أسلوب الصياغة للألفاظ والـمعاني القرآنية (سورة النِّساء أنموذجًا)
30 يناير، 2022
607
القرآن الكريم له أسلوبه الفريد الذي يسحر الألباب، ويسبي العقول، ويثمر القبول والإذعان في تشريع الأحكام التي تُصْلِح الحياة لبني الإنسان، وإذا رأيت سورة النساء وأنت تظن أنها في مقام التشريع لا الوعظ والترغيب والتقريع، ربما أدى بك ذلك إلى عدم دراسة أسلوبها المميز الذي يثري الفهم، ويشوقك إلى العلم، ولكن المتبصر لهذه السورة، المتدبر لمعناها ولفظها يجد لأسلوبها معالم جمة منها:
أولًا: يبهرك أسلوب السورة، فتحبه وتنجذب إليه عددَ الرمل والحصى والتراب؛ فقد أتبع سببًا جديدًا ضمن الأساليب القرآنية الـمميزة، فلا تجد له شبيهًا في السور القرآنية الثلاث السابقة حسب الترتيب المصحفي.
يسبي الشعاعُ المنيرُ لأسلوب السورة عينيك عندما ترى الكلمات في السورة تجمع بين التشريع التقنيني، والموعظة المؤثرة، والجوامع الدستورية، والحنان التربوي، ويحيط بذلك الصياغة الحقوقية القانونية الدستورية باتخاذها صورة أوامر ونواهٍ صارمة، مع إلباسها الجانب الوعظي الإيماني الـمشرق، وإخراج الأمرين في قالبٍ وصورةٍ لغوية بيانية ذات جمالٍ أخَّاذ، وحروفٍ جاذبة آسرة، فجمع هذا الأسلوب بين الـمنهج العاطفي الرقابي ليعتاد الناس على محاسبة أنفسهم في مراعاة هذه الحقوق، والصياغة القانونية الدستورية، فكان لا بد مع التشريع القانوني من المخاطبة العاطفية التي تربي الضمير، وتبني في الأنفس العقل المستنير، ويظهر ذلك في محفزات كثيرة مثل الكلام عن مراقبة الله -عز وجل-، والتذكير بالمآلات المستقبلية من الجنة والنار، والإخبار عن الثواب والعقاب في الدنيا والآخرة.
ترى البيان القرآني الـمهيمن في سورة النساء آسرًا بصورة فائقة؛ إذ تجد الصياغة القانونية المحكمة، لكنها لا تنفك البتة عن الإيقاع الصوتي الـمميز البديع، ولا تخلو من التناسق ذي النغم المريح المثير في الوقت ذاته، بل تنفرد بالكلمات المتتابعة ذات الأصوات المتناسقة المستلذة، وأنت تسير تسمع آياتها تجد نفسك منجذبًا بصورةٍ لا إرادية لحرف فواصلها في آخر رؤوس الآيات، فحرف الفاصلة في رؤوس آي سورة النساء هو الألف التي عَوَّضت عن تنوين الفتح: رقيبًا عليمًا حكيمًا، ولم يسبق لها مثيلٌ في السور الثلاث السابقة حسب الترتيب المصحفي، فهذا أسلوبٌ جديدٌ جَذَّابٌ له رنينه، وأثره في جذب الاهتمام، ولأن الكلمات ذات انسجام يتنزه عن الشعر ويتعالى عن معتاد النثر تشعر بشعورٍ مختلف مع أن الكلام لا يخرج عن حروف العربية..
إنه شعورٌ لا يوصف من التأثر الـمدهش، يجتمعُ فيه مع التناغم الصوتي اللفظي التآلفُ التشريعي المعجز المصاحب بالحنان الخلاب الذي يسبغه الله -عز وجل- على البشرية في القضايا الأسرية، والاجتماعية، والأمنية، والفكرية، والتركيز على الرحمة الإلهية، والرعاية الربانية لتكوين حياة إنسانية مترابطة، ذات وشائج تمتلئ بالخير والمحبة والصدق، وتبتعد عن الأنانية والشح والبخل والحسد والاعتداء، ولذا أبانت السورة أهمية الفروع الأسرية الـممتدة إلى الإخوة والأخوات بعد أن بيّن الله -عز وجل- حقوق الأصول والفروع، كما تجد التناسق بين الآيات والتتابع في الأفكار، مع وجود قناطر وجسور تصغر وتكبر لتعبر بك من الموضوع السابق إلى الموضوع اللاحق.
ويأتي الختام المناسب في هذه السورة بالكلام عما أراده الله -عز وجل- لنا بهذه التفصيلات الدقيقة.. إنه يريد أن يجنِّب البشرية الوقوع في فخ التجارب الضالة، التي تجلب الدمار والخراب: {يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [النساء: 176].
ثانيًا: تداخل ذكر الحقوق القانونية للفئات الإنسانية المختلفة من اليتامى والنساء والمستضعفين من الرجال، والمظلومين في القضاء لعدة مقاصد منها: بيان وحدة النظر إليها جميعًا وعدم اتخاذها عضين بأخذ بعضها وترك بعضها حسب الهوى والاشتهاء، ففي التشريعات القرآنية ترى كل جهةٍ تنادي بمراعاة حقوق الأخرى، ولذا يذكر الله -عز وجل- حقوق اليتامى ليدخل معها حقوق الأسرة المسلمة، ثم يُدخِل حقوقَ الوارثين، ويعود بعدها لذكر حقوق الأسرة المسلمة من جهاتٍ أخرى، ويأتي بعدها بذكر حقوق المجتمع، وحقوق الأمانات بين الرعايا والحكام، وحقوق حماية المجتمع وخصوصًا حماية المستضعفين من همجية المعتدين، وحقوق المظلومين في المجتمع وفي الجهات القضائية ليعود من جديد لذكر حقوق الأسرة من جهات أخرى.
أسلوب ناسب مقاصد السورة ومحاورها، وجمالها وجلالها، تنوع موضوعاتها التي تخدم عمودها، فأي دساتير العالم وأي كتبه وأي رواياته وأدبه قد اقترب حتى من هذا الأسلوب الذي سكب المعاني العظيمة في الألفاظ العميقة والرشيقة والرائقة الكريمة، ولذلك فالقرآن يجمع بين الإشباع العاطفي والإقناع العقلي، بين ملامسة الوجدان ومخاطبة عقل الإنسان.