المباركة تدل على عدة مفاهيم، منها:
المفهوم الأول: الإيمان جعلكم أمة واحدة، كما قال تعالى: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [التوبة: 71] وَقَوْلُهُ: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات: 13].
وقد فَصَّلَ الله هذا البعد الاستراتيجي الأخطر في الواقع العملي -وهو يبين لنا موازين التحالفات العالمية- بقوله: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ} [الأنفال: 73].
وهنا نذكر كيف اعتزَّ هنري كيسنجر بقدرة (الولايات المتحدة الأمريكية) الفائقة في هزيمة (أعدائها؟)، وجلبهم بعد الهزيمة ليتحاكموا إلى مؤسساتٍ من صنعها، مشيرًا إلى عقلية قومه الفريدة ضمن حوارٍ دار بينه وبين رئيسه هاري ترومان سأله فيه: عن أهم الإنجازات التي يفتخر بها.
إنه يعبر عن عبقرية الولايات المتحدة التي صنعت باتحادها الحقيقي العادل نسبيًا عظمة القيادة للعالم. فمتى سيكون عند الأمة التي تدعو بأن تُهدى صراط المنعم عليهم هذه القوة الفذة؟
المفهوم الثاني: المجتمع المسلم قائم على هويةٍ واحدةٍ واضحةٍ هي الهوية الإيمانية، وكل فردٍ فيه جزء من الآخر، فهو بعض من الآخر، وهذه البعضية في بناء الحس الجماعي تدل على شدة اهتمام النظام الإسلامي ببناء الوحدة الإسلامية لدرجة وضع هذا التشبيه.
كيف ترى -بعد ذلك- في واقع الأمة؟ بدلًا من الانصياع إلى الوصف الشرعي لتقسيم الناس إلى غلاة وجفاة، وبينهما أصحاب الصراط المستقيم (السوي) ننجر وراء التقسيمات التي ترسمها مؤسسات المغضوب عليهم والضالين. وها هنا يغرس الشيطان رايته، ويلعب بالمسلمين كأن لم يشعروا قطُّ بمعنى الحس الجماعي لبعضهم.
ومن الملحوظات التربوية التي نلمحها ضمن هدايات أفعال الحس الجماعي في الفاتحة (نعبد، نستعين، اهدنا) أن انحراف بعض المسلمين عما تبنيه الآية من الحس الجماعي يبلغ أشده عندما يقوم أحدهم بالكلام عن نفسه بصيغة الجماعة لا كما تبني الآية، بل بعكسها فيتحدث عن نفسه تعظيمًا لها فيقول: فعلنا، واخترنا، وكتبنا… اللهم ألهمنا رشدنا، وقنا شرورَ أنفسنا.. يا أرحم الراحمين.